للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: ابن القيم الجوزية


ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين
منزلة التعظيم
فصل [*]
وهذه المنزلة تابعة للمعرفة، فعلى قدر المعرفة يكون تعظيم الرب تعالى في
القلب، وأعرف الناس به أشدهم له تعظيمًا وإجلالاً، وقد ذم الله تعالى مَن لم يعظمه
حق عظمته، ولا عرفه حق معرفته، ولا وصفه حق صفته. وأقوالهم تدور على
هذا. وقال تعالى: {مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} (نوح: ١٣) قال ابن
عباس ومجاهد: لا ترجون لله عظمة، وقال سعيد بن جبير: ما لكم لا تعظمون الله
حق عظمته؟ وقال الكلبي: ولا تخافون لله عظمة. قال البغوي: والرجاء بمعنى
الخوف، والوقار: العظمة، اسم من التوقير وهو التعظيم. وقال الحسن: لا تعرفون
لله حقًّا، ولا تشكرون له نعمة. وقال ابن كيسان. ولا ترجون في عبادة الله أن
يثيبكم على توقيركم إياه خيرًا.
وروح العبادة هو الإجلال والمحبة، فإذا خلى أحدهما عن الآخر فسدت
العبودية، فإذا اقترن بهذين الثناء على المحبوب المعظم فذلك حقيقة الحمد، والله
سبحانه أعلم.
* * *
فصل
قال صاحب المنازل رحمه الله: (التعظيم معرفة العظمة مع التذلل لها، وهو
على ثلاث درجات: الأول تعظيم الأمر والنهي، وأن لا يعارضا بترخص جاف،
ولا يُعرَّضا لتشدد غال، ولا يُحمَلا على علة توهن الانقياد) .
هاهنا ثلاثة أشياء تنافي تعظيم الأمر والنهي؛ (أحدها) : الترخص الذي يجفو
به صاحبه عن كمال الامتثال (والثاني) : الغلو الذي يتجاوز به صاحبه حدود الأمر
والنهي فالأول تفريط والثاني إفراط، وما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان، إما
إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي
فيه، كالوادي بين الجبلين، والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين.
وكما أن الجافي عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد،
وهذا بتجاوزه عن الحد.
وقد نهى الله عن الغُلُو بقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ
الحَقِّ} (المائدة: ٧٧) ، والغلو نوعان: نوع يخرجه عن كونه مطيعًا، كمن زاد
في الصلاة ركعة، أو صام الدهر مع أيام النهي، أو رمى الجمرات بالصخرات
الكبار التي رُمي بها في المنجنيق، أو سعى بين الصفا والمروة عشرًا، أو نحو
ذلك عمدًا.
وغلو يخاف منه الانقطاع والاستحسار، كقيام الليل كله، وسرد الصيام
الدهر أجمع بدون صوم أيام النهي، والجور على النفوس في العبادات والأوراد
الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا
غلبه، فسددوا وقاربوا ويسروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)
يعني استعينوا على طاعة الله بالأعمال في هذه الأوقات الثلاثة فإن المسافر يستعين
على قطع مسافة السفر بالسير فيها، وقال: (ليُصَلِّ أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد)
رواهما البخاري. وفي صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هلك
المتنطعون) قالها ثلاثًا. وهم المتعمقون المشددون. وفي صحيح البخاري عنه:
(عليكم من الأعمال ما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا) وفي السنن عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق، ولا تُبغِّض
إلى نفسك عبادة الله) أو كما قال.
وأما قوله: (ولا يُحمَلا على علة توهن الانقياد) يريد أن لا يتأول في الأمر
والنهي علة تعود عليه بالإبطال، كما تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع
العداوة والبغضاء والتعرض للفساد، فإذا أمن من هذا المحذور منه جاز شربه، كما
قيل:
أدرها فما التحريم فيها لذاتها ولكن لأسباب تضمنها السكر
إذا لم يكن سكر يضل عن الهدى ... فسيان ماء في الزجاجة أو خمر
وقد بلغ هذا بأقوام إلى الانسلاخ من الدين جملة، وقد حمل طائفة من العلماء
أن جعلوا تحريم ما عدا شراب العنب معللاً بالإسكار، فله أن يشرب منه ما لم
يسكر.
