للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

المرأة البرزة وخطابتها على الرجال مكشوفة الوجه
(س ٢٣) من حضرة صاحب الإمضاء في (مجالغكا - جاوة)
بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة مولاي قدوة العلماء الأستاذ المصلح الكبير السيد محمد رشيد رضا
صاحب مجلة المنار - نفعني الله والمسلمين بوجوده العزيز - آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد، فما دام قولكم في النساء المتبرزات كالخطبة أمام الرجال مكشوفة
الوجه، فإن جوزتم، فما مراد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ} (الأحزاب: ٢٨) الآية، وقوله تعالى:] وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ [
إلى {تُفْلِحُونَ} (النور: ٣١) أفتونا يا سيدي بيانًا شافيًا فلكم الشكر منا، ومن الله
الأجر والثواب. والسلام.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محبكم المخلص
... ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحليم
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... رئيس هيئة المركزية لشركة العلماء ... ... ...
(٢٣) المرأة البرزة تخطب الرجال سافرة:
(ج) قوله في السؤال المتبرزات غلط أو محرف أصله البرزات، فالتبرز
الخروج إلى البراز (بالفتح) وهو الفضاء الواسع، وغلب استعماله في قضاء
الحاجة، والبرزة (كضخمة) معناها المرأة البارزة المحاسن، وغلب استعماله عند
العرب والمولدين بما نقله أصحاب المعاجم عن رواة اللغة كقول صاحب لسان
العرب: قال ابن الأعرابي: قال الزبيري: البرزة من النساء التي ليست بالمتزايلة
التي تزايلك بوجهها تستره عنك وتنكب إلى الأرض، والمخرمقة التي لا تتكلم إن
كُلِّمت، وقيل: امرأة برزة متجالة تبرز للقوم يجلسون إليها ويتحدثون عنها، وفي
حديث أم معبد: وكانت امرأة برزة تختبئ بفناء قبتها، أبو عبيد: البرزة من النساء
الجليلة التي تظهر للناس ويجلس إليها القوم، وامرأة برزة موثوق برأيها وعفافها،
ويقال: امرأة برزة إذا كانت كهلة لا تحتجب احتجاب الشواب، وهي مع ذلك عفيفة
عاقلة تجلس إلى الناس وتحدثهم، من البروز وهو الظهور والخروج اهـ.
وأم معبد التي ذكرها هي الخزاعية الصحابية التي مر بها النبي صلى الله
عليه وسلم، وصاحبه الصدِّيق رضي الله عنه في حديث الهجرة في طريقهما من
مكة إلى المدينة ومعهما خادمهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهما عبد الله
بن أريقط - وكان مشركًا ثم أسلم - فسألوها عن لحم وتمر ليشتروا منها، فاعتذرت
بالقحط وتمنت لو كان عندها قراء تضيفهما به، وكان بجانب خيمتها شاة عجفاء لا
تستطيع الخروج إلى المرعى، فاستأذنها النبي صلى الله عليه وسلم بحلبها فقالت له:
احلبها إن وجدت فيها حلبًا، فمسح ضرعها، ودعا الله تعالى، وحلبها فدرت فسقى
أم معبد، ثم من معه، ثم شرب على سنته إذ قال: (ساقي القوم آخرهم شربًا) [١]
ثم حلب وأبقى عندها اللبن لتسقي منه أبا معبد عند عودته، وقصتها معروفة في
كتب الحديث والسير، واسمها (عاتكة بنت خالد الخزاعي) قيل: كانت مسلمة
قبل مرور النبي صلى الله عليه وسلم بها، وقيل: أسلمت بعد ذلك، وعاشت إلى
عام الرمادة في خلافة عمر رضي الله عنه.
فإن كان مراد السائل من النساء البرزات، فلا حرج في خطبتهن سافرات فقد
كان كثير من نساء الصحابة ومن بعدهم برزات يحضرن صلاة الجماعة ومجالس
العلم، ويخطبن الرجال، ويروين الحديث، وإن كان مراده بروز النساء للرجال
كيفما كانت حالتهن وصفاتهن ومخالطتهن لهم، فالحكم يختلف باختلاف ذلك كما هو
معروف، وإننا لنرى من بعض نساء مصر في بروزهن ما يتبرأ منه الإسلام،
وكل دين وأدب وشرف.
