للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: البستاني


أفضل الوسائل لإنهاض السلطنة

فصل جليل ختم به كتاب تاريخ الحرب البلقانية
للبستاني
خطر لنا عند الفراغ من تأليف هذا الكتاب، أن نستطلع آراء نخبة من أكابر
العلماء وفحول الكتّاب، عن أفضل وسيلة تنهض بالسلطنة بعد كبوتها، وتزيد في
يقظة الأمة بعد غفوتها. فسألنا مَن أسعدنا الحظ بالوصول إليه قبيل صدور هذا
المؤلف أن يصوغ لنا فكرته الأساسية في أسطر قليلة فتكرّموا بتلبية الطلب، أدامهم
الله زهرًا نضيرًا في بستان العلم والأدب. وإليك آراؤهم مرتبة حسب تواريخ
ورودها.
***
رأي سياسي شهير
كتب إليَّ عالمٌ كبير لم يشأ أن ينشر اسمه قال: إن الأمر عويصٌ جدًّا لأن في
السلطنة فواعل كثيرة متناقضة وبعضها خفي. ولقد سمعت مرة المرحوم نوبار باشا
رئيس الوزارة المصرية الأسبق يقول: إن لورد دربي ألقى عليه سؤال مثل سؤالك
وطلب منه أن يرتأي رأيًا أو يضع مشروعًا نافعًا للسلطنة العثمانية، قال نوبار:
فأخذت القلم وكتبت (أنْ ينشأ في السلطنة محكمة مختلطة مستقلة ترفع إليها
الشكاوى من المأمورين فتحاكمهم وتنفذ الحكومة ما تحكم به عليهم) .
فما أدق هذا الانتقاد، وما أرق هذا التهكم! ...
***
رأي القانوني الكبير، والعالم الاجتماعي الشهير
سعادة فتحي باشا زغلول
أقرئك السلام وبعد، فسؤالك هام ومطلبك أهم.
الدولة العلية رعاك الله مجموع يحتاج في سياسته وإنهاضه إلى حكمة عالية
وبصرٍ بالأمور كبير، فإذا غلب الرأي الهوى، وبطل التفاضل بين العناصر،
وأقيم وزن العدل وتساوى الناس جميعًا في الحقوق وفي الواجبات، وإذا خلصت
نيات أهل الزعامة وصدقت عزائم ذوي الرئاسة، ففضلوا مصالح الأمة على المنافع
الفردية، وجدَّ الكل في طلب الإصلاح، فنشروا التعليم وعنوا بالأمور الاقتصادية،
فاستبقوا لأنفسهم مرافق البلاد وكنوزها، وذللوا السبل وأمنوا السابلة وقربوا
المسافات، ثم ازدرعوا واحترفوا واتجروا فأحرفوا، وإذا احكموا نظام الجند
وهذّبوه. لا شك أن الدولة ناهضة من سقطتها، وإن الأمة ناشطة من عقالها، وأنها
نائلة مِن الحضارة والمناعة مكانًا عليًّا.
***
رأي العالم العامل الشهير، والصحافي المحنك الخبير
الدكتور فارس أفندي نمر صاحب المقتطف والمقطم:
حضرة الفاضل؛ إن كان المقصود مِن (السلطنة) في سؤالكم: (الحكومة
والأمة) في حالتهما الحاضرة أي الدستورية فوسائط إنهاضها متعددة منها ماديّ
ومنها أدبيّ، ولكل واسطة منها قوة لا يُستغنى عنها، وخصوصًا وسائط العلم والمال.
على أن في الحكومة وفي الأمة رجالاً مِن ذوي العلم وذوي المال فلا يعوزهم
إدراك ولا يسار، ولكنِ الذي ينقصنا هو تربية الحكومة على الأخلاق القويمة،
والصفات المنظمة والمرقية لشؤون الهيئة الاجتماعية، حتى نستطيع الاتحاد
والتعاون على تدبير أمورنا وإنجاح أعمالنا ونحن جماعات، كما يستطيع كثيرون
منا اليوم تدبير أمورهم وإنجاح أعمالهم وهم أفراد.
