للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد أحمد الغمراوي


العلم والدين
(٢)
وبعد: فما هي عناصر الخلاف وعوامل الخصومة التي توجب أن يكون
الدين في ناحية والعلم في ناحية أخرى. وأن ليس إلى التقائهما من سبيل؟
ساق الدكتور في الجواب على هذا السؤال ثلاثة أمور:
(الأمر الأول) أن الدين حين يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء ويأخذ الناس
بالإيمان بهما يثبت أمرين لم يستطع العلم إلى الآن أن يثبتهما، فالعلم لم يصل بعد
إلى إثبات وجود الله، ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الأنبياء، ولا سبيل إلى أن
يتفقا إلا يوم يعترف العلم بوجود الله ونبوة الأنبياء، أو يوم ينزل الدين عن وجود
الله ونبوة الأنبياء، هذا أمر.
(الأمر الثاني) أن الكتب السماوية لم تقف عند إثبات وجود الله ونبوة
الأنبياء، وإنما عرضت لمسائل أخرى يعرض لها العلم بحكم وجوده ولا يستطيع
أن ينصرف عنها، وهنا ظهر تناقض صريح بين نصوص الكتب السماوية، وما
وصل إليه العلم من النظريات والقوانين.
(الأمر الثالث) وهو في رأي الدكتور ثالثة الأثافي أن العلم طمع في أن
يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله، وهو لا يحفل الآن بأن التوراة تناقضه أو لا
تناقضه؛ وإنما يزعم أن له الحق في أن يضع الدين نفسه موضع البحث، وقد فعل،
وأن العالم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة واللباس من حيث إنها كلها ظواهر
اجتماعية تتبع الجماعة في تصورها وتتأثر بالبيئة والإقليم والوضع الجغرافي، فهو
لم ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض.
هذه هي ثلاثة الأدلة التي أرسلها الدكتور في سياق التدليل على متناقضاته.
وإني أسأل الدكتور ما حد الخصومة التي يزعمها قائمة بين العلم والدين، أليست
الخصومة هي الجدل والغلب حيث يدفع أحد الخصمين ما يثبته الآخر ويثبت ثانيهما
ما ينفيه صاحبه؟
فإذا كان هذا معنى الخصومة، فهل نفى العلم ما أثبته الدين من وجود الله
ونبوة الأنبياء؟ إن في كلام الدكتور جواب هذا السؤال الأخير، فهو يصرح بأن
العلم لا ينفي وجود الله ونبوة الأنبياء، ويقرر في وضوح أن العلم ينصرف عنهما
انصرافًا تامًّا إلى ما يمكن أن يتناوله بالبحث والتمحيص.. . فهو إذن مسلم بأن
العلم لا يستطيع أن يتناول بالبحث والتمحيص هذين الأمرين لعجز آلاته عن بحثهما
وتمحيصهما. وهو إذًا مسلِّم بأن العلم منصرف عنهما انصرافًا تامًّا إلى ما يمكن أن
يتناوله بالبحث والتمحيص. وإذًا فلا خصومة بين العلم والدين في وجود الله ونبوة
الأنبياء، إذ كيف تقع الخصومة بين طرفين في أمر يعترف أحدهما بأنه عاجز عن
مباشرة أسباب الخصومة فيه، وكيف تتصور الخصومة ممن هو منصرف انصرافًا
تامًّا عن تناول ما هو مثار الخصومة؟
فالحق أنه لا خصومة بين الدين والعلم على وجود الله ونبوة الأنبياء، وأن
ميدان الدين أوسع دائرة من ميدان العلم الحسي، وأنه إذا كان العلم الحسي لم
يستطع أن يجري مع الدين في ميدانه الفسيح فإن العقل لم ينقطع عن الجري مع
الدين في هذا الميدان ولم تنضب موارده الخصبة [١] ولم يضن على الدين بالمساعدة
والتأييد فالأدلة العقلية على وجود الله وعلى نبوة الأنبياء متظاهرة متضافرة،
وليست الصحف اليومية بميدان صالح لنشرها وبسطها [٢] ، وهي في كتب العقائد
مبسوطة مدعمة ومن أحسن تلك الكتب رسالة التوحيد للأستاذ الإمام الشيخ محمد
عبده، فليرجع القارئ إليها إذا شاء.
