للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الموالد والشعور الديني وضرر الخرافات

كان شهر رجب المنصرم شهر الموالد التي يُحتفل بها في القاهرة وضواحيها
بأسماء بعض الأولياء والأصفياء، كمولد الرفاعي والبيومي والسيدة زينب والإمام
الشافعي، فكنت ترى شوارع المدينة وأسواقها مزدحمة بالوفود القادمين من الأرياف
لحضور هذه الموالد بنسائهم وأولادهم مشاة وركبانًا، وتسمع النساء يزغردن
ويغنين راكبات على الإبل والحمير وعربات النقل، وأما مشايخ الطرق فكنت
تراهم في مُلك كبير: طبول ومزامير، وأعلام مرفوعة، وكلمة مسموعة، وأزياء
رائعة، ورعية طائعة.
رأيت شيخًا كبيرًا منهم يقود زعنفة في الطريق، وعلى رأسه عمامة حمراء
كبيرة عجراء، وهو يصيح ويتغنى، ويتمايل ويتثنى، وبيده قضيب يهش به على
الزعنفة ويشير إليهم بالأمر والنهي وهم له خاضعون ولأمره ممتثلون، بفرح
وسرور، ووجدان وشعور؛ لأن السلطة روحية دينية، لا قهرية سياسية، كسلطة
الحكام، أرباب الاستبداد والإلزام.
نعرف بالاختبار أن أمثال هؤلاء الناس لا يجدون في صلاة الجمعة والجماعة
ولا في العيدين بعضًا من هذا الشعور الديني، والفرح بالإسلام، وما فيه من سوابغ
الآلاء والإنعام، ولا تتحرك قلوبهم للوعظ والتذكير، كما تتحرك لسماع الدفوف
والمزامير، ولا يتلذذون في يوم العيد بالتكبير، كما يتلذذون في (الحضرة)
بالمكاء والصفير، والشهيق والزفير، وهذا الشعور الذي يُنسب إلى الدين هو أكبر
ما بقي في نفوس هؤلاء من سلطان الدين وتأثيره، وقد ارتفع قدر الموالد بسببه
وصار الناس ينفقون فيها النفقات العظيمة، ويعتقدون أن من اعتاد على حضورها
أو إنفاق شيء فيها، ثم ترك عادته فلا بد أن ينكب وتحل به المصائب والدواهي،
وقد نقل إلينا الثقات الخبيرون أن كثيرًا من الناس حاولوا في بعض السنين القعود
عن المولد الذي يعتادون حضوره، فكانت امرأة الواحد منهم تنذره بسوء العاقبة،
فإذا لم يبال بإنذارها تسعى في إيقاع الضرر أو الهلاك بشيء مما له من حرث أو
نسل؛ ليعتقد أن الولي تصرَّف فيه لعدم حضور مولده، ومنهن من توقع بولدها
منه - والعياذ بالله تعالى - فإذا هي لم تسع بشيء واتفق أن نزلت بهم مصيبة ?
ولا يسلم أحد من المصائب في نفسه وأهله وماله - فلا يشك هو ولا هي بأن
سبب المصيبة عدم حضور المولد.
كأن أولياء الله في اعتقاد هؤلاء الجهلاء ما وُجدوا إلا لإيذاء الناس وإرهاقهم
العسر، والفتك بهم عند أدنى تقصير في تعظيمهم؛ ولكنهم لا يغارون على دين الله
تعالى إذ لا ينتقمون من الكافرين بالله عز وجل، ولا يتصرفون بتاركي الصلاة ولا
بمانعي الزكاة، ولا يؤذون الزناة والسكارى وشهود الزور والمعتدين على حقوق
الناس! !