***
رأي شيخ الأدباء، وكبير الشعراء
سعادة إسماعيل صبري باشا
التوظيف: إذا أراد التركي أن يستبقي ما بقي له مِن مُلكه فلا يفرقن بين
التركي وسائر الأجناس التي تتألف منها الدولة العثمانية؛ بل يجب عليه أن يفضل
في التوظيف في كل بلد أهل الكفاءة من بنيها، فلا يوظف التركي في بلد غير بلده
الأصلي إلا إذا كان يتعسر وجود أكفاء مثله من أبناء ذاك البلد، فتتعود جميع
العناصر التي تتألف منها الدولة حب الراية التي تظلهم، والأراضي التي تقلهم،
فيقوم عندئذ وطن عثماني حقيقي يحبونه ويَذُبُّونَ عنه في اليوم العصيب.
التعليم: التعليم مِن أوجب الواجبات لنهوض الشعب العثماني مما هو فيه،
ولا يراد بالتعليم أن يصبح جميع الأفراد من العلماء؛ بل يكفي أن يكون هناك عدد
وافر من المتعلمين يسيرون بالدولة إلى مقام الشعوب الراقية، وأن يتعلم باقي أفراد
الأمة ما يمكنهم مِن فَهم قادتهم وأرباب الرأي فيهم.
العدل: العدل بسيطٌ في معناه؛ صعبٌ في تنفيذه بين الأفراد، وأكبر آفاته
الغرض والرشوة. فإذا أرادت الدولة أن يسود فيها العدل فلتصرف كل جهدها في
ملاشاة هاتين الآفتين، ولنحذر مِن أن تستعين بالأجانب في سنِّ قوانينها وتوزيع
العدل بين رعاياها، ومِن أن تطلب غير أبناء بلادها لإقامة العدل وسنِّ القوانين.
وإلا تعذّر عليها أن تجد عدلاً وطنيًّا متفقًا مع أخلاق أمتها وعاداتها. وما يقال في
العدل يقال أيضًا في سائر فروع الإدارة. وإذا كانت الحكومة لا تجد مندوحة عن
الآستانة بالأجانب الأكفاء فلا تطلبهم من حكوماتهم؛ بل تكلفهم وضع التقارير بعد
اختبارهم لحالة البلاد، ثم تأخذ النافع والموافق لعادات الأهالي من تلك التقارير دون
أن تجعل أصحابها موظفين رسميين.
***
رأي العالم الاجتماعي الشهري
الدكتور شبلي الشميل
الدولة لا تنهض إلا بثلاثة: رجالٍ ومالٍ ووقتٍ، والرجال بالعلم والتربية،
والمال بالموارد. فهل ذلك متوفر - ولا سيّما الوقت - وحالنا في الاجتماع كما هي
من قلة التكافؤ مع ما هو عليه اليوم من شدّة التنازع؟
والجواب على ذلك يدل على المصير.
***
رأي الأستاذ الفاضل أبو شادي بك
رئيس تحرير جريدة المؤيد
رأيي أن الدولة لا تنهض من سقطتها ولا تعود إلى سابق مجدها إلا إذا توفر
لديها ما يأتي:
أولاً: تعميم التعليم في أنحاء البلاد وجعل الأولي منه إجباريًّا.
ثانيًا: إزالة التنافر بين العناصر ولا يكون ذلك إلا بمنح كل ولاية الاستقلال
إداريًّا داخليًّا؛ حتى يعلم كل فرد أن اجتهاده منصرف إلى بلده وإلى نفسه.
ثالثًا: إيجاد الأكفاء من الموظفين؛ إذ بغير شكٍّ إن قوانين الدولة عادلة ولكن
تنفيذها معدوم.