بعد هذا نعرض للأمر الثاني الذي ساقه الدكتور للتدليل على رأيه في وجود
الخصومة بين العلم والدين، وهو أن الكتب السماوية عرضت لمسائل أخرى
يعرض لها العلم بحكم وجوده، ولا يستطيع أن ينصرف عنها، قال الدكتور: وهنا
ظهر تناقض صريح بين نصوص هذه الكتب السماوية وما وصل إليه العلم من
النظريات والقوانين.
على أن الدكتور في هذا الموقف الخطير لم يذكر لنا ولو قانونًا واحدًا من تلك
القوانين العلمية التي تناقض نصوص القرآن تناقضاً صريحاً في زعمه، واكتفى
بالإشارة إلى أن في القرآن ذكراً للخلق وصورته ومدته، وفي علم الجيولوجيا
تعرض لهذا، وبين نظريات علم الجيولوجيا وبين القرآن خلاف قوي عنيف، هذا
خلاف، وخلاف آخر بين الدين والعلم في نشأة الإنسان.
زعم الدكتور أنه ليس بأقل من الخلاف في خلق السموات والأرض، وأن
مذهب النشوء والارتقاء لا يمكن أن يتفق مع ما في القرآن بوجه من الوجوه، ولن
يتفق علم الأمبريولوجيا مع ما جاء في القرآن من تكوّن الجنين، ومثل ذلك ما بين
نصوص القرآن وعلم الفلك من خلاف، هذه هي جملة الأمور التي بني الدكتور
عليها حكمه بأن الدين والعلم ليسا متفقين، ولا سبيل إلى أن يتفقا إلا أن ينزل
أحدهما لصاحبه عن شخصيته كلها.
ولن نرى موقفًا أدنى إلى السخف، وأدعى إلى السخرية، والاستهزاء
بصاحبه من هذا الموقف بفقه الدكتور من كتاب الله، ومن علوم لا يحسن القول
فيها، ولا يدري الفرق بين نظرياتها وقوانينها، فيريك كيف يذري الجهل بصاحبه
وكيف تجني الحماقة على جانيها، ويعطيك صورة مضحكة لأولئك الثرثارين
المتفيهقين الذين يقع نظرك عليهم كثيراً في النوادي ومجالس السمر حتى يتشدقون
بالحديث في مختلف الشئون العلمية والسياسية والاقتصادية وهم لا يدرون شيئًا عما
يتحدثون فيه، ولا يعرفون إنْ كانت السياسة طعامًا يؤكل، أو ثيابًا تلبس أو ألعوبة
يتسلى بها الصبية؛ فلو أن الدكتور كان من علم ما عرض للكلام فيه بالمكان الذي
يدعيه لنفسه وبالمنزلة التي يوهم البسطاء والمخدوعين أنه لا يشق له فيها غبار؛
لما جهل الفرق بين النظريات والقوانين في العلوم ولا سمح لنفسه أن يتحدث عن
ظهور تناقض صريح بين نصوص القرآن وما وصل إليه العلم من النظريات، إذ
ما الذي يضير القرآن إذا كان مخالفًا لنظريات لم يبرهن عليها في العلم، ولم تصر
بعد من اليقينيات المسلمات فيه؟ ولو أن الدكتور كان يحسن من هذه العلوم شيئًا
كما يوهم لما اكتفى بأن يرسل الكلام إرسالاً يقف فيه عند حد القول بأن بين
نظريات علم الجيولوجيا وبين القرآن خلافًا قويًّا عنيفًا، وأن مذهب النشوء
والارتقاء لا يمكن أن يتفق مع ما في القرآن بوجه من الوجوه، إلى غير ذلك من
أقوال مرسلة ودعاوى عريضة، ولذكر لنا ولو بحثًا من أبحاثه الفلكية المخالفة
لنصوص القرآن.
بيد أننا في هذا الموقف نطمئن الدكتور إشفاقًا عليه، ونقول له: هون عليك
فإن الأمر أهون مما تظن فلن ينزل الدين عن شخصيته للعلم، ولن ينازع العلم الدين
في شيء من الأصول الأساسية التي أقرها، وسيظل العلم والدين صديقين وفيين
وخليلين متناصرين على ترقية الإنسانية وتوفير الخير لها حتى تقوم الساعة.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ} (فصلت:
٥٣) .
