(هكذا يقول بطرك المَوَارِنة الزعيم الديني السياسي) نشرت جريدة المقطم رسالة لمراسلها اللبناني تاريخها ١٤ فبراير سنة ١٩٣٣ فرأينا أن نسجلها في المنار؛ لأنها من أهم وثائق التاريخ لهذا الانقلاب الطارئ على هذا الطارئ، وهذا نصها: (في لبنان اليوم حركة خواطر لأسباب متعددة منها: انقضاء نحو ثمانية أشهر على تعليق دستوره بحجة إصلاحه وتعديله وعدم ظهور شيء حتى الآن من هذا التعديل. ومنها خوف أهل لبنان من العودة إلى الحكم المباشر. ومنها عدم مفاتحة لبنان وأهله بأمر تحديد العلاقات بينهم وبين المنتدبين وإفراغ هذه العلاقة في قالب معاهدة على المثال الذي جرى في بغداد والذي سيجري في دمشق. ومنها المعارضة التي تتململ اليوم في لبنان لزحزحة حكومته الوقتية متوسلة بوسائل لا تنتسب إلى برامج معينة في السياسة الوطنية. هذه الأمور وغيرها مما تسبب عنه قلق في الأفكار في لبنان وحركة في الخواطر دعاني إلى البحث في المراجع العالية من زمنية ودينية يرجع إلى رأيها في حقيقة ما يتوقع أن يتم بهذه الأمور لإطلاع القراء على هذه الحقيقة فقصدت يوم أمس إلى (بكركي) مقر كبير أحبار الطائفة المارونية غبطة البطريرك أنطون عريضة لأخذ رأيه؛ ورأي البطريركية المارونية ما برح عليه المعول في شؤون لبنان السياسية وإليه يستند المنتديون في كل ما يريدون إجراءه. (دخلت على غبطة السيد البطريرك وهو في خلوته وأعلمته بمهمتي فاستقبلني بترحاب فقلت: نحن اليوم يا صاحب الغبطة في دور دقيق جدًّا من حيث مصير البلاد اللبنانية لا سيما أن سورية جارتنا تتحفز إلى الاستقلال الناجز على مثال ما جرى في العراق فهل يمكن أن تتكرموا برأيكم في مصير لبنان، وفي موقفه من هذا التحول في الانتداب في سورية؟ فقال غبطته: نحن طلبنا الانتداب الفرنسوي بمطلق إرادتنا ونحن نريد أن يبقى عندنا الآن، ليس لأننا غير أكفاء للقيام بما هو مطلوب منا كشعب؛ بل لأن للظروف أحكامًا، وأما أهل سورية فلهم رأيهم، وهم أدرى بما يوافقهم، فإذا كانت المعاهدة أوفق لهم فنحن نرى الآن أننا ما زلنا في حاجة إلى هذا الانتداب الذي طلبناه بمحض إرادتنا. فقلت: يتحدثون كثيرًا اليوم بالوحدة السورية ويذكرون أسماء البلدان التي يمكن أن تشترك في هذه الوحدة ويقولون: إنها إذا تمت على أساس اللامركزية لا يضار لبنان بشيء. فهل لغبطتكم رأي في ذلك؟ فقال: إن لبنان كان لبنان، ونريده أن يبقى لبنان، فسورية بحالها ونحن بحالنا. فقلت: ولكنهم يا صاحب الغبطة يتشبثون بإرجاع الأجزاء التي ألحقت بلبنان إلى سورية. وما أتممت عبارتي هذه حتى التفت إلي العميد اللبناني بعينين برق نورهما وقال: ومتى كانت سورية مملكة لها هذه الأجزاء وسلبناها منها، إن هذه الأجزاء هي أصلا للبنان وقد سلبت منه في الأزمان الماضية فإذا استعادها إليه اليوم استعاد ما هو ملكه، واسترد ما هو حق له، وهي بلدان لبنانية الأصل أعيدت إلى لبنان. ألم يكن لبنان ممتدًّا حتى إنطاكية وحتى عكا أو ما وراءها في الأيام السالفة؟ ولهذا فإذا أعيد إلى ما كان عليه فإعادته هذه يجب ألا تعد تطاولاً منه على حق غيره، وهذه الأجزاء التي يتألف منها الوطن اللبناني اليوم إنما كانت مع لبنان المعروف في أيام المتصرفين أجزاء من ولايات أنشأها الترك فحلوا بسلخها عن لبنان الإمارة اللبنانية، واليوم أعيد الحق إلى نصابه ولبنان إلى أصحابه. ونحن نريده لعوامل شتى أن يبقى على ما هو عليه، والظروف تجبرنا على ذلك. (وهنا ذكر المكاتب حديثًا في دستور لبنان والحكم الوقتي فيه قال في آخره) فقلت هنا: إن الإشاعات التي يتناقلها الناس اليوم متناقضة، والآراء فيها مختلفة، فمنهم من يستحسن أن يكون للبنان حاكم من أهله، ومنهم من لا يريد أن يكون للبنان إلا حاكم فرنسوي، وقبل أن أتم كلامي قال البطريرك: لا! لا! إننا لا نريد حاكمًا فرنسويًّا للبنان، بل نريده لبنانيًّا محضًا. فقلت: وماذا ترون في حاكمه الحالي فقال: إننا طلبنا أن يكون الحاكم مارونيًّا، فقلت: لا أعلم إذا كنتم غبطتكم قد اطلعتم على البيان الذي أفضى به المسيو بونسو أمام لجنة الانتدابات في جامعة الأمم، وفيه يذكر لبنان بين البلدان التي قبلت الانتداب في هذه البلاد بطيبة خاطر، وذلك لاختلاف مذاهب سكانه، وكيف سرد للجنة إحصاء لسكان لبنان وقال: إن جميعهم من الأقليات التي لا يمكن لواحدة منها أن تسود الأخرى. فقال غبطته: نعم نحن قبلنا الانتداب بطيبة خاطر، وأما الأقليات والأكثريات وقولهم فيها فلا يعنينا ولبنان وطن مسيحي) (المنار) في هذا الحديث عِبَر كثيرة للمسلمين لا نريد الآن أن نشرحها: (منها) أن الرئيس الديني لمذهب الموارنة الكاثوليكي هو الزعيم السياسي الأكبر لهم، وقد جعلوه بقوة فرنسة زعيمًا ورئيسًا سياسيًّا لجميع اللبنانيين والمسلمون فيهم أكثر من الموارنة. (ومنها) أن هذا الزعيم العام يطلب أن يكون حاكم لبنان مارونيًّا ويقرر أن لبنان هذا وطن مسيحي. وقد كان لهذه الكلمة هزة في نفوس الطوائف الإسلامية وبعض المسيحيين الذين لا يزالون يقولون: إن الأوطان في هذا العصر يجب أن تكون للأقوام لا للأديان، فأراد بعض هؤلاء أن يزيلوا سوء تأثير كلمة البطرك فنقلوا عنه أنه قال: إن كون لبنان وطنًا مسيحيًّا لا يمنع أن يكون فيه غير المسيحيين، وهذا مما يعلم بالبداهة فإن العبرة بالحاكمية والسيادة العليا وفي جميع الأوطان الأوربية وغيرها سكان وطنيون من غير أهل دين الدولة ذات السيادة. يا حسرة على لبنان، كان متمتعًا باستقلال عديم المثال، فسلبته منه (الأم الحنون) وجعلته شر آلة لسلب استقلال سورية كلها، وأبناؤه البررة لها لا يشعرون، فلا قومية ولا وطنية ولا سياسة ولا إدارة، فأين ما كانوا يدعون؟