للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد الخضر بن الحسين


أطوار اللغة العربية [*]

لم يأت الباحثون عن مبدأ اللغة في أدلتهم بما تطمئن إليه النفوس ويحل منها
محل القطع أو الظن القريب منه، على أن اختلافهم في تعيين الواضع هل هو الله
تعالى أو البشر مما لا تترتب عليه فائدة في العمل تقتضي العناية بترجيح أحد
المذهبين، ومِن ثَمّ صحح المحققون أن إدخال هذه المسألة في علم الأصول من
الفضول، وزعم بعضهم أن قلب الألفاظ التي يؤدي تغييرها إلى فساد في أحكام
الشريعة كتسمية الثوب فرسًا والفرس ثوبًا يرجع حكمه إلى أصل ذلك الخلاف
فيمتنع القلب على القول بأن اللغة كلها وقعت بتعليم مِن الله ويجوز على القول بأنها
وضعت باصطلاح البشر وليس هذا البناء بمستقيم فإن مجرد إسناد الوضع إلى الله
تعالى، وإن ثبت بالحجة القاطعة لا يقتضي الوقوف عند حد ما ورد منه والإمساك
عن تغييره باصطلاح جديد.
وأقصى ما ثبت في التأريخ أن هذه اللغة كانت في قبائل مِن ولد سام بن نوح
عليه السلام وهم: عاد وثمود وجرهم الأولى ووبار وغيرها وقد انقرضت أجيال
هؤلاء إلا بقايا متفرقين في القبائل، ولا يصح شيء مما يُروى عنهم من الشعر،
وقد أنكر العارفون على مَن كتب في السيرة أشعارا كثيرة ونسبها إلى عاد وثمود، ثم
انتقلت إلى بني قحطان وكانوا يتكلمون باللسان الكلداني لسان أهل العراق الأصليين
وأول مَن انعدل لسانه إلى العربية (يعرب بن قحطان) وبعد أن نشأت منها الحميرية
لغة أهل اليمن انتقلت إلى أولاد إسماعيل عليه السلام بالحجاز، ولم تكن لغة
إسماعيل عربية بل كان عِبرانيا على لسان أبيه إبراهيم عليه السلام، ثم انخرط في
شعوب العرب بمجاورتهم ومصاهرته لجرهم الثانية حين نزل بمكة فنطق بلسانهم
وورثه عنه أولاده؛ فأخذوا يصوغون الكلام بعضه مِن بعض ويضعون الأسماء
بحسب ما يحدث مِن المعاني إلى أن ظهرت اللغة في كامل حسنها وبيانها وصار لها
شأن عظيم وتأثير بليغ.
ويدلك على عنايتهم بأمر الفصاحة ما وصل إلينا من نتائج أفكارهم وبدائع
خُطَبِهم وقصائدهم في سوق عُكَاظ وسوق مُجنة؛ إذ يَفِدون عليها في موسم الحج
ويقيمون في عكاظ ثلاثين يومًا وفي مجنة سبعة أيام يتناشدون ما وضعوه في الشعر
ويتفاخرون بجودة صناعة الكلام وعند احتفالهم يضربون قبة للشاعر العظيم في وقته
كالنابغة الذبياني ويعرضون عليه منتخبات أشعارهم، وكان بعضهم يهدد بعضا بنظم
الهجاء وتسييره في ذينك الموضعين قال: أمية بن خلف يهدد حسان رضي الله عنه.
ألا مَن مبلغ حسان عني ... مغلغة تدب إلى عكاظ
وقال حسان في جوابه:
أتاني عن أمية زُورَ قول ... وما هو في المغيب بذي حِفاظ
سأنشر إن بَقِيتُ له كلامًا ... يُنشر في المَجنة مع عُكاظ
ومِن شواهد هذا أن الحارث بن حِلزة اليشكري كان شاعرًا حكيمًا ولكنه ابْتُلِيَ
بوضح (بَرَص) ومن أجله كان عمرو بن هند ملك الحيرة يكره النظر إليه ويأبى
أن يستمع إلى خطابه إلا مِن وراء ستار، فدخل عليه يومًا وأنشد بين يديه قصيدته
المعدودة في المعلقات:
آذَنَتْنا بِبَيْنِهَا أسماء ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّواء
وتعرض فيها إلى شيء من الصلح بين بكر وتغلب فبهرت عمرًا برائع نظمها
واستولت على لبه بسحر بيانها فأخذته هِزة وارتياح ولم يتمالك أن أمر برفع الستار
ما بينهما.