ولأجل أن ننزع عن الدكتور ما أحاط به من اللبس ونكشف له عما اشتبه
عليه من هذه المسائل التي ذكرها نقول له: إن القرآن نزل لهداية البشر لما فيه
سعادتهم في الدنيا والآخرة. وهذه الغاية تتحقق بثلاثة أمور:
أولها: تصحيح عقائد الناس فيما يختص بذات الإله وما يجب لها من صفات
الكمال.
وثانيها: تهذيب الأخلاق بالمواعظ الحسنة، وتكميل النفوس وترغيبها في
العبادات والأعمال الصالحة والأخلاق الطيبة التي أجمعت العقول على حسنها.
وثالثها: إصلاح حال الجماعة بتجديد علائق بعضهم ببعض ووصف العلاج
الناجح الذي يشفي الجماعة من أمراضها المستعصية، وهو في كل ذلك لم يعرض إلا
قليلاً لجزيئات الأمور؛ لأن الجزيئات كثيرة التغير سريعة التحول، فقرر القواعد
العامة التي تتمارى العقول فيها والتي ترمي إلى إصلاح الأرواح والنفوس من
غير إخلال بمصالح الجسد، واكتفى من الجزيئات بذكر ما فيه نفع ظاهر أو ما
فيه ضرر بَيِّن.
فالقرآن لم ينزل لتقرير قواعد العلوم وتفصيل مسائل الفنون إذ لو كان كذلك
لكان كسائر الكتب العلمية التي لا ينتفع بها إلا قليل من الناس، وإذًا يفوت الغرض
المقصود منه - أعني هداية البشر - ولو نزل بتفصيل قواعد العلوم وتفصيل
مسائلها لاستنفد عمر الإنسانية في إدراك قواعده والتصديق بمسائله.
فهو إذاً عرض لذكر شيء من الآيات الكونية في سياق التدليل بها على ما
يقرره من القضايا فإنما يتناوله بالقدر الذي يشترك في التسليم به كافة الناس عامتهم
وعلماؤهم ويلفت الأذهان إلى ما في تلك الآيات من أسرار تدق على عقول الدهماء،
ولا تجل عن أفهام العلماء، في أسلوب يحفز العقول إلى المعرفة ويستثير ما كَمُن
في النفوس من الغرائز والقوى إلى التبسط في العلم، واستجلاء آيات الله في
الكائنات، مجزلاً للعلماء حظهم من الثناء والتكريم.
فتراه حين يدلل على وحدانية الله بما في خلق السموات والأرض واختلاف
الليل والنهار، والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس إلى غير ذلك من الآيات
الكونية تراه حين يدلل على الوحدانية بما في هذه الكائنات وغيرها من سنن ثابتة
محكمة مطردة تدل على وحدانية صانعها وعلمه وقدرته يعقب ذكرها ببيان أن في
ذلك آيات لقَوْمٍ يَعْقِلُون، وأن في ذلك آيات لقوم يعلمون، وأن في ذلك آيات لقوم
يتفكرون، ليوجه العقول إلى معرفة ما فيها من آيات، ويسوق النفوس والهمم إلى
استجلاء ما في الكائنات من أسرار.
وأما إذا عرض لذكر السموات وما فيها من النجوم والكواكب، وللأرض وما
فيها من المخلوقات والعجائب؟ فلا يعرض لبيان حقائق الكواكب وأشكالها، ولا
لتفصيل مقادير أبعادها ونظام سيرها في أفلاكها، ورجوعها واستقامتها وميلها،
واختلاف مناظرها، إلى غير ذلك من الأبحاث الفلكية، كذلك لا يعرض عند ذكر
الأرض لوصف شكلها وإثبات حركتها أو سكونها [٣] ، وما يترتب على ذلك من
اختلاف الليل والنهار، والفصول الأربعة، ولا يذكر أسباب وجود الجبال واختلاف
طبقاتها وألوانها، ولا أسباب وجود الوديان والزلازل وغير ذلك من الظواهر
الطبيعية، وإنما يكتفي بذكر تلك الظواهر وما للناس فيها من نفع أو غيره لافتًا
الأذهان إلى ما فيها من سنن وعبر - فهو كما قدمنا يتناولها بالمقدار الذي يشترك سائر
الناس في العلم به لينال كل حظه من الهداية كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ
أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ
مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} (فاطر: ٢٧-٢٨) ومن ذا يماري أن الماء منه
حياة كل شيء نامٍ، وأن الله يخرج به من الأرض ثمرات مختلفًا ألوانها؟ وأن في
اختلاف ألوان الجبال والناس والدواب والأنعام آيات وأسرارًا عظيمة؟ وإن كان لا
يقف على كنه هذه الآيات والأسرار إلا العلماء.