ومن العلل التي توهن الانقياد أن يعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة
عليه في نفس الأمر فيضعف انقياده إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم، ولهذا
طريقة القوم عدم التعرض لعلل التكاليف خشية هذا المحذور. وفي بعض الآثار
القديمة: (يا بني إسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا)
وأيضًا فإنه إذا لم يمتثل الأمر حتى تظهر له علته لم يكن منقادًا للأمر، وأقل
درجاته أن يضعف انقياده له، وأيضًا فإنه إذا نظر إلى حكم العبادات والتكاليف
مثلاً [١] وجعل العلة فيها هي جمعية القلب والإقبال به على الله، فقال: أنا
أشتغل بالمقصود عن الوسيلة، فاشتغل بجمعيته وخلوته عن أوراد العبادات فعطلها،
وترك الانقياد بحمله الأمر على العلة التي أذهبت انقياده، وكل هذا من ترك تعظيم
الأمر والنهي، وقد دخل من هذا الفساد على كثير من الطوائف ما لا يعلمه إلا
الله، فما يدري ما أوهنت العلل الفاسدة من الانقياد إلا لله، وكم عطلت لله من أمر
وأباحت من نهي وحرمت من مباح! وهي التي اتفقت كلمة السلف على ذمها.
* * *
فصل
قال: (الدرجة الثانية تعظيم الحكم أن لا يُبغى له عوج، أو يُدافَع بعلم؛ أو
يرضى بعوض) الدرجة الأولى تتضمن تعظيم الحكم الديني الشرعي، وهذه
الدرجة تتضمن تعظيم الحكم الكوني القدري، وهو الذي يخصه المصنف باسم
الحكم، وكما يجب على العبد أن يرعى حكم الله الديني بالتعظيم فكذلك يرعى حكمه
الكوني به، فذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء (أحدها) : (أن لا يُبغى له عوج) أي
يُطلب له عوج أو يُرى فيه عوج؛ بل يُرى كله مستقيمًا؛ لأنه صادر عن عين
الحكمة فلا عوج فيه، وهذا موضع أشكل على الناس جدًّا. فقالت نفاة القدر: ما
في خلق الرحمن من تفاوت ولا عوج، والكفر والمعاصي مشتملة على أعظم
التفاوت والعوج، فليست بخلقه ولا مشيئته ولا قدره. وقالت فرقة تقابلهم: بل هي
من خلق الرحمن وقدره، فلا عوج فيها وكل ما في الوجود مستقيم. والطائفتان
ضالّتان منحرفتان عن الهدى. وهذه الثانية أشد انحرافًا؛ لأنها جعلت الكفر
مستقيمًا لا عوج فيه، وعدم تفريق الطائفتين بين القضاء والمقضي والحُكم
والمحكوم به هو الذي أوقعهم فيما أوقعهم فيه.
وقول سلف الأمة وجمهورها: إن القضاء غير المقضي، فالقضاء فعله
ومشيئته وما قام به، والمقضي مفعوله المباين له المنفصل عنه، وهو المشتمل
على الخير والشر والعوج والاستقامة، فقضاؤه كله حق، والمقضي منه حق
ومنه باطل. وقضاؤه كله عدل، والمقضي منه عدل ومنه جور، وقضاؤه
كله مرضي، والمقضي منه مرضي ومنه مسخوط. وقضاؤه كله مُسالِم،
والمقضي منه ما يُسالِم ومنه ما يُحارِب.
وهذا أصل عظيم تجب مراعاته، وهو موضع مزلة أقدام كما رأيت،
والمنحرف عنه إما جاحد للحكمة أو القدرة أو للأمر والشرع ولا بد، وعلى هذا
يحمل كلام صاحب المنازل رحمه الله، أي لا يبتغي للحكم عوج.