رابعًا: إصلاح جباية الضرائب بحيث تكون الضرائب متسلطة على الأعيان
لا على الحاصلات وتنظيم أوقات تحصيلها.
خامسًا: نزع السياسة من أفكار الجيش.
سادسًا: تعميم اللغة العربية في جميع الولايات وبين المسلمين بنوعٍ أخص،
وذلك لأن مظهر الدولة إسلامي والقرآن عربيٌّ.
***
رأي العالم الإسلامي الكبير السيد رشيد رضا
منشئ مجلة المنار
الدولة كائن حي، يحفظ وجودها بالسنة التي تحفظ بها حياة سائر الأحياء،
وهي سلامة مزاجها في نفسها ووقايتها مما يعدو عليه من الخارج.
فأما سلامة مزاج دولتنا العثمانية في نفسه؛ فإنما يكون بإقامة الشرع العادل
في القضية، والمساواة في الحقوق بين الرعية، وبناء إدارة المملكة على أساس
اللامركزية، وجعل السلطة العليا شق الأُبلمة بين العنصرين الكبيرين فيها - العرب
والترك - بحيث يكونان منها كالعنصرين اللذين يتكون منهما الماء أو الهواء. وأما
وقايتها ممّا يعدو عليها من الخارج فهو الآن منوط بدول أوربا الكبرى فهن أصحاب
المطامع فيها، ومطامعهن متعارضة. وما دامت كذلك كانت الدولة آمنة على نفسها
من اقتسامهن إياها بالقوة، فيجب أن تتقي استيلاءهن على البلاد بقوة المال
والسياسة، أي بالفتح السلمي، وأن تقوي مزاج الأمة بالمال والعلم وإعدادها للدفاع
عن نفسها. فإذا هي فرطت في مرافقها وأملاكها فباعتها للأوربيين، وبقيت على
تبذيرها، وتوهمها أنها تستطيع أن تحمي نفسها منهن بقوتي الدولة البرية والبحرية
الرسميتين، ولم تجعل كل اعتمادها على الأمة، فالخطر عليها من الفتح
السلمي، أقرب وأقوى من خطر الفتح الحربي.
***
رأي الكاتب التحرير الشهير داود أفندي بركات
رئيس تحرير الأهرام
رأيي في إصلاح السلطنة العثمانية أن تقسم مناطق، وأن تكون كل منطقة
مؤلفة من العناصر المتفقة في التقاليد، العادات واللغة، فتعطى الاستقلال الإداري
تبتّ مِن أموره كل ما لا يتناول منطقة أخرى أو أكثر من منطقة. ويعيّن لكل
منطقة مندوب سامٍ يعاونه مجلس إدارة يؤلف من الفنيين في الأمور المالية والإدارية
والقضائية والعسكرية، ويؤخذ للمركز العام جزء معين مِن دخل كل منطقة، وتلغى
الضرائب العشرية، وتقرر ضرائب ثابتة معينة على الأملاك، وتوضع قوانين
للشركات على اختلاف أنواعها، ويوحد القضاء فلا يكون من اختصاص رجال
الدين إلا الأمور الشخصية، فتكون الدولة مؤلفة من ولايات متحدة أو مناطق متحدة.
ذلك رأيي في إنهاض السلطنة بسرعة.
***
رأي العالم المؤرخ جرجي بك زيدان
صاحب مجلة الهلال
العلة الحقيقية في حال الدولة العثمانية اليوم فقر المملكة واضطراب الحكومة.
والحكومة الدستورية في أيدي الأمة، والأمة العثمانية ضعيفة الأخلاق،
عريقة في الانقسام، بسبب ما توالى عليها من أعصر الفساد.
أما المملكة ونعني الولايات الباقية منها في آسيا فليس فقرها أصليًّا فيها،
وكل ولاية منها كانت في بعض الأزمان مملكة قائمة بنفسها، فالعراق كانت وحدها
مملكة البابليين والآشوريين، وبها اعتزّ العباسيون في إبان دولتهم، وكانت جبايتها
ثلث جباية مملكتهم الواسعة الممتدة من حدود الهند إلى شواطئ الأتلانتيكي.
