للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

... ... ... ... السكروتة والحرير
(س١٥) من صاحب الإمضاء الرمزي بدمياط.
صاحب الفضيلة حضرة الأستاذ المرشد والإمام المصلح السيد محمد رشيد
رضا سدده الله ووفقه.
ما قولكم يا فضيلة الأستاذ في هذه الثياب المعروفة التي تسمى بالسكروته،
وما حكم لبسها مع اختلاف الناس فيها أهي حرير أم من نبات؟ فبعضهم يقول: إنها
من حرير الدودة المحرم. وبعضهم يقول: إنها ألياف نباتية تنبت بأرض الهند كالتيل
والكتان. واختلف الناس في شأنه كثيرًا، وقد أصبح الناس يلبسونها كثيرًا
وخصوصًا علماء الدين فلا تجد واحدًا منهم إلا وهو يقتني منها ثوبًا أو أثوابًا؛ بل
ربما يديم لبسها طول الصيف ويفتي الناس بحلها بناء على أنها نباتية، ويقول ذلك
ويقرره بجراءة غريبة، وقد وقع الناس الآن في شأنها كثيرًا في بلدة دمياط،
واهتموا بهذا الموضوع اهتمامًا ذا بال، فنرجو فضيلتكم إجابتنا بما ترونه في ذلك
منطبقًا على دين الله، وما تعلمونه عن حقيقة مادة السكروته هذه، مع ذكر مسألة
الحرير وتحريمه في الدين وحكمة التحريم، ورأيكم الخاص في ذلك. فإن الخلاف
فيه قديم بين الجمهور وقليل من السلف. واقبلوا مزيد الاحترام.
... ... ... ... ... ... ... ... (م. ل)
(ج) : من اعتقد من الرجال أن النسيج المسمى بالسكروته حرير حرم عليه
لبسه، ومن لم يعتقد ذلك لم يحرم عليه. والمتبادر من التسمية أن السكروته غير
الحرير.
وقد سألت تاجرًا مسلمًا سوريًّا يَتَّجِر بهذا الصنف في (شنغاي) من مواني
الصين فقال: إن الذي يعلمه هو أن السكروته من نسج دود غير الحرير، أي فلهذا
وضع لها اسم غير الحرير. وتفارق الحرير في أخص صفاته وهي النعومة. ولا
يمكن أن يقال: إن جميع ما تنسجه الحشرات حرير. فقد كان نسج العنكبوت معروفًا
عند العرب ولم يسمه أحد حريرًا. وبلغنا أن الإفرنج يتخذون منه قفافيز وغيرها.
والحكمة في تحريم السنة لبس الحرير الخالص على الرجال هو كونه مبالغة
في الترف والنعيم المضعفين للرجولية، والمفسدين لبأس الأمة. وكان ولا يزال
عند أكثر الأمم من خصائص النساء. ولمثل هذه العلة ورد النهي في السنة عن
لبس المعصفر والمزعفر؛ إذ كان من زينة النساء خاصة. فما نعلم من حكمة
تحريم الحرير لا يوجد في السكروته. نعم؛ إن الرقيق من السكروته
إذا كوي بالمكواة يكون له لمعان كالحرير، ولكثير من نسيج القطن
والكتان مثل ذلك. فالظاهر لنا أن لبس السكروته غير محرم. والله أعلم وأحكم.
***
تكرار الفدية بتأخير قضاء الصيام
(س١٦) من نوح ابن الحاج عبد القادر القاهري السندي
ما قولكم أيها العلماء الأعلام وأئمة الإسلام في قول المنهاج في كتاب الصيام:
" والأصح تكرره بتكرر السنين " ما المراد بتكرر السنين؟ هل هو تأخير قضاء
رمضانيين أو أكثر إلى رمضان آخر؟ أم تأخير قضاء رمضان الواحد إلى
رمضانيين فصاعدا؟ فإن قلتم بالثاني فما المراد بقول الشرقاوي في حاشيته على
شرح التحرير: قوله (إلى رمضان آخر) بالتنوين مصروفًا لأنه نكرة إذ المراد به
غير معين، بدليل وصفه بالنكرة وهي (آخر) وزالت منه إحدى العلتين وهي
العلمية. وبقاء الألف والنون الزائدتين لا يقتضي منعه من الصرف. اهـ
وما المراد بقول السيد الفاضل المصطفى الذهبي في تقريبها على هامش تلك
الحاشية: قوله: رمضان آخر هو مصروف لأنه غير معين، انظر ما الفرق بينه
والأول؟ وغاية ما يقال: الأول مقصود منه الشهر الذي يستقبله المدرك بعينه،
بخلاف الثاني فإنه يتناول ما بعده لا إلى نهاية، فتكرر الكفَّارة بكل رمضان يأتي
بعد الأول فهل يكفي هذا في منع الصرف حرره. اهـ.