وأما قوله: (أو يدفع بعلم) فأشكل من الأول، فإن العلم مقدم على القدر
وحاكم عليه، ولا يجوز دفع العلم بالحكم. فأحسن ما يحمل عليه كلامه أن يقال:
قضاء الله وقدره وحكمه الكوني: لا يناقض دينه وشرعه وحكمه الديني بحيث تقع
المدافعة بينهما؛ لأن هذا مشيئته الكونية وهذا إرادته الدينية. وإن كان المرادان قد
يتدافعان ويتعارضان؛ ولكن من تعظيم كل منهما أن لا يدافع بالآخر ويعارض،
فإنهما وصفان للرب تعالى، وأوصافه لا يدفع بعضها ببعض، وأن استعيذ ببعضها
من بعض. فالكل منه سبحانه وهو المعيذ من نفسه بنفسه، كما قال أعلم الخلق به:
(أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك)
فرضاؤه وإن أعاذ من سخطه فإنه لا يبطله و (لا) يدفعه، وإنما يدفع تعلقه
بالمستعيذ، وتعلقه بأعدائه باق غير زائل، فهكذا أمره وقدره سواء، فإن أمره لا
يبطل قدره، ولا قدره يبطل أمره، ولكن يدفع ما قضاه وقدره بما أمر به وأحبه،
وهو أيضًا من قضائه، فما دفع قضاؤه إلا بقضائه وأمره، فلم يدفع العلم الحكم؛
بل المحكوم به، والعلم والحكم دفعا المحكوم به الذي قدر دفعه وأمر به.
فتأمل هذا فإنه محض العبودية والمعرفة والإيمان بالقدر والاستسلام له،
والقيام بالأمر والتنفيذ له بالقدر، فما نفذ المطيع أمر الله إلا بقدر الله، ولا دفع
مقدور الله إلا بقدر الله وأمره.
وأما قوله: (ولا يرضى بعوض) أي إن صاحب مشهد الحكم قد وصل إلى
حد لا يطلب معه عوضًا، ولا يكون ممن يعبد الله بالعوض، فإنه يشاهد جريان
حكم الله عليه، وعدم تصرفه في نفسه، وإن المتصرف فيه حقًّا مالكه الحق، فهو
الذي يقيمه ويقعده ويقلبه ذات اليمين وذات الشمال، وإنما يطلب العوض من غاب
عن الحكم وذهل عنه، وذلك منافٍ لتعظيمه، فمن تعظيمه أن لا يرضى العبد
بعوض يطلبه بعمله؛ لأن مشاهدة الحكم وتعظيمه يمنعه أن يرى لنفسه ما يعارض
عليه. فهذا الذي يمكن حمله كلامه عليه من غير خروج عن حقيقة الأمر. والله
سبحانه أعلم.
* * *
فصل
قال: (الدرجة الثالثة تعظيم الحق سبحانه، وهو أن لا يجعل دونه سببًا، ولا
يرى عليه حقًّا، ولا ينازع له اختيارًا) هذه الدرجة تتضمن تعظيم الحاكم سبحانه
صاحب الخلق والأمر، والتي قبلها تتضمن تعظيم قضائه لا مقتضيه، والأولى
تتضمن تعظيم أمره. وذكر من تعظيمه ثلاثة أشياء:
(أحدها) : (أن لا تجعل [١] دونه سببًا) أي لا تجعل للوصلة إليه سببًا
غيره؛ بل هو الذي يوصل إليه عبده، فلا يوصِّل إلى الله إلا الله، ولا يقرب إليه
سواه، ولا أدنى إليه غيره، ولا يتوصل إلى رضاه إلا به، فما دل على الله
إلا الله، ولا هدى إليه سواه، ولا أدنى إليه غيره، فإنه سبحانه هو الذي جعل
السبب سببًا، فالسبب وسببيته وإيصاله، كله خلقه وفعله.