وسوريا كانت مؤلفة مِن عدّة دول ثُم اعتز بها السلوقيون أجيالاً، وكذلك آسيا
الصغرى، وظلّت مدة هي أعظم أركان الدولة العثمانية.
فهذه الولايات إذا أحسنت سياستها وإدارتها صارت غنيّة. وهذا لا يتم والأمة
كما تقدم. فالوسيلة المثلى للنهوض بالدولة العثمانية إنما هي ترقية الشعب، وهو لا
يقدر أن يرقّي نفسه رغم استعداده الطبيعي للرقي. وقد يقوم بذلك حاكم عادل عاقل؛
إنما يشترط أن يكون مستبدًّا، وهذا لا يتيسر والحكومة دستورية. فلا بد مِن
الاستعانة بالأجانب وأسلم الطرق أن تتحالف الدولة العثمانية مع دولة تثق بصداقتها،
فتستعين برجالها على إصلاح حكومتها وترقية شعبها وصيانتها مِن مطامع الدول
الأخرى، بشرط أن لا يكون لهذه الدولة مطمع في الاستعمار. فإذا وفقت إلى ذلك
في أثناء أربعين سنة نهضت واسترجعت رونقها.
***
(رأي الشاعر الكاتب الطائر الصيت)
خليل أفندي مطران
أخي، سألتني عمّا أرتئيه لإصلاح الدولة العلية. فالذي أرتئيه إنّما هو
أمر واحد يلخص في كلمة واحدة: التعليم.
منذ عشرين سنة أرقب حوادث الدولة وأستقرئ ما يجري فيها، فالذي بدا لي
مِن شأنها في كل حال: أن الحكام كانوا لا يهتمون بإصلاحها اعتمادًا منهم على
جهلِ الأمة وعلى تسليمها لهم بسبب ذلك الجهل، وأن المحكومين كانوا فاقدي الحيلة
في التماس مَا هو خير لهم وكانوا صابرين على مضض. وربما أومض لهم بارق
الإصلاح في إحدى المصادفات فتألموا منه تألمهم من الرمد المفاجئ.
فهؤلاء المحكومين ما لم يتعلموا لا يقيمون لأنفسهم وزنًا ولا يفرّقون بين حقٍ
لهم وحقٍّ عليهم، كما أن أولئك الحكام أيًّا كان جنسهم ودينهم يلبثون أبد الدهر
متنكرين لأمتهم جانين عليها، إلا حيث تضطرهم إلى الإصلاح اضطرارًا، وتأخذ
منهم قسرًا ما يأبونه عليها اختيارًا. وكل ذلك لا يتم شيء منه إلا بالتعليم.
***
رأي الكاتب الشهير
محمد أفندي مسعود
حياة الدولة في مستقبلها، ومستقبلها في حكومة كفيلة باسترجاع مجدها
المضيّع، وهذه الحكومة لا توجد؛ إلا متى عرف رجالها قدر أنفسهم. فوضعوها
فوق عبث الأحزاب.
***
رأي الصحافي الخبير والكاتب الألمعي
سامي أفندي قصيري
المحرر في المقطم
لمّا كانت الدولة العثمانية فيما مضى دولة استبدادية قائمة على حكومة الفرد
كانت تقوى بقوة ذلك الفرد وتضعف بضعفه وتسعد بسعده وتشقى بشقائه. أمّا الآن
وقد أعلن فيها الحكم الدستوري مراعاةً لأحوال الزمان والمكان وتبدلت حكومة الفرد
بحكومة الأمة، فصلاح الحكومة قائم بصلاح الأمة. لا يكون ذلك في رأيي إلا
بنشر التعليم الحر بين طبقاتها، والفصل بين دنياها ودينها، والتأليف بين
عناصرها وطوائفها، حتى تصبح جميعها كتلة واحدة يحركها من أعلاها إلى أسفلها
عامل واحد، وهو عامل الوطنية، وتجمعها مِن أقصاها إلى أدناها جامعة واحدة
هي الجامعة العثمانية.