وكذلك إذا لفت الناس إلى ما في خلق الإنسان من إبداع الصنع وإحسان الخلق
وذكر الأطوار التي تكون للجنين في الرحم وأنه يكون نطفة، ثم يصير علقة، ثم
يصير مضغة فتخلق المضغة عظامًا، فتكتسي العظام باللحم؛ فإنما يذكر الظواهر
التي يشترك سائر الناس في إدراكها فإذا أثبت علم الأمبريولوجيا أن النطفة تشتمل
على حيوان إنساني، وأنه يتصل ببويضات في الرحم يلقحها فيتكون من مجموعها
إنسان يتطور في الرحم في أطوار شتى، وإذا أثبت هذا العلم بواسطة
الميكروسكوب أن تلك النطفة التي يراها الناس علقة ومضغة هي في الواقع إنسان
تام الأجزاء، ولكنه غير تام التكوين، فهل ينفي ذلك أن النطفة صارت علقة وأن
العلقة صارت مضغة؟ وهل يطعن ذلك في القرآن أو ينقضه؟ كلا، وكيف
يكون العلم ناقضًا للقرآن أو مكذبًا له، وكيف يعادي القرآن العلم والقرآن يحيل
الناظر على العلم ويزكيه ويصدقه وينبئ بأن في الكائنات أسرارًا وآيات قد فصلها
لقوم يعلمون؟ وهل يزكي القرآن العلم والعلماء هذه التزكية ويأمرنا بسؤال أهل
الذكر في قوله: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: ٤٣) ثم هو
مع هذا يعادي العلم ويرد حكمه؟ لا أظن عاقلاً يسلم بهذا.
بقي من الأمثلة التي ساقها الدكتور مسألة خلق السموات والأرض وتحديد مدة
الخلق وما بين مذهب النشوء والارتقاء وبين القرآن من خلاف؛ فأما مذهب النشوء
والارتقاء، فلا يزال العلماء الباحثون فيه يرونه نظريًّا غير مدلل ولا مبرهن،
فليس من بأس منه على القرآن على فرض أن في نظرياته ما يخالف القرآن.
وكذلك مسألة خلق السموات والأرض لم يأت القرآن فيها بتفصيل ينفيه العلم.
فجملة ما يفهم من ظاهر الآيات أن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقتا [٤]
وأن السماء كانت كالدخان [٥] ، وأن الأرض تم تكوينها قبل أن تخلع السماء
صورتها الدخانية المعتمة، وتلبس هذه الصورة ذات اللون البهيج، وظاهر القرآن
أيضًا أن السموات سبع طباق، وأنها ذلك الشيء البديع الصنع، المنسق الأجزاء
المحكم البناء، المحيط بالأفق الذي يسحر العقول {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً
مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ} (الملك:
٣) .
