للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رحلة الحجاز

بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الله - تعالى - أن وفقني في هذا العام لتلبية دعوة أبينا إبراهيم - عليه
وعلى آله الصلاة والتسليم - بأداء فريضة الحج وإكمال المناسك بالعَجّ والثَّجّ، ثم
أحمده عودًا على بدء أن وفقني للوفاء لوالدتي بالحج معها. بعد أن حالت دونه
الأقدار بالأعذار تارة من قِبَلي، وتارة من قِبلها، بل أحمده قبل ذلك كله أن سخّر
من سخّر من الدول لإزالة ما أحدثته الحرب الأوروبية العامة من موانع السفر
بالبحار إلى الحجاز، ولتكلف إعداد السفن لحمل الحُجاج، بعد أن وُفق الشريف
أمير مكة للقيام بأمر استقلال العرب في تلك الأقطار، ولمعاهدة تلك الدول
المتصرفة في جميع البحار، فسبحان من سخّر من شاء لما شاء بتوفيق أقدار لأقدار
وأظهر حُجته على الخلق في كل عصر من الأعصار، من آيات يزداد بها إيمان
المؤمنين، ويحق بها القول على الجاحدين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم
النبيين والمرسلين، الأمي الذي أرسل لتعليم الأُميين والكاتبين، العربي المبعوث
لتوحيد الأمم باللغة والدين، وعلى آله وأصحابه الكِرام، الذين أخذوا عنه المناسك
وأحيوا شعائر الإسلام.
أما بعد: فإن ركوب الألوف من المسلمين لمُتون البحار، وجذبهم من أقصى
المغرب والمشرق لأداء فريضة الحج في هذا العام، يصح أن يُعد من تأييد الله -
تعالى - للإسلام، ومن المعجزات الدائمة لخليليه إبراهيم ومحمد - عليهما الصلاة
والسلام - ومصداقًا لحديث (إن الله سيؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله) وقد
ورد بلفظ آخر صرحوا بصحة سنده.
أوليس خِذلانه - جلت قدرته - لحكومة الاتحاديين الملحدين، بما أقدموا عليه
من التنكيل بالعرب، وانتهاك حرمات الدين، وتوفيقه - عمت رحمته - لأمير مكة
ومن معه من المسلمين، بالخروج على البُغاة المارقين، وتسخيره - بهرت حكمته -
لدولتي الفرنسيس والبريطانيين الكتابِيِّين، بحمل الحجاج من الغرب والشرق إلى
البلد الأمين؟ أليس هذا كله أقدارًا تتابعت وأسرارًا تشايعت، فانجلت عن استجابته -
سبحانه وتعالى - لدعوة إبراهيم خليله، وإحياء شريعة محمد عبده ورسوله، بعد
ما كاد يظن أن أسباب الحرب الظاهرة، حالت دون تلك الدعوة الطاهرة؟
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا
الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} (إبراهيم: ٣٧) بلى، وإنها لتؤيد ما روي عن ابن عباس، من تلبية الناس
لتلك الدعوة في عالم الأرواح، إذ قام -عليه الصلاة والسلام - بعد فراغه من بناء
البيت العتيق، ممثلاً قول الله له: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ
ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} (الحج: ٢٧-٢٨) [*] فقد روي عنه ما معناه أن الله تعالى أمره أن ينادي بذلك،
وقال له: عليك النداء وعلي البلاغ، وأنه قام في مقامه (المعروف إلى الآن بمقام
إبراهيم) وقيل: في الحِجر وقيل: على الصفا وقيل: على أبي قُبيس فنادى يا أيها
الناس إن الله قد اتخذ بيتًا فحجوه، فأجابه كل من كتب الله له الحج إلى يوم القيامة
قائلين: (لبيك اللهم لبيك) فإن لم تكن هذه الإجابة حقيقية في عالم الأرواح،
ولا عبارة عن الإجابة بالقوة ولسان الاستعداد، فهي تمثيل لما تظهره مجاري
الأقدار، ومن وراء حُجب الاستقبال، فتشاهده الأجيال في كل حول من الأحوال.
لقد كان النزوع إلى حج بيت الله الحرام، هوى ساكنًا في القلب يحركه
الموسم في كل عام، وتحول موانع الأقدار دون جذبه البدن إلى تلك المشاعر العِظام،
وأهمها ما كان أولى من عدم الأمن على النفس من ظلم الحكومة الحُميدية، ثم ما
هو شر منه وأنكى من إلحاد الحكومة الاتحادية، ومنها ما كان في بعض السنين
من عدم استطاعته السبيل، أو عَجْز السيدة الوالدة عن الرحيل.