***
رأي الكاتب الشهير فرح أفندي أنطون
صاحب مجلة الجامعة
إن سنّة التطور (evolution) التي تحكم العالم المادي والعالم الاجتماعي
أمر لا مفرّ منه. فما السبيل إلى جعل التطور في السلطنة لا عليها؟ لا أظن أن
صديقي المؤلف يكلفني الجواب على هذا السؤال في بضعة أسطر. على أن كل ما
يقوله الكاتب ويفكر فيه المفكر في هذا الشأن أمر معلوم، فما تنقصنا الأقوال ولكن
تنقصنا الأفعال.
فقد يقال: العدل والسواء وتوسيع سلطة الولايات وقطع دابر الرشوة بحسن
اختيار الموظفين وشدة مراقبتهم وإصلاح المحاكم وتنظيم البوليس وتقويته وإنشاء
الطرق الحديثة واستثمار الأرض ظهرها وبطنها (الزراعة والمعادن) وإحياء
الصناعة والتجارة والمستشارون الأجانب وتنظيف الدوائر العليا والدنيا ... إلخ.
وكلها أشياء جميلة. ولكني أرى أمرًا آخر مقدمًا عليها - وإن وجد المال
وقوة الإرادة لإنفاذها - وهو ما أسميه (الانسلاخ) ؛ أعني به انسلاخ الرجل
الشرقي القديم - وكلنا ذلك الرجل - مِن جلده القديم وروحه القديمة واتخاذه جلدًا
جديدًا وروحًا جديدة، ومعنى هذا - بكلام مجرّد مِن الزخرف والخيال - تفسير
السياسة التي حكمت بها السلطنة وجعلها بوزيتيفست (POSITIVISTE) وهنا
المشكلة العظمى. فإنه يجب بناء أعمال الحكومة على هذه السياسة من غير أن
يصدم هذا البناء معتقدات العناصر المختلفة وأوهامها، أي سوق التطور في طريق
هذه السياسة من غير أن يؤدي إلى كسرٍ في أعضائها. ورأس سياسة البوزيتيفست
أن يفصل الدين عن السياسة الدنيوية عند جميع العناصر العثمانية. وبعد هذا
الفصل يمكن الالتجاء إلى مُوحِّدَةِ الأمة وبَانِيَةِ أساس مستقبلها؛ أعني بها المدرسة
الابتدائية الإلزامية واحدة لجميع أبناء الأمة، وبمعزلٍ عن المذاهب الدينية لتوحيد
أغراض الأمة وأهوائها ما أمكن التوحيد، وجعلها أمة واحدة لا أممًا مختلفة كما هي
الآن.
***
رأي الأستاذ القانوني الشهير
عزيز خانكي بك
يجب أن تبدأ الدولة بإعطاء ولايتها الاستقلال الذاتي الداخلي ثُم تجعل الصلة
بينها وبين ولاياتها كالصلة بين ممالك ألمانيا والإمبراطورية، أو كالصلة بين
الولايات المتحدة الأميركية والجمهورية، ثم تتعاون جميع الولايات على تكوين قوة
الدولة البرية والبحرية؛ بمعنى أن كل ولاية تشترك بنسبة ثروتها.
هذا من جهة سياسة الدولة مِن حيث مجموعها، أما رُقيّ الولايات فلا أمل فيه
إلا بإنشاء المحاكم، ووضع القوانين النظامية على الطريقة العصرية، وإقامة
المدارس، ومد السكك الحديدية، وتوطيد أركان الأمن العام، وإجراء الإصلاحات
العامة اللازمة لكل بلدٍ مثل إنشاء السكك الزراعية، وبناء القناطر للري، وتسهيل
المواصلات البرية والبحرية، وتعميم بعض النظامات الغربية، مثل التلغرافات
والتلفونات وتنظيم البريد داخل الولايات، وتشجيع الأهالي على إنشاء الشركات
للاستثمار بخيرات هذه الأقطار التي يقال إنها كلها كنوز لا تنفد.