واقتضت عناية العرب لذلك العهد بالإبداع في القول والتنافس في مقام
الفصاحة أن ظهرت معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم في بلاغة ما أُنزل عليه
من القرآن، كما جاء عيسى عليه السلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن
الله لمّا أُرْسِل إلى قومٍ توفرت عندهم العناية بعلم الطب، وكما بُعث موسى عليه
السلام إلى أمة انتهى السحر فيها إلى غاية فأتاهم في مقام المعجزة بأبدع ما يكون في
قلب الأعيان وإراءتها في غير صورتها الأولى.
ثم ارتقت اللغة في صدر الإسلام إلى طورها الأعلى ودخلت في أهم دور يحق
علينا أن نسميه عصر شبابها فنمت عروقها وأثمرت غصونها بألوان مختلفة من
الأساليب.
ومِن مآثر هذه الحياة الراقية أَنْ كان كلام الناشئين في الإسلام من العرب أحلى
نسقًا وأصفى ديباجة من كلام الجاهلية في شعرهم وخطبهم ومحاوراتهم.
والأسباب التي ارتقت بها اللغة حتي بلغت أشدها وأخذت زخرفها أمور ثلاثة:
أحدها: ما جاء به القرآن الحكيم من صورة النظم البديع والتصرف في لسان
العرب على وجه يملك العقول؛ فإنه جرى في أسلوبه على منهاج يخالف الأساليب
المعتادة للفصحاء قاطبة - وإن لم يخرج عما تقتضيه قوانين اللغة - واتفق كبراؤهم
على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه اللائق به وإنْ تفاضل الناس
في الإحساس بلطف بيانه تفاضلهم بسلامة الذوق وجودة القريحة.
ومن النحاة من يحكم على بعض استعمالات يَردُ عليها القرآن بعدم القياس
عليها كما قصروا حذف حرف المصدر ورفع المضارع بعده على السماع بعد أن
أوردوا في مثاله قوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ البَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} (الروم:
٢٤) الآية، ولا أدري كيف يتفق لهم هذا مع علمهم بأنه صاحب البلاغة التي ليس
وراءها مطلع، وإنَّا لنعلم قولهم في أصول العربية أنَّ ما قل في السماع إنْ كان مقبولاً
في القياس صح القياس عليه، وإن وُجِدَ ما يعارضه في القياس يُوقَفُ على السماع
فنسلم لهم إجراء هذه القاعدة في كلام العرب لاحتمال أن تزيغ ألسنتهم عن القصد
فيحرفون الكلمة عن أصل استعمالها غلطًا، ولا نسلم لهم تحكيمها في كتاب الله الذي
أخرس بفصاحته لسان كل منطيق.
ثانيها: ما تفجر في أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم من ينابيع الفصاحة
وما جاء في حديثه من الرقة والمتانة والإبانة عن الغرض بدون تكلف، رُوي أن أبا
بكر الصديق رضي الله عنه قال: لقد طُفْتُ في أحياء العرب فما رأيت أحدًا أفصح
منك يا رسول الله، قال (وما يمنعني وأنا قرشي وأرضعت في بني سعد وبنو سعد
أفصح قبيلة في العرب بعد قريش) .
وإنما أغضى علماء اللسان النظر عن الاستشهاد بالحديث لأن رواته لم يَجْمعوا
عنايتهم على ضبط ألفاظه كما كانوا يتثبتون في نقله على المعنى، ولو تحقق أهل
العربية من رواية حديث بلفظه كالأحاديث المنقولة للاستشهاد على فصاحته صلى الله
عليه وسلم لاستندوا إليه في وضع أحكامها يقينًا.
ثالثها: ما أفاضه الإسلام على عقولهم بواسطة القرآن والحديث من العلوم
السامية وبما نتج عن تعارف الشعوب والقبائل والتئام بعضها ببعض من الأفكار
ومطارحة الآراء، ومعلوم أن اتساع العقول وامتلائها بالمعار مما يُرَقَّي مداركها
ويزيد في تهذيب ألمعيتها فتقذف بالمعاني المبتكرة وتبرزها في أساليب مستحدثة
فإن، كثرة المعاني ودقتها تبعث على التفنن في العبارة والتأنق في سياقها ويُوَضِّح لكم
هذا أن الناشئين في الحواضر نجدهم في الغالب أوسع غاية في اجتلاب المعاني الفائقة
وأهدى إلى العبارات الحسنة مِمَن يعادلهم في جودة القريحة وفصاحة المنطق بفطرته
لاشتمال المدن على معانٍ شتى ينتزع الذهن منها هيئات غريبة لا طريق لتصورها إلا
المشاهدة.