وما المراد بقول السيد علوي ابن السيد أحمد سقاف في حاشيته على فتح
المعين: قوله: (لكل سنة) أي لصوم كل يوم من رمضان كالسنة، وبه قال
مالك وأحمد. اهـ.
وقد قال العلامة الدسوقي المالكي في حاشيته على شرح المختصر ما نصه:
فإذا كان عليه يومان من رمضان ومعنى عليه ثلاث رمضانات أو أكثر فإنه إنما يلزمه
مدان. أفيدونا بالمسطور جزاكم الخير رب غفور.
(ج) مراد المنهاج: (والأصح تكرره بتكرر السنين) أن من أخر قضاء ما
فاته من رمضان واحد إلى رمضانيين فأكثر يطعم عن الرمضانيين مسكينين لكل
مسكين مُدّ وعن ثلاث رمضانات ثلاث مساكين وهَلُمَّ جَرَّا، ولا يمكن أن يكون
معناه: من أُخر قضاء يومين فأكثر من رمضانيين فأكثر إلى رمضان آخر لزمه عن
كل يوم مد؛ لأن هذا لغو من القول للاستغناء عنه بما قبله وهو قوله: (ومن أخر
قضاء رمضان مع إمكانه حتى دخل رمضان آخر لزمه مع القضاء لكل يوم مد)
ولأنه لا خلاف فيه حينئذ فلا يكون لوصفه بالأصح معنى؛ إذ مقابل الأصح -
وهو الصحيح - أنه لا يتكرر. فهل يمكن أن يكون المراد بعدم التكرر على
الصحيح أن من أخر قضاء يومين من رمضانيين إلى رمضان آخر لا تجب عليه
فديتان؟ لا لا. وإذا تبين الحق فمن إضاعة الوقت البحث في كلام من لم يعرفه
والاهتمام بفهم المراد منه. على أن بحث الشرقاوي والذهبي في العلة النحوية
لصرف رمضان لا ينافي هذا، ولا حاجة إلى العناية والبحث فيما جاء به السقاف،
ولا الرجوع إلى عبارة الدسوقي المالكي فإنه ليس تفسيرًا لعبارة المنهاج ولا
يتفق مع مذهب الشافعي. فالمعنى واضح والمذهب معروف.
***
التقليد والمذاهب وجمع المسلمين على الكتاب والسنة
(س ١٧) من صاحب الإمضاء المصري في (السودان)
بسم الله الرحمن الرحيم
فضيلة الأستاذ منار الدين الحق السيد محمد رشيد رضا أدامه الله حاميًا
لدينه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
سيدي؛ أرفع سؤالي هذا ولي عظيم الأمل في أني سأحصل على الجواب
الشافي الذي يريح ضميري وأغلب المسلمين. نرى اختلافًا كثيرًا بين الأئمة
المجتهدين - رضوان الله عليهم - في مسائل عديدة، إلا أنَّا نعتقد فيهم مثابون
ومصيبون في ذلك، لما نعلم من أعذارهم في مثل هذا، كبلوغ أحدهم الدليل
وعدم بلوغه للآخر أو بلوغه وعدم صحته. فهم مثابون ومصيبون من حيث
تحريهم الحق، لا من حيث إصابتهم لحقيقة الحكم؛ إذ يستحيل أن يكونوا كلهم
مصيبين مع هذا الاختلاف، وإلا فيكون هذا حكمًا صريحًا، على أن في الشرع
تناقضًا، وحاشاه من ذلك. إذا علمنا أن هذا هو سبب اختلافهم وأقوالهم بين
أيدينا فلماذا نختلف نحن أيضًا ويتبع كل فريق منا مذهبًا؟ وهل يتعين على
المسلمين في هذه الحالة أن يستخلصوا الأدلة الصحيحة الثابتة ويتركوا ما عداها
وقد علموا عذر الأئمة في ذلك؟ وإلا فإن المقلد لا يسلم من أن يكون متبعًا إمامه