***
رأي الأستاذ الفاضل الشهير
إسكندر بك عمون
أصلح نظام للدولة - على ما بين العناصر والولايات العثمانية من التباين في
الحاجات والأخلاق، والعادات والتقاليد، وعلى ما بين أهليها من التفاوت في
الحضارة - أن تجعل ممالك أو ولايات مستقلة في جميع شؤونها الخاصة استقلالاً
تامًّا حتى في قوانينها وفي شكل حكومتها، مع ارتباطها جميعًا في الشؤون العمومية
على نحو نظام الولايات المتحدة الأميركانية أو الممالك الجرمانية، فتسمى حينئذٍ
الولايات أو الممالك العثمانية المتحدة.
ولهذا النظام مزية على كل نظامٍ آخر وهي: أنه النظام الوحيد الذي يمكنه أن
يجمع بين الولايات والإمارات العربية في جزيرة العرب وسائر الولايات الممتازة
وغير الممتازة.
***
رأي الكاتب العالم نجيب بك البستاني
أحد مؤلفي وأصحاب دائرة المعارف البستانية
أهم ما يجب لإحياء أمر الدولة العثمانية وإعلاء شأنها إنما هو العدل الصحيح
في الرعية، وإصلاح المالية، فهما أساس الملك وبهما قوام الدول. ذلك بأن
تشترك جميع عناصر المملكة على نسبة كل منها إلى المجموع فيعهد في الوظائف
إلى ذوي الكفاءة، وتؤدى الرواتب في مواقيتها، وتوضع المكوس على ما تطيق
الرعية، وتستثمر المعادن، وتقام أعمال الري والطرق الحديدية وغيرها على
السواء في جميع أقطار البلاد، وتستعمل الدولة في الإصلاح وتعميم التعليم العلماء
الراسخين من الشرقيين والغربيين، ويكون الانتخاب على ما يضمن لكل ملة العدد
النسبي من الأعيان والثواب دون محاباة أو تفاضل، فمتى حصل ذلك توفرت
الأموال واتّحدت كلمة الجيش، وساد الأمن واستوثقت الرعية من الوازع،
وانتظمت الشورى وحصلت الألفة بين الأمم المختلفة، وانصرف همُّ القائمين بالأمر
إلى استصلاح الزراعة وترقية الصناعة والعناية بأسباب العمران، ونبذوا الشقاق
وصدقوا في حب الوطن وتعاونوا على الأمر مخلصين منزهين عن المطامع
الشخصية بما يزيد هيبة الحكومة ويؤيَّد سلطانها.
يتم ذلك - بإذن الله - إذا امتنعت الدول عن تعكير الأمر على العثمانيين
وجرى هؤلاء - نحو ما تقدم - ربع قرن أو ما يزيد؛ لتنال الناشئة - وعليها
المعول في الاحتفاظ بعمل الإصلاح - من العلم والمدنية والمران على الأعمال ما
يضمن للدولة كيانها وعظمتها، وللعثمانيين اتحادهم واستقلالهم.
***
رأي الكاتب البليغ
الأستاذ أمين أفندي البستاني
سألتني رأيي في الدولة ومصيرها: جاز بالدولة في هذا العام عبرة كبرى إذا
لم تعتبر بها نالها ما هو أشر منها.