هذه هي السموات، لم يعرض القرآن لبيان حقيقتها ولم يكشف عن ماهيتها
ولا عن حقيقة ذلك الشيء ذي اللون الأزرق البديع؛ فإذا أثبت العلم أن الأرض
جزء من الشمس فليس في القرآن ما ينفي ذلك، وقد يكون فيه ما يثبته؛ وإذا أثبت
العلم أن هذا الشيء الأزرق الذي يعلو رؤوسنا ويسمى سماء هو فضاء تسبح فيه
الكواكب، وأن من الكواكب والنجوم ما لا يصل إلينا نوره إلا بعد ألوف أو ملايين
من السنين؛ فليس هذا بالذي يضير القرآن في شيء، أليس هذا الفضاء في رأي
العين متسق الأجزاء كالبناء متناسق التركيب ما ترى فيه من تفاوت؟ وكونه سبع
طبقات لا يختلف في شيء مع العلم، أليس العلم قرر أن هذا الفضاء مَسْبَح للكواكب
وأن هذه الكواكب متفاوتة البعد في طبقات متمايزة؟ وماذا يمنع من أن هذا
الفضاء سبع طبقات متمايزة لكل طبقة منها خصائص ليست للطبقة الأخرى؟
وأما تحديد مدة الخلق بستة أيام وما فيه من زعم منافاته للعلم فقد أجاب القرآن
الكريم عنه فدل على أنه {تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤٢) فلئن كان
العلم يثبت أن الدنيا قديمة العمر، وأنها مرت في أطوار مختلفة كل طور منها
استنفذ آلافًا من السنين؛ فإن القرآن يصرح بأن من الأيام ما يقدر عند الله بألف
سنة، بل منها ما يقدر بخمسين ألف سنة قال تعالى: {وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ
سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (الحج: ٤٧) وقال: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (المعارج: ٤) ثم إذا لاحظنا أن لغة العرب تستعمل السبعين والألف أمثالاً
لإفادة الكثرة من غير قصد إلى التحديد بالعدد المعين، لم يكن ثمَّ مانع من أن يراد
بهذا العدد الكثرة التي تتناول ملايين السنين [٦] .
هذا تأويل بعض ما أشكل على الدكتور من آي القرآن الكريم لم نخرج فيه
عما يفهم من ظاهر اللغة وظاهر القرآن، ولم تحتج في بيانه إلى ارتكاب تجوّز
نلتمس له القرائن العقلية وإن كان هذا مما أذنت به اللغة ونطق به القرآن في كثير
من الآيات.
ولئن فرض أن السلف أو غيرهم لم يفهموا من بعض آي القرآن ما يفهمه من
بعدهم، ولئن أَوّل العلماء آية كريمة، فكان في بعض تأويله غير موفق؛ فليس
ذلك بالذي يضر القرآن في شيء، فإن القرآن لم ينزل للسلف وحدهم، ولقد كان
القرآن ولا يزال حجة قائمة على المدارك والإفهام.
وبعد فماذا بقي في مقال الدكتور من شبهة يحتاج القارئ إلى أن نتحدث معه
في شأنها؟ أستغفر الله لقد أُنسيت.
بقي الأمر الثالث الذي حدث عنه الدكتور بأنه أعظم من الأمرين الأولين
خطرًا، وأبعد منهما في تحقيق الخلاف أثرًا، بقيت ثالثة الأثافي، بقي أن العلم
يطمع في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله، وأنه يعده ظاهرة اجتماعية وأنه لم
ينزل من السماء وإنما خرج من الأرض.
وليس بعجيب أن يطمع العلم في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله ما دام
هذا العلم من نوع ما يدعيه دكتورنا لنفسه، ولكن العجيب أن نطمع من دكتورنا في
أن لا يختم بحثه بضرب من التناقض والسخف أفظع وأشنع مما بدأ به بحثه فيترك
القارئ يستمتع ببقية من عقله بعد أن يفرغ من قراءة هذيانه؛ فلقد رأيت مما
قدمناه من المقال أن الدكتور يقول بملء فِيهِ: (إن العلم ينصرف انصرافًا تامًّا عن
البحث في وجود الله ونبوة الأنبياء - وهما أساس الدين - إلى ما يمكن أن يتناوله
بالبحث والتمحيص ويقرر أن العلم لا يستطيع أن يتناولهما بالبحث