فلما دعت الحكومة المصرية المسلمين في هذا العام إلى الحج بألسنة الصُّحف
المنتشرة، والتزمت حمل من يحج إلى جدة ذهابًا وإيابًا بأجرة قليلة، تاركة ما كانت
تتقاضاه من كل مريد للحج من التأمين المالي، وعلمنا أن هذه الدعوة مبنية على
تأمين الشريف أمير مكة للبلاد، وإزالته كل ما كان هنالك من أسباب العبَث والفساد،
صادفت هذه الدعوة في أنفسنا أتم الاستعداد والاستطاعة، وانتفاء جميع الموانع
دون هذه الطاعة، بل تأكدت داعية الفريضة، بما يُرجى في أثناء أدائها من واجب
النصيحة، التي تقتضي الحال الحاضرة أداءها لله ولرسوله ولأئمة المسلمين
وعامتهم، فقد علمنا أن طريق الحج، قد مُهّد لمسلمي الشرق والغرب، الذين حالت
بيننا وبينهم الحرب، فلا سبيل للتواصل بيننا وبينهم من الطاق ولا من الباب، ولا
للتناصح بخطاب ولا كتاب، ونحن الآن أحوج ما كنا إلى التناصح والتواصي
بالحق والتواصي بالصبر، والتعاون على ما يجب من التقوى والبر. فهل نتوانى
في أداء هذه الواجبات، وقد أبيحت لنا في أشرف الأمكنة وأفضل الأوقات، إذ
نؤدي المناسك في بيت الله ومشاعره العِظام منى والمزدلفة وعرفات؟
نعم: إن حكومة هذه البلاد آذنتنا بإباحة الحج في هذا العام، فذكرتنا بإيذانها
به أذان أبينا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - فلبى القلب داعي الله قبل تلبية
اللسان وسعي الأقدام،: (لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد
والنعمة لك والملك، لا شريك لك) فلم نكن ممن يُثنيهم عن هذه التلبية إرجاف
المُرجفين، ولا خَرْص الخرَّاصين، ولا إفك المذّاعين. الذين أذاعوا في طول
البلاد وعرضها أن من يقصدون الحج في هذا الأوان، يُلقون بأيديهم إلى التهلكة بما
أُعد لهم من مدافع التُّرك وطيارات الألمان، ولا قولهم: إن صاحب المنار مرسل مع
وفد العلماء الذين أرسلهم سلطان مصر لمبايعة شريف مكة بالخلافة، ولا قول
بعضهم: إنه هو الذي يريد ذلك دون العلماء ولا قول بعضهم بالعكس، فالفرائض
والواجبات لا تترك لتقوُّل غوغاء الناس، ولا لأوهام العوام والخواص، وحسبي أن
أعلم أنني أحجّ لوجه الله - تعالى - منفقًا من مالي الذي أعتقد حله، وقد ادخرته
لذلك في هميان منذ سنين، وإنني أبتغي زيادة الأجر عند الله - تعالى - بصحبة
والدتي وخدمتها في هذه السبيل، وبما أبغيه من الازدياد من العلم النافع
والاختبار والاستفادة من أهل العلم والبصيرة، وبما أنويه من النصيحة لكل من أرى
الفائدة في نُصحه من إخواني المسلمين في تلك البِقاع الطاهرة الشريفة، بما
أرى فيه الخير والمصلحة لأمتي في أمري دينها ودنياها، لا أُحابي في ذلك شريفًا ولا
أميرًا، ولا أغش فيه سُوقة ولا فقيرًا، وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما
نوى. كما قال الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم -.
على أن حبل الكذب - كما تقول العامة - قصير، ولا سيما إذا كان في شيء
كالحج موعده قريب، فسفر الحج في هذا العام كان أقل من خمسة أسابيع، فما
أسرع ما ظهر كذب تلك الأقاويل.
لم يبق أحد في مصر إلا وقد علم أن حجاج بلاده قد دخلوا المسجد الحرام
بمشيئة الله - تعالى - آمنين، وأدوا مناسكهم وقضوا تَفَثَهم محلِّقين رءوسهم
ومقصِّرين، وعادوا إلى أوطانهم سالمين مغبوطين، وأن الشريف لم يدْعُ أحدًا من
الحُجاج إلى مبايعته، ولا يزال الخطباء يدعون للسلطان العثماني في بلاده، وإن
صاحب المنار لم يكن بينه وبين وفد العلماء السلطاني خلاف في أمر المبايعة
المخترعة بمصر ولا في غيره، وإنه عاد مع والدته إلى أهله وولده وموطن عمله
كسائر الحاجّ؛ إذ لم يذهب مدعو إلى منصب قاضي القضاة ولا مشيخة الإسلام،
وها هو ذا يقُصّ خبر رحلته، على جميع من يطلع على مجلته، بما يعهد قراؤها
من صدقه وصراحته؛ إذ كان - ولا يزال - يشرح ما طرأ من الفساد على
الرؤساء والحكام، وما سرى من الضلال والخرافات إلى العوامّ، غير مبالٍ بسخط
الخاصة، ولا مهتم باستمالة العامة {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} (الأحزاب: ٤) .
(لها بقية)
((يتبع بمقال تالٍ))