فيما أخطأ فيه أو على الأقل فيما كان منسوخًا أو مرجوحًا. وهل يصح أن يلتمس
له عذرًا من قلده مع خلوه عنه؟ وهل الخطاب بالكتاب والسنة عام لكل الناس أو
مختص بالأئمة الأربعة فقط؟ وإذا كان الخطاب عامًّا فما عذر من عدل عنهما إلى
سواهما؟ وإن قيل إن الاستدلال بالكتاب والسنة لا يتأتى إلا للعلماء - وهم الأقلون -
فهل يتحتم على هؤلاء العلماء إرشاد العامة إلى السبيل القيم مبينة لهم الأدلة من
كتاب الله وسنة رسوله تاركين هذه الاختلافات القديمة التي لا تخلو من ضر وقد
أصبح ذلك ميسورًا؟
رجائي الإجابة على هذه على صفحات مناركم الأعز، مبينين السبيل الحق
في ذلك، أثابكم الله وأداكم نورًا يستضاء به، تفضلوا بقبول احتراماتي.
محسوبكم سليمان حلمي
(ج) قد سبق للمنار بيان هذه المسائل كلها مرارًا، وأول ما كتبناه فيها
(محاورات المصلح والمقلد) التي نشرت في المجلدين الثالث والرابع، ثم جمعت في
كتاب على حدتها. ثم وقفنا على مناظرة في بحث الاجتهاد والتقليد للمحقق ابن القيم
نشرناها في المجلدين السادس والسابع. وتكرر ذلك في التفسير والفتاوى، ومما
ورد في باب الفتوى أجوبة المسائل الباريسية التي سئل عنها أحمد باشا زكي في
باريس فأرسلها إلينا. وقد طبعت في ذيل كتاب محاورات المصلح والمقلد. فإذا لم
يتيسر للسائل مراجعة هذه المسائل في مواضعها المتفرقة من مجلدات المنار فليكتف
بقراءة كتاب محاورات المصلح والمقلد وذيله، ثم إذا بقي عنده أو تجدد لديه بعض
الأسئلة في ذلك فليسأل عنها. ونزيده هنا فائدة ينبغي أن يفكر فيها بعد أن يقرأ في
أواخر ذلك الكتاب ما قرره المصلح في مسألة وحدة الأمة. وهي أن هذه الوحدة
الدينية قد توجهت إليها نفوس عقلاء المسلمين من جميع المذاهب في جميع الأقطار،
وأنه لا يرجى حصولها في وقت قريب إلا إذا أيد الإصلاح الديني دولة أو إمارة
إسلامية. على أن الأمة لا بد أن تنبذ كل خلاف، وتصير إلى الوحدة ولو بعد جيل
أو أجيال.
* * *
الخلاعة في التمثيل
(س١٨) من صاحب الإمضاء في بيروت
سلام على إمامنا السيد الرشيد أيده الله.
وبعد فلا يخفى أن مولانا السيد كان أفتى في المنار مَن استفتاه من دمشق
في أمر التمثيل الروائي بأنه جائز إذا لم يكن فيه خلاعة. ونظر الأستاذ ذلك
الجواز بكتب الأدب واللغة التي هي روايات خيالية وعلمية لا عملية كالمقامات.
ولما كان الداعي مختلفًا هو وبعض العلماء في تلك الخلاعة اتفقنا على أن أستفتي
سيادة الأستاذ في بيان وجهها.
فسر الداعي تلك الخلاعة بما يتخيله الفساق ويحصل في المراقص لا في
الروايات التي يمثل فيها النساء مع الرجال، وهي روايات أدب وعلم وصدق
وعدل. وفسر ذلك البعض الخلاعة بحال تلك النساء الممثلات. فإنهن يكن
كاشفات الرأس والوجه واليدين حتى ما فوق المرفقين وأعلى الصدر. مع
المعانقة الجزئية بين العاشق والمعشوقة وتقبيل جبهتها حسب ما يقتضي التمثيل.