ولما فارقت العرب الحجاز لإبلاغ دعوة الإسلام وبث تعاليمه بين الأمم
اقتضت مخالطتهم لِمَن يُحسن لغتهم ضعف ملكاتها على ألسنتهم ودخول التغيير عليها
في مبانيها وأساليبها وحركات إعرابها وابتدأ التحريف يسري إلى اللغة في عهد
الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأشار على أبي الأسود الدؤلي
بوضع علم النحو ولم يزل أئمة العربية يحوطونها باستنباط القواعد حتى ضربوا
عليها بسياج يقيها عادية الفساد، ويحول بينها وبين غوائل الضياع والاضمحلال
وحين انتشرت المخالطة وتفشى داء اللحن أمسك العلماء عن الاستشهاد بكلام
معاصريهم من العرب ويعدون أول المحدثين الذين لا يستشهد بأقوالهم بشار بن
برد المتوفى سنة ١٦٧ واحتج سيبويه بشيء مِن شعر بشار بدون اعتماد عليه وإنما
أراد مصانعته وكف أذايته حيث هجاه لتركه الاحتجاج بشعره كما استشهد أبو علي
الفارسي في كتاب (الإيضاح) بقول أبي تمام:
مَن كان مُرعى عزمه وهمومه ... روض الأماني لم يزل مهزولا
وليس مِن عادتهم الاستشهاد بشعر أبي تمام لأن عَضُد الدولة كان يُعجب بهذا
البيت وينشده كثيرًا.
واستشهد صاحب الكشَّاف عند قوله تعالى: {وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} (البقرة: ٢٠) ببيت من شعر أبي تمام، وقال وهو وإن كان محدثًا لا يُستشهد بشعره
في اللغة فهو مِن علماء العربية فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه، فيؤخذ من
صريحه أنه يرى صحة الاحتجاج بكلام المحدث إذا كان من أئمة اللغة وليس مذهبه
هذا بسديد وقياس ما يقوله أبو تمام على ما يرويه غير صحيح فإن التكلم بالعربية
الصحيحة لعهد أبي تمام ناشيء عن ملكة تُستفاد مَن تعلم صناعتها ومدارسة قوانينها
فعلى فرض أن لا تفوته معرفة بعضها قد يذهل عن ملاحظة تلك القوانين فلا يأمن
أن يَزِلَّ به لسانه في خطأ مبين، وأبو تمام نفسه صدرت عنه أبيات كثيرة خرج فيها
عن مقاييس العربية قال ابن الأثير لم أجد أحدًا من الشعراء المُفْلَقين سَلِمَ مِن الغلط
فإما أن يكون لَحِنَ لَحْنًا يدل على جهله بمواقع الإعراب، وإما أن يكون أخطأ في
تصريف الكلمة ولا أعني بالشعراء مَن تقدم زمانه كالمتنبي ومَن كان قبله كالبحتري
ومَن تقدمه كأبي تمام ومَن سبقه كأبي نُوْاس.
أما العربي القَح فإنه يطلق العبارة بدون كُلفة في اختيار ألفاظها أو ترتيب
وضعها فتقع صحيحة في مبانيها مستقيمة في إعرابها، ولا يكاد يَلْحِن في إعراب
كلمة أو يُزيلها عن موضعها إذا ترك لسانه وسجيته ومن ثم كان قَرضُ الشعر
كالخطابة على الارتجال والبديهة شائعًا عند العرب نادرًا في عصر المولدين، ولا
يعترض هذا بأن كثيرًا من العرب يطيل المدة في عمل القصيدة كما فعل زهير في
حولياته لأنه يستوفيها في أمد قريب ويتمها على شرط الصحة ولكنه لا يخرجها
للناس إذا فرغ من عملها إلا بعد التروي وإعادة النظر في تقويم معانيها وحسن النسق
في بنائها وإحكام قوافيها لا ليخلصها من اللحن ويطبق عليها أصول العربية كما هو
شأن المُحْدَثِينَ.