لم يرد في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم نص في
تحريم ما ذكرنا، ولا في سيرة نساء السلف الصالح شيء من منع المرأة أن تقف
مكشوفة الوجه تخطب على الرجال فيما هو حق ومصلحة، وقد بيَّنا في كتابنا
(نداء الجنس اللطيف في حقوق النساء في الإسلام) تحت عنوان (آداب المرأة
وفضائلها) جملة ما ورد في ستر النساء وملابسهن ومخالطتهن للرجال ومسألة
حجب نساء الأمصار، وفسرنا فيه الآيتين الكريمتين اللتين ذُكِرَتا في السؤال
وغيرهما بما يعلم منه جوابه مفصلاً، فليراجعها الرئيس الفاضل في المسائل
٥٤ - ٥٧ من صفحة ١٠٦ إلى ١١٣ منه إن لم يكن قرأها بعد إرسال سؤاله إلينا،
فإن بقي له بعد ذلك في الموضوع ما يبغي بيانه، فليتفضل بالسؤال عنه.
* * *
أسئلة عن أحكام القصاص في القتل والصيال والقمار
(س٢٤ - ٢٧) من صاحب الإمضاء من صولو بجاوة.
الحمد لله وحده.
إلى حضرة صاحب الفضيلة مفتي الديار المصرية، وخادم الإسلام، عزيزي
الأستاذ السيد محمد رشيد رضا محرر مجلة المنار الغراء بمصر القاهرة، دام إجلاله.
بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فأرجو من فضيلتكم أن تفتونا على صفحات مجلتكم المنار الغراء عن
ما يلي لتكتسب الثواب في الدنيا والآخرة، وتهدوننا إلى سواء الصراط، آجركم الله
وجازاكم بالخير الجزيل في الأولى والآخرة آمين.
(١) كيفية حكم القصاص في الشريعة المحمدية السمحة، ولا سيما في
القتل الشائع ما بين المسلمين البيِّن؟ !
(٢) ما حكم الشريعة المحمدية في شخص يدين بدين الإسلام تَعَرَّض مسلمًا
آخر ماشيًا في سبيله، وسفك دمه بغير حق؟
(٣) هل تحكم الشريعة المحمدية بالإعدام على المعتدي السافك لدم أخيه
المسلم أم لا؟
(٤) من دافع عن ماله وروحه، وحان القضاء والقدر وسفك دم المسلم
المعتدي عليه هل تحكم الشريعة المحمدية عليه بالإعدام أم تبرئه لأنه غير قاصد
الشر، بل قَصَدَهُ المجرمُ بالشر؟ وكيفية إجراء الحكم الشرعي على المجرم، هل
يجازيه ربه في الآخرة بخير أم بشر؟
(٥) ما قولكم في اليانصيب (اللتري) الشائع في جميع العالم: هل هو حرام
أم مكروه أم جائز؛ فإننا نرى كثيرًا من إخواننا المسلمين يشترون تذكرة اليانصيب
بثمن ١١ ربية تقريبًا آملين أن يحصلوا مائة وخمسين ألف ربية، فمنهم من يحصل
ذلك المبلغ، ومنهم من يتأسف على مبلغه الذي يهديه لمصلحة اليانصيب بلا فائدة
تعود عليه، أفيدونا مأجورين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
... ... ... ... ... ... ... ... السائل
... ... ... ... ... ... ... أفندي البحري
... ... ... ... ... ... ... بصولو جاوة
(ج) أقول قبل الجواب: إن السائل أعطاني لقبين أولهما غير صحيح؛ وإنما
هو لقب ثابت لموظف رسمي من قبل الحكومة المصرية، وصاحبه في هذا العهد
الأستاذ العلامة الشيخ عبد المجيد سليم فهو مفتي الديار المصرية، ولعل السائل
يظن أن كل من يفتي في مصر يصح أن يوصف بهذا اللقب.
ثم إن الأسئلة الثلاثة الأولى يصح أن تجعل سؤالين مقترنين، وهو حكم
قصاص القتل وتنفيذه فنلخصها كما فهمناه من عبارته، وإن لم نعرف سبب السؤال
ونجيب عنه.