ويكن أيضًا لابسات أفخر الثياب مع زينة الحلي. فذكرت لهذا المفسر أن هذه
الحال لا تكون إلا لمجرد التمثيل كي تظهر نتيجتها من حيث التوفيق بين العاشقين
أو الحكم عليهما حسب مقتضى أمرهما كما هو من فوائد التمثيل التي تحدث عظة
أو خلقًا في نفس الرائي.
ثم إنني ذكرت لذلك العالم أنه يسوغ أن يقاس ما فسرت أنا على الحديث
الصحيح الذي فيه أن عائشة رضي الله عنها كانت تنظر مع النبي صلى الله عليه
وسلم إلى الرجال وهم يلعبون. فلما أورد هذا الحديث على الإمام الشافعي رضي
الله تعالى عنه وهو يحرم نظر الأجنبية إلى الأجنبي، أجاب أن نظرها إنما هو
اللعب نفسه ولم يكن مقصودًا به النظر المجرد إلى الرجال. فقال لي ذلك العالم: إن
ذلك كان في زمن غير زمننا المعروفة أحواله. فأجبته بأن تخيل الفسق يكون
إثمه على من يتخيله. فهذا خلافنا رفعته إلى مولاي الأجلّ كي يحكم بيننا بالحق.
فالمرجو الجواب في الجزء الآتي من المنار أعز الله به الإسلام وناصريه والحمد
لله أولاً وآخرًا.
بيروت: الأربعاء ٢٤ رجب سنة ١٣٣٢
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الداعي
راغب القباني
(ج) إن الخلاعة التي ينبغي أن تكون مانعة من رؤية تمثيل القصص هي
ما كان ذريعة للفسق وفساد الأخلاق. فإنه ليس لأحد أن يحرم شيئًا غير ما حرم الله
ورسوله بالنص أو اقتضاء النص وهو سد الذرائع. فمن يخاف أن يغريه هذا
التمثيل في بعض القصص بفعل محرم وجب عليه اجتنابه. ومن لا يخاف على
نفسه ذلك تباح له رؤيته. وإذا غلب فيه كونه ذريعة لمحرم يصح إطلاق القول
بتحريمه. ولم يثبت هذا؛ بل المعروف أن من يحضرون هذا العمل يكون جل
همهم مراقبة الأعمال كرؤية عائشة للعب الحبش، وأن يعرفوا الوقائع وعاقبتها
ومآلها. وقلما سمعنا أن أحدًا منهم يحفل بغير ذلك. فإن وجد من افتتن في بعض
البلاد بامرأة ممثلة فلا يصح أن يجعل نفس التمثيل ذريعة لذلك على الإطلاق؛ إذ
ثبت في كل زمن أن بعض الناس يفتنون ببعض الحسان في الطرق أو المعابد. أما
النساء اللاتي يمثلن في بعض القصص مكشوفات الرؤوس والسواعد فلسن - كما يعهد
في هذه الأقطار - بمسلمات ولا يكلفن من فروع الشريعة ما تكلفه المسلمات. وقد
جرى عرف أهل ملتهن على إسقاط حرمة الستر فلا يعدونه فضيلة؛ بل نقصًا.
وهن يمشين في الأسواق والشوارع حاسرات كما يكن في معاهد التمثيل. ولا فرق
بين رؤيتهن في الأسواق ورؤيتهن في تلك المعاهد ولا بين الاختلاف إلى الأسواق
وهن فيها والاختلاف إلى تلك المعاهد وهن فيها، والعبرة في ضرر ما يمثل
من حيث الخلاعة والتهتك وغيره بموضوع القصة. فإذا كان موضوعها أعمالاً
منكرة بحيث يكون تأثيرها سيئًا ضارًّا، فلا وجه للتردد في حظر ما كان كذلك
ومنعه إن أمكن وإلا فالامتناع من رؤيته، وأما ما كان موضوعه حسنًا مرغبًا في
الفضيلة، منفرًا عن الرذيلة، أو مبينًا لعواقب ظلم الحكام، واستبدادهم في الأحكام،
ومرشدًا للأمة إلى إزالة الظلم، وأطر الظالمين على الحق، ومجزئًا لها على
مقاومة العدوان والبغي - فهو الذي يعده الحكماء من مربيات الأمم، ومهذبات
الأخلاق، وينظمونه في سلك أساليب التربية العملية.