والتمحيص وأنت لا تراه الآن ينقض ما قرره أولاً ويعود فلا يكتفي بأن
يطمع العلم في إخضاع الدين لبحثه، بل يزعم أن له الحق في أن يضع الدين
نفسه موضع البحث، وقد فعل فهل رأيت كهذا التناقض والتخبط؟
على أننا نصرف النظر عن هذا التناقض أيضًا، ونسأله ماذا يقصد بالدين
الذي يعده ظاهرة اجتماعية؟ ويزعم أنه لم ينزل من السماء وإنما خرج من
الأرض؛ فإذا كان يريد من الدين مجموع العادات والأحوال التي يكون عليها الناس
في وقت من الأوقات، فله أن يسمى هذا ظاهرة اجتماعية لا ننازعه ولا ندفعه عن
ذلك؛ وإذا أراد به التعاليم المعينة التي أرسل بها نبي من الأنبياء إلى أمة من الأمم
فإننا لا نسلم له بذلك فإن المعروف من تاريخ الديانات أن الآتين بها لاقوا من
عنت أممهم وعدائهم ما لاقوا، وكم ذاق الأنبياء من أممهم صنوف العذاب والتنكيل،
وليس حديث موسى وهارون وما لقيا من عنت بني إسرائيل، وليس حديث محمد
- صلى الله عليه وسلم - وما لقي من أذى قومه بالذي يؤيد زعم الدكتور، ولو كان
الدين المنزل ظاهرة اجتماعية اقتضتها روح الأمم والجماعات، كالثورة الفرنسية
وغيرها من الثورات، لثارت الأمم له ولم تثر عليه، ولجأت به الجماعة لا الفرد،
ولكن إذا جاء به الفرد تلقته أمته بالتكريم والتبجيل لا بالتعذيب والتنكيل، وهذا غير
ما عرف من تاريخ الديانات.
أرجو أن يكون في هذا البيان شفاء لما عسى أن يكون قد علق بنفس القارئ
من شبه الدكتور طه ووساوسه وأن يكون هذا البحث قد انتهى بنا إلى النتائج
الصحيحة الآتية:
وهي أن الدين المنزل من عند الله لا سيما دين الإسلام ليس بينه وبين العلم
من خلاف ولا خصومة، وأن الإسلام والعلم سيبقيان صديقين وفيين وحميمين
متآلفين يتعاونان على خير الإنسانية حتى يصلا بها إلى منازل السعادة والكرامة
ويكون الناس بهما إخوانًا على سرر متقابلين.
كم أحب أن يفكر الدكتور طه في عاقبة طيشه وتهوره، وكم أود أن يتروى
في بحثه وفيما يكتب، وألا يطير وراء الشهوات، ولا ينخدع بما يقرأ له في كتب
الفرنجة من الأباطيل والترهات، وأن يتجنب الكلام في شئون الدين ويحتفظ لنفس
إن أراد أن يفتتن بآراء الملحدين، إنه إن فعل ذلك يعصم مصر من شر مستيطير،
ويرح نفسه من عناء كثير، فليس الإسلام كالمسيحية وليست مصر كفرنسا؛
فللشرق كرمه ووداعته، وللغرب تهوره وحدته.
ومصر وإن كانت كغيرها من بلاد الله جادة في حياتها العقلية فإنها بالغة
بفضل دينها وإيمانها وعزائم رجالها فوق ما بلغته الأمم الأخرى التي تقدمتها، فلئن
كانت الأمم الأخرى قد وجدت من دينها عقبة تمنعها من النهوض فاضطرت للثورة
عليه، فإن مصر ستجد من دينها وتأييده لها على ما تحاوله من الآمال الشريفة خير
عون، وأقوى ظهير تركن إليه، إن شاء الله.
... ... ... ... ... ... ... محمد أحمد الغمراوي
... ... ... ... ... ... ... ... المدرس بمعهد أسيوط
***
ملحوظة
هذا البحث قدم إلى جريدة السياسة الأسبوعية في يوم الخميس ٢٩ يوليو
رجاء نشره كما نشرت مقال الدكتور طه حسين فوعدت وسوفت ثم أخلفت.

(المنار)
هذا يدل على أن السياسة لا تنشر أمثال تلك المقالات الإلحادية من باب حرية النشر الواسعة بل هي لسان حال هؤلاء الملاحدة الإباحيين في هذا الباب، كما أنها لسان حال حزب الأحرار الدستوريين في السياسة، بل ظاهر إطلاقها أنها لسان حال هؤلاء يشمل هذا ولكننا نعرف منهم أفرادًا أولي دين وعسى أن يحملوها على ترك الدعاية الإلحادية أو ينفصلوا من حزبها محتجين.