ثم نشأ بهذا التحريف الذي طرأ على اللغة مرض آخر انجر إليها بسبب من
أسباب حسنها هو أن مسلم بن الوليد وأبا تمام أمعنا النظر في أشعار الفصحاء
وخطبهم وحسروا اللثام عن وجه بيانها فأبصروا فيها محاسن من فنون البديع
كالاستعارة والجناس والتورية فَشُغِفوا بها وثابروا على إيرادها في منظوماتهم توفيرًا
لحسنها واستزادة من التأنق فيها فكان الناس يقولون: إن أول مَن أفسد الشعر مسلم بن
الوليد وسمع أعرابي قصيدة أبي تمام التي يقول في طالعها:
طلل الجميع أراك غير حميد ...
فقال إن في هذه القصيدة أشياء أفهمها وأشياء لا أفهمها فإما أن يكون قائلها أشعر
من جميع الناس، وإما أن يكون جميع الناس أشعر منه، وما تعاصى فهمها على
الأعرابي إلا لكونه سمع شعرًا حُشِي بوجوه من البديع خرجت به عن الأسلوب
المألوف فثقل تأليفه وبَعُد عن الأفهام تناوله.
واتبع طريقهما كثير من الأدباء وربما انتهى بهم الإعجاب بمحاسن البديع إلى
مخالفة قانون العربية وتغيير بنية الكلمة من أجلها كقول بعضهم:
انظر إليَّ بعين مولى لم يزل ... يولي الندى وتلافِ قبل تلافي
فكأنه زاد في مصدر تلف ألِفًا يتم له الجناس مع قوله تلاف ولا نعرف في كتب
اللغة من ذكر التلاف مصدرًا لتلف وإنما يوردون في مصدره التلف بدون ألف.
ولم تقف سيئة الإكثار من البديع عند حد الشعر بل تعدى وباؤها إلى النثر
أيضًا فطفق كثير مِن الكُتَّاب يملأون رسائلهم بوجوه التحسين: الاستعارة والجناس
ونحوها، واجتهدوا أن لا يفوتهم الشعراء بواحد منها حتى إذا ما تلقيت صحيفة من
هذا القبيل وألقيت فيها نظرك ليطوف عليها بالمطالعة أدركته عند كل فقرة حبسة
والتَوَتْ أمامه طرق فهمها، وإن كانت معاني مفرداتها جلية فتحس به كيف ينتقل مِن
كلمة إلى أخرى بخطوات ضيقة كأنما حُمِل على قيد مِن حديد، وأكثر هؤلاء يهملون
النظر إلى جانب المعنى والمحافظة عن إقامته واستيفائه، وهذا ما بعث الشيخ عبد
القاهر الجرجاني حين قام ينادي بأبسط عبارة أن الألفاظ خدم للمعاني وأن المعاني
مالكة سياسة الألفاظ، وأقام الحجة في كتابيه دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة [١] على
أن مَزيَّة الفصاحة إنما استحقتها الألفاظ ووصفت بها من جهة معانيها وأزال كل
شبهة عرضت لِمَن اعتقد أنها مزية استحقها اللفظ بنفسه.
وأدرك غالب المحررين اليوم أن تتبع هذه الحسنات ومواصلة العمل بها في
نظم الكلام يُبدلها سيئات تشمئز منها قلوب الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بيانًا
فأقلعوا عن الإكثار منها لاسيما في خطابات الجمهور وزهدوا فيها إلا ما سمح به
الخاطر عفوا ورَمَتْه الطبيعة بدون كلفة ظاهرة.
وكانت اللغة من خلال الأَعْصُر الماضية تعلو وتضعف وتنتشر في أنحاء
المعمورة على حسب كرم الدولة وعناية رجالها بالفنون الأدبية فارتفع ذكرها حين
كان الأمير سيف الدولة يباحث أبا علي الفارسي في غوامض علم النحو وينقد شعر
أبي الطيب المتنبي بذوق لطيف ويجازيه وغيره من الشعراء بغير حساب.
وارتقي شأنها يوم قام القاضي منذر بن سعيد في مجلس الملك الناصر لدين الله
عند احتفاله برسول ملك الروم في قصر قرطبة وشرع يخطب من حيث وقف أبو
علي البغدادي وانقطع به القول فوصل منذر افتتاح أبي علي بكلام عجيب وأطال
النفس في خطبة مرتجلة فخرج الناس يتحدثون ببديهته المعجزة وارتواء لسانه من
اللغة الفصحى ولا مِرْيَة في أن كرم الدولة باعث على ارتقاء حال اللغة عند من
التفت إلى التأريخ وأقام الوزن بين الشعراء الناشئين في زمن أجواد العرب وملوك
آل جفنة وملوك لخم كزهير والنابغة وبين مَن تقدمهم مِن الشعراء.