***
(٢٤ و٢٥) حكم قتل المسلم لأخيه عمدًا وكيفية تنفيذ القصاص:
أما حكم قتل العمد بغير حق، فهو القود بأن يقتل القاتل قصاصًا إلا أن يعفو
عنه أولياء الدم أو بعضهم؛ وإنما يقتل بحكم ولي الأمر، وكيفية القتل التي كانت
معهودة في عصر التشريع الديني هي قطع الرأس بالسيف، ومن مباحث الاجتهاد
فيها هل هي واجبة دينًا يمتنع أن يستبدل بها ما يكون أسهل منها وأقل تعذيبًا وإيلامًا
للمقتول كالشنق والقتل بالكهرباء؛ عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب
الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القِتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبْحَة)
الحديث، فالقتلة والذبحة في الحديث بكسر أولهما اسم لكيفية القتل أو الذبح، وهو
يدل على وجوب ترجيح أحسن الكيفيات، والحديث رواه مسلم وأصحاب السنن عن
شداد بن أوس.
(٢٦) حكم الصِّيال إذا قتل الصائل:
إن دفاع المرء عن نفسه وماله وزوجه وأولاده إذا اعتدى عليه معتدٍ مشروعٌ،
ويسمى هذا الاعتداء الصيال، وأحكامه مبسوطة في كتب الفقه، والأصل فيه أن
يدافع الصائل بالأخف فالأخف، فلا ينتقل من وسيلة لدفعه إلى وسيلة أشد منها إلا
إذا كانت غير كافية، فإن أفضى بهذه الصفة إلى قتله كان دمه مهدرًا لا قصاص فيه
ولا دية ولا كفارة كما نص عليه في مذهب الشافعية الذي عليه أهل جاوة، والأصل
فيه حديث النسائي عن مخارق قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: الرجل يأتيني فيأخذ مالي، قال: (ذَكِّره بالله) قال: فإن لم يذكر؟ قال:
(فاستعن عليه من حولك من المسلمين) قال: فإن لم يكن حولي أحد من المسلمين؟
قال: (فاستعن عليه بالسلطان) قال: فإن نأى السلطان عني؟ قال: (قاتل دون
مالك حتى تكون من شهداء الآخرة أو تمنع مالك) .
وروى أصحاب السنن الثلاثة من حديث سعيد بن زيد أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: (من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد،
ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد) والمراد بدون ما ذكر
الدفاع عنه.
وفي صحيح مسلم أن رجلاً جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله
أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ ، قال: (فلا تعطه مالك) ، قال: أرأيت إن
قاتلني؟ قال: (قاتله) ، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: (فأنت شهيد) ، قال:
أرأيت إن قتلته؟ قال: (هو في النار) .
(٢٧) حكم اليانصيب:
اليانصيب نوع من أنواع الميسر بيناه في تفسير قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (البقرة: ٢١٩) الآية في الطبعة الثانية من الجزء الثاني من
تفسير المنار (ص ٣٢٩ و ٣٣٠ منه) بعد بيان ميسر العرب، وقلنا: إنه لا يظهر
فيه كل ما وُصِفَ به ميسر العرب مع الخمر في آيات سورة المائدة وهذا نصه:
(اليانصيب) هو عبارة عن مال كثير تجمعه بعض الحكومات أو الجمعيات
أو الشركات من ألوف من الناس كمائة ألف دينار (جنيه) مثلاً، تجعل جزءًا
كبيرًا كعشرة آلاف منه لعدد قليل من دافعي المال كمائة مثلاً، يُقَسَّم بينهم بطريقة
الميسر وتأخذ هي الباقي، ذلك بأن تطبع أوراقًا صغيرة كأنواط المصارف المالية
(بنك نوت) تسمى أوراق (اليانصيب) تجعل ثمن كل واحدة منها دينارًا واحدًا مثلاً
يطبع عليها، وتجعل العشرة الآلاف التي تعطى ربحًا لمشتريي هذه الأوراق مائة
سهم أو نصيب تُعْرَف بالأرقام العددية، وتسمى النمر (جمع نمرة) ويطبع على
الورقة المشتراة عددها، وما تربحه كل واحدة من العشر الأوائل منها، وتجعل
باقيها للتسعين الباقية من المائة بالتساوي بترتيب كترتيب أزلام الميسر يسمونه
السحب، ذلك بأنهم يتخذون قطعًا صغيرة من المعدن يُنْقَش في كل واحدة منها عدد
من أرقام الحساب يسمونه نمرة من واحد إلى مائة ألف، إذا كان المبيع من الأوراق
مائة ألف، ويضعونها في وعاء من المعدن كري الشكل كخريطة الأزلام (القداح)
التي بيناها آنفًا، فيها ثقبة كلما أديرت مرة خرج منها نمرة من تلك النمر، فإذا كان
يوم السحب أديرت بعدد الأرقام الرابحة فما خرج منها أولاً سمي النمرة الأولى مهما
يكن عددها هي التي يعطى حاملها النصيب الأكبر من الربح كالقدح المعلى عند
العرب، وما خرج منها ثانيًا سمي النمرة الثانية، ويعطى حاملها النصيب الذي يلي
الأول، حتى إذا ما انتهى عدد النمر الرابحة وقف السحب عنده، وكان الباقي
خاسرًا.