هذا الشعور الذي يرى أثره من العامة هو الذي يرضي الكثيرين من العقلاء
والفضلاء ببقاء العامة على هذه البدع، ولوم من ينكرها وعذله والاحتجاج عليه بأن
إنكارها يفضي إلى الشك في الدين؛ ولكن هذه السياسة باطلة فإن الحق لا يُعزز ولا
يُنصر بالباطل، وإن السكوت على هذه الأباطيل مصانعة للعوام يجعل الدين هزوًا
ولعبًا في نظر الخواص، ويطلق ألسنة أعدائه بالطعن فيه على أنه وقوع في مثل
ما أرادوا الهروب منه؛ فإن ما عليه الناس من البدع والخرافات مضاد للدين، ولا
شك أن الزيادة فيه والنقص منه سيان، ولو تنبهوا إلى مقدار فتك الخرافات في
عقول المعتقدين بها، وعلموا أنها أضعفت استعدادها، وأضلتها عن رشادها، حتى
كادت تفقد قابلية الفهم، وتُحْرَم من قبول أي علم، لا فرق بين الظن واليقين، في
أمر الدنيا وأمر الدين، لحكموا معنا بأن جناية البدع والخرافات، هي أعظم
الجنايات، وإن طلبت التذكير بالدليل، فدونك ما يأتي في التمثيل:
ولي الجيزة أو دجالها
في الجيزة شيخ من الذين يعتقد الناس فيهم الولاية، وينسبون لهم الكرامات،
وهذا الشيخ متهتك مدمن خمر يجلس في الحانات التي في الشوارع العمومية،
ويشرب في مجلس واحد أكثر من ثلاثين كأسًا، ونُقل إلينا أن بعض الأغنياء
الموصوفين بالصلاح يتقربون إلى الله - تعالى وتنزه عن تقربهم -بدفع ثمن الخمرة
التي يشربها، ويزعمون أن سؤره من الخمر فيه بركة وشفاء، فيشربون بهذه النية
وربما يتفل الخمر من فيه عليهم لأجل المباركة عليهم، ويؤكد الناقلون أن هؤلاء
الأغنياء الأغبياء معتقدون في الشيخ حقيقة لا محتالون على السُّكر باسم الدين.
ومن الناس من يعتقد أن الولي إذا تناول خمرًا للشرب يتحول الخمر في يده،
أو فيه إلى مائع آخر، وقد كان بعض الدجالين المدَّعين الولاية كالشيخ الطشطوشي
في مصر يشعوذ ويموه على الجاهلين - وأكثر الناس عندنا جاهلون - بسبب
اعتقادهم هذا، فيأتي بكأس من الخمر الصافي المسمى بالعرقى الذي يبيضُّ بالمزج،
ويجعل فيه ماء من حيث لا يشعر الحاضرون، حتى إذا وضع الكأس على فيه
مجَّ الماء فيه، فيصير أبيض اللون، ويقول الأغمار استحالت الخمرة لبنًا. وحزب
ولي الجيزة يعتقدون أنه يشرب الخمر فتنزل في جوفه خمرًا؛ ولكنه من أحباب الله-
حاش لله - الذين لا يؤاخذهم ولا يؤاخذ من ينتمي إليهم ويتصل بهم، وهذا
الاعتقاد كفر وخروج من الاسلام بلا خلاف بين الأئمة، وما أوقع الناس فيه إلا
الغلو في اعتقادهم الكرامات، وجعلها كصناعة من الصناعات، وزعمهم أن
السكوت على الخرافات إنما هو للخوف من إنكار الكرامات، على أن إنكارها ليس
بكفر، ولم يقل إمام بوجوب اعتقاد كرامة ولي مخصوص.
وهناك فتنة أكبر، وهي أن الدجال يفسر القرآن برأيه الفاسد وجهله الكاسد،
أستغفر الله، إنه رائج في سوق المعتقدين به، فهو في هذا كولي الزقازيق الشيخ
محمد أبي خليل وقد ورد في الحديث الصحيح (من فسر القرآن برأيه، فليتبوأ
مقعده من النار) وكل من ليس له دراية صحيحة بالعلوم والفنون التي يتوقف عليها
التفسير (راجع ص ٢٠٧ م ٣) فإنما يُفسر بالرأي والهوى، ونرى هؤلاء الجهلاء
يزعمون أن من الكرامة أن تفاض على الولي جميع العلوم فيضًا؛ ولكن العلماء
متفقون على أن علوم اللغة والشرع لا تُعرف إلا بالتلقي والتعلم، كما في فتاوى ابن
حجر الحديثية، وفي الحديث (العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم) وسنعود إلى هذا
البحث إن شاء الله.