(الثاني) أن لا يرى عليه حقًّا، أي لا ترى لأحد من الخلق لا لك ولا
لغيرك حقًّا على الله؛ بل الحق لله على خلقه. وفي أثر إسرائيلي (إن داود عليه
السلام قال: يا رب بحق آبائي عليك. فأوحى الله تعالى إليه: يا داود! أي حق
لآبائك علي؟ ألست أنا الذي هديتهم ومننت عليهم واصطفيتهم ولي الحق عليهم؟)
وأما حقوق العبيد على الله تعالى من إثابته لمطيعهم وتوبته على تائبهم وإجابته
لسائلهم، فتلك حقوق أحقها الله سبحانه على نفسه بحكم وعده وإحسانه، لا أنها
حقوق أحقوها هم عليه، فالحق في الحقيقة لله على عبده، وحق العبد عليه هو ما
اقتضاه جوده وبره وإحسانه إليه بمحض جوده وكرمه. وهذا قول أهل التوفيق
والبصائر، وهو وسط بين قولين منحرفين قد تقدم ذكرهما مرارًا. والله أعلم.
وأما قوله [٢] : (ولا ينازع له اختيارًا) أي إذا رأيت الله عز وجل قد
اختار لك أو لغيرك شيئًا إما بأمره ودينه، وإما بقضائه وقدره - فلا تنازع اختياره؛
بل ارض باختيار ما اختاره، فإن ذلك من تعظيمه سبحانه. ولا يرد عليه ما قدره
عليه من المعاصي، فإنه سبحانه وإن قدرها لكنه لم يخترها له، فمنازعتها غير
اختياره من عبده، وذلك من تمام تعظيم العبد له سبحانه. والله أعلم. اهـ
(المنار)
هذا الكلام لا يسلم على إطلاقه؛ بل له قيد لا بد منه. وقد سبق للمصنف
تحقيقه فلهذا اكتفى هنا بالإجمال؛ وإنما نحتاج إلى القيد إذا أردنا (بالاختيار) متعلقه
وهو ما اختاره الله لنا من الأمور، وهو المقضي والمقدر. كما هو المتبادر هنا. فهذا
إذا كان شرًّا لنا كالأمراض والمظالم والفتن فإنه لا يشرع لنا أن نرضى به؛ بل
يجب أن نقاومه وندافع الأقدار بالأقدار، كما قال عمر بن الخطاب بإقرار جمهور
من الصحابة - رضي الله عنهم - عندما فر من الشام ولم يدخلها لوباء فيها: (نفرّ
من قدر الله إلى قدر الله) أما نفس اختيار الله تعالى الذي هو فعله فلا وجه لمنازعته
فيه، ولا تردد في الرضا به وعدم الاعتراض عليه فيه. ولا فرق بين الذي قلناه
آنفًا - وقد سبق تقرير المصنف له - وبين ما قاله هنا آنفًا في المعاصي، ومسألة
الاختيار مبهمة هنا، فاختياره تعالى - بالمعنى المصدري - لا ينازع ولا
يعارض مطلقًا. وهو يتناول كل ما قضاه وقدره؛ لأنه فعله، وكل أفعاله اختيارية.
فلا يمكن أن يقال أنه قدر المعاصي بغير اختيار منه. وأما الاختيار بالمعنى
الحاصل بالمصدر أي ما اختاره سبحانه لعباده، فهو قسمان: أفعال وأحكام، أو
خلق وأمر، فأما أحكام دينه وأمره ونهيه فلا ينازع فيها؛ بل تؤخذ بالرضاء
والتسليم، وأما أفعاله التي تقع بقدره وحسب سننه في خلقه فقسمان:
(أحدها) : ما يوافق مصالح الناس ومنافعهم فيجب الرضاء بها مع الشكر
عليها.
(وثانيها) : ما لا يوافق مصالحهم ومنافعهم كالأمراض وتعدي بين الظالمين
وطغيان المياه، فهذه تنازع وتقاوم مع الصبر عليها.
((يتبع بمقال تالٍ))