وأما كون هذا النوع لا يظهر فيه ما في سائر الأنواع من ضرر العداوة
والبغضاء، والصد عن ذكر الله وعن الصلاة؛ فلأن دافعي المال فيه لا يجتمعون
عند السحب، وقد يكونون في بلاد أو أقطار بعيدة عن موضعه، ولا يعملون له
عملاً آخر، فيشغلهم عن الصلاة، أو ذكر الله تعالى كقمار الموائد المشهورة، ولا
يعرف الخاسر منهم فردًا أو أفراد أكلوا ماله؛ فيبغضهم ويعاديهم كميسر العرب
وقمار الموائد ونحوه، وكثيرًا ما يجعل (اليانصيب) لمصلحة عامة كإنشاء
المستشفيات والمدارس الخيرية وإعانة الفقراء، أو مصلحة دولية ولا سيما الإعانات
الحربية، والحكومات التي تحرم القمار تبيح (اليانصيب) الخاص بالأعمال
الخيرية العامة أو الدولية، ولكن فيه مضار القمار الأخرى وأظهرها أنه طريق
لأكل أموال الناس بالباطل، أي بغير عوض حقيقي من عين أو منفعة، وهذا محرم
بنص القرآن كما تقدم في محله، وقد يقال: إن المال الذي يبنى به مستشفى لمعالجة
المرضى، أو مدرسة لتعليم أولاد الفقراء، أو ملجأ لتربية اللقطاء لا يظهر فيه
معنى أكل أموال الناس بالباطل، إلا في آخذي ربح النمر الرابحة دون آخذي بقية
المال من جمعية أو حكومة، وهو على كل حال ليس فيه عداوة ولا بغضاء لأحد
معين كالذي كان يغرم ثمن الجزور عند العرب، وليس فيه صد عن ذكر الله وعن
الصلاة.
ومن مضرات الميسر ما نبه إليه الأستاذ الإمام ولم يسبقه إليه أحد من
المفسرين، وهو إفساد التربية بتعويد النفس الكسل، وانتظار الرزق من الأسباب
الوهمية، وإضعاف القوة العقلية، بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية،
وإهمال الياسرين (المقامرين) للزراعة والصناعة والتجارة التي هي أركان
العمران.
ومنها وهو أشهرها تخريب البيوت فجأة بالانتقال من الغنى إلى الفقر في
ساعة واحدة، فكم من عشيرة كبيرة نشأت في الغنى والعز، وانحصرت ثروتها في
رجل أضاعها في ليلة واحدة، فأصبحت غنية وأمست فقيرة لا قدرة لها على أن
تعيش على ما تعودت من السعة ولا ما دون ذلك اهـ.
فإذا ثبت أن هذا النوع لا يدخل في عموم الميسر المحرم في القرآن فلا يعد
من الحرام القطعي بالنص، ويظهر هذا إن فعلته حكومة أو جمعية خيرية لا تأكل
من ربحه شيئًا؛ ولكن شراءه قد يكون ذريعة لغيره، فينهى عنه من هذا الباب.
* * *
اليانصيب وتربية الوحوش وغيرها في الأقفاص
(س٢٨و٢٩) من صاحب الإمضاء في سميس برنيو (جاوة)
مولاي الأستاذ العلامة الجليل، والمصلح الكبير، صاحب المنار المنير
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(أما بعد) فأرجو من فضلكم الجواب عن الأسئلة الآتية وهي:
(١) إن حكومتنا الهولاندية قد تعمل بعض الأعمال الكبيرة كبناء
المستشفيات والملاجئ أو إعانة المنكوبين بما يسمونه لوتراي (يانصيب) ، وقومته
بنحو مائة ألف روبية، وجعلتها عشرة آلاف سهم (لوت) وتبيع كل سهم
منها بعشر روبيات وتأخذ من ثمن هذه الأسهم خمسين ألفًا مثلاً لبناء
المستشفيات والملاجئ أو إعانة المنكوبين، ثم تقسم الخمسين إلى نحو عشرين
قسمًا تُدْفَع للذين اشتروا هذه الأسهم بطريق القرعة بينهم فمن خرجت له فله نصيب
منها.