وللدولة الآن بقية ملك هو أبعد مدى وأمنع حمى وأطيب بقعة من جُلّ الممالك
الأوربية، فهل لها أن تعدل في الباقي من هذا الملك وتمنعه حادثات الدهر؟ الله
أعلم. على أن الدولة لا تجهل أشراط الملك على المالك، وما هو مبقٍ له وما هو
ذاهبٌ به، حتى لقد أصبحت الدلالة على وجوه الإصلاح المنشود من مبتذلات
الكلام، وملوكات الأفواه والأقلام، فهل للدولة أن تعمل بما علَّمها الدهر؟ على
حين لم يبق لها من ناصر إلا ما تسعى إليه من ترميم هذا الملك العزيز، وإلا فقد
قضى الله بما لا دافع له ولا مانع له، وحسبكم الإشارة يا ألباء هذه الدولة. فاعدلوا
بين ضروب الرعية؛ لأن دولتكم مستمدة من جُملتها لا من أبعاضها، وقدّموا الكفء
على غيره مهما كانت نبعته ومنبت أسلته، واستعملوا الأجنبي في تدبير ما أنتم
ضعاف عن تدبيره، واسلكوا القصد في عملكم من غير سرفٍ ولا تفريطٍ، وخذوا
بالجديد الصالح واخلعوا القديم؛ ثُم أعدّوا للملك عدّته مِن رجالٍ ومالٍ، واللهُ الواقي
في هذا الباقي.
***
رأي أستاذنا الاجتماعي الكبير
أحمد لطفي بك السيد
مدير الجريدة
(وصل في آخر ساعة لغياب حضرته عن القاهرة)
راجعت نفسي فوجدتني غير حاصل على المقدمات التفصيلية اللازمة لتكوين
رأي صحيح في الوسائل العلمية لإصلاح الدولة العلية، وإن الذين يستطيعون
معرفة هذه الوسائل هم رجال الدولة المشتغلون بسياستها والواقفون بأنفسهم على ما
أجهله من المقدمات الضرورية لتكوين رأي صحيح؛ غير أن لرقي الأمم وهبوطها
قوانين قد تكفي لتكوين رأي إجماليّ ونظريّ في الإصلاح.
مهما كانت الأسباب التي حملت أوربا على اضطهاد الدولة العلية فلا شك في
أن وقوعها في الضعف والهرم هو أهم تلك الأسباب، وليس يوجد مانع طبيعي
يمنع الدولة بعد أن مسّها الهرَم مِن استعادة شبابها بالأخذ بالتعليم الحديثة مِن حيث
الحكم والتربية والتعليم وتدبير حالها الاقتصادية على وجهٍ يكفل لها النظام والقوة.
ولست أجد في هذا الحاضر ما يرجح كِفّة تُوقع الشر في المستقبل على كِفّة انتظار
الخير. فإذا قام العنصر الحاكم باحترام أطماع العناصر المحكومة والنهضة بالأمة
عن الجمود إلى التسلح بجميع الأسلحة الحديثة؛ إن في التربية وإن في الاقتصاد،
أمكن الحكم بهذه الدلائل على الإصلاح المنتظر.
نعم، إن للظروف الخارجية دخلاً في إصلاح الدولة ولكن العثمانيين هم
المسؤولون وحدهم عن إجراء هذا الإصلاح، عليهم عمل ما في قدرتهم، والله
يتولى أمر ما لا يقدرون عليه.
(المنار) :
هذه آراء أشهر حَمَلَةِ الأقلام وعلماء السياسة والقوانين مِن المصريين
والسوريين، وأكثرهم متّفقون في الرأي فيما صرّحوا به وما لم يصرّحوا، ولا تكاد
ترى خلافًا صريحًا بينهم إلا في مسألة استخدام الأجانب أو استعانة الدولة بهم،
أجازها أو أشار بها بعضهم تصريحًا أو تلويحًا وحذّر منها بعض وأهملها الأكثرون.
وصرّح جماعة بمسألة اللامركزية أو الاستقلال الإداري للولايات أو الأقاليم،
ولم يحفل هذا الجمهور بمسألة القوة الحربية ولا البحرية التي تعدها الدولة بتقاليدها
الموروثة كل شيء، وما انفردنا بإبداء الرأي في مسألة الدفاع، فلتعتبر بهذه الآراء
الأمة وإن لم