فهل يجوز شراء هذا السهم (اللوت) وأخذ ربحه أم لا؟ وهل يجوز لنا طلب
شيء من الخمسين التي أخذتها الحكومة تنفقه على مدرسة إسلامية أو غيرها من
مصالح المسلمين؟ وهل يجوز أن نعمل مثل هذا العمل (لوتري) بإذن الحكومة
لضعف المسلمين وإعراضهم عن البذل في سبيل الخير العام؟ أم يعد هذا العمل من
القمار الذي حرمه الله بنص القرآن؟
(٢) هل يجوز تربية الطير أو غيرها من الوحوش في الأقفاص فردًا أو
زوجًا مع ما يكفيها من الأكل والشرب وغيرهما، وذلك للائتناس بصورتها أو
صوتها؟ وهل يعد ذلك ظلمًا لها أم لا؟ وقد أفتى من أفتى بأن حبس الطير في
القفص ظلم لها وإن لم يقصر في أكلها وشربها.
هذا وتفضلوا بالجواب، ولكم مني الشكر ومن الله الأجر والثواب.
... ... ... ... ... ... ... محمد بسيوني عمران
(٢٨) اليانصيب أيضًا:
قد بينا حكم هذه المسالة بالتفصيل في الفتوى ٢٧ آنفًا، أما شبهة جعله للمنافع
العامة فقد بيَّنا ما فيها في جواب سؤال من بلادكم نشر في ص ٦٧٠ من مجلد المنار
٣٣، وأما إذا فعلت حكومتكم ذلك وأعطتكم منه شيئًا للمنافع العامة؛ فإن لكم أخذه
لذلك بغير شبهة.
(٢٨) حكم حبس الوحوش والحيوان والطير في الأقفاص:
قال بعض الفقهاء: إن حبس الحيوان والطير ظلم فهو حرام، ويظهر وجه هذا
القول إذا كان حبسها لأجل تعذيبها، والمعهود المعروف عندنا في حدائق الحيوانات
بمصر وأمثالها في الأمصار الكبيرة في الشرق والغرب أن هذه الحيوانات يعتنى
بغذائها وتناسلها، وجعل الجو الذي توضع فيه كأجواء الأقطار التي تجلب منها،
وإن الغرض منها انتفاع العلماء بدرس طباعها وسنن الله فيها، وتمتع العامة
برؤيتها، وقد خلق الله هذه الأرض وما فيها لمنافع الناس المختلفة فلا وجه مع هذا
لتحريمها قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} (البقرة: ٢٩) .
* * *
شبهات على تحريم اليانصيب الخاص ربحه بالمنافع العامة
(٣٠) من صاحب الإمضاء في قوص
حضرة صاحب الفضيلة العالم العلامة السيد محمد رشيد رضا
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد , فإني - والحق أقول - قلَّ أن أجد
كفئًا واسع الاطلاع يرتاح إلى إجابته ضمير السائل غير شخصكم المحبوب.
لهذا أرسل إلى فضيلتكم كلمتي الآتية كشبهة في مجموعها حول تحريم
اليانصيب أرجو بيانها، وإرسال شعاع من نور علمكم الفياض يكشف لي الحق
وينير طريقه - وهي ليست شبهات متعنت أو مجادل ليس إلا، وإنما هو طلب
الوقوف على الحقيقة التي لا يصل إليها علمي القاصر، والله أسأل أن يطيل في
حياتكم وينفع بكم الإسلام والمسلمين.
... ... ... ... ... ... حسن النجار أحمد مدرس إلزامي
شبهاتي حول تحريم اليانصيب
يقول الأصوليون: إن المآلات معتبرة شرعًا، واعتبارها لازم في كل حكم.
(أولاً) فقد يكون العمل في الأصل مشروعًا؛ ولكن ينهى عنه نظرًا
لما يئول إليه من المفسدة: مثال ذلك امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتل
من ظهر نفاقه معللاً ذلك بقوله: (أخاف أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه) .
(ثانيًا) النهي عن سب مَنْ يدعو المشركون من دون الله معللاً ذلك في
قوله تعالى: {وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام: ١٠٨) .
(ثالثًا) النهي عن التشدد في العبادة خوف الانقطاع عنها.
فالأصل في كل هذه الأمثلة وما ماثلها على المشروعية؛ ولكن نهي عنه نظرًا
لأن مآله غير مشروع بضرره، والمفسدة المؤدية إليه، والشرع إنما مبناه على
جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد يكون العمل أيضًا في الأصل ممنوعًا؛ ولكن
يترك النهي عنه نظرًا إلى ما يؤول إليه من المصلحة.
ومثاله: تحريم قتل النفس، ثم إباحتها عند القصاص نظرًا لمآله الذي عبر
القرآن الكريم عنه بقوله: {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} (البقرة: ١٧٩) .
ومثاله إباحة الكذب عند قصد الصلح مثلاً - وإباحة الغيبة وذكر عيوب الناس
لغرض شريف مشروع كالاستعانة على تحسين حاله أو الانتصاف منه ... إلخ.
ومثاله إباحة كشف العورة عند التداوي، وإباحة أكل الميتة للمضطر، ومثاله
ما جاء في حديث البائل في المسجد حيث أمر الرسول بتركه حتى يتم بوله نظرًا
لأن الضرر المترتب على تركه أقل من الضرر المترتب على قطعه بوله، فلم لا
تطبق هذه القاعدة في اليانصيب والغاية منه شريفة ومفيدة كالاستعانة بما يجمع منه
على إزالة الأمية، ورفع الجهل عن كاهل الأمة - أو كالاستعانة به في بناء
مستشفى لتخفيف آلام المرضى من الفقراء والمساكين كما هو الحال في يانصيب
جمعية المؤاساة الإسلامية بالإسكندرية.
أرجو إجابتي على هذه الشبهات بما أفهم فيكم من دقة البحث وسعة الاطلاع
والسلام عليكم ورحمة الله.
... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن النجار أحمد
(٣) لم لا يباح قمار اليانصيب لجعل ربحه في المنافع العامة؟
(ج) لا ريب أن جميع أحكام الشريعة السمحة في المعاملات مبنية على
أساس المنافع والمصالح العامة واجتناب المفاسد ودرئها، ومعللة بها، والحكم يدور
مع العلة وجودًا وعدمًا كما قالوا؛ ولكن ما ثبت منها بنص الشارع القطعي الرواية
والدلالة لا مجال للاجتهاد في أصله، ومنه تحريم الميسر فيجب اتباعه وإن لم
تظهر لنا علته في بعض أنواعه مع الجزم بأنه لا بد أن تكون له علة صحيحة، ولا
تجوز مخالفته إلا بدليل نص مثله كدليل إباحة الضرورات للمحظورات كما سيأتي،
وقد بين الكتاب العزيز أن في الخمر والميسر إثمًا كبيرًا ومنافع للناس وأن إثمهما
أكبر من نفعهما، وقد حرمهما الله تعالى مع ذلك مبينًا علة تحريمهما في آيات سورة
المائدة، فإن كان ما يسمى (اليانصيب) من هذا الميسر فلا يقال لِمَ لم يبح هذا
النوع منه لما فيه من المنفعة الزائدة على ما كان من منافع الميسر الذي كان عند
العرب عند نزول الآية؛ لأننا نقول: إن النص يجب اطراده، وإن لم تظهر العلة
في جميع أفراده كما هو الأصل في جميع قواعد التشريع العامة: الدينية والقانونية.
بيد أن هنا شبهة على تحريم اليانصيب الخيري المحض الذي تفعله الحكومات
والجمعيات الخيرية بيناها في الفتوى ٢٧ آنفًا، وهي أن يقال: إن هذا اليانصيب
ليس مما يدخل في عموم ميسر العرب بالأزلام، ولا تظهر فيه علة تحريمه
المشتركة بينه وبين الخمر وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
العَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم
مُّنتَهُونَ} (المائدة: ٩١) وإذا كان فيه إثم وضرر مما ذكرناه في تفسير آية البقرة
فلا ريب في أن نفعه أكبر من إثمه وضرره، فلا يظهر وجه لتحريمه في هذا النوع
خاصة بخلاف غيره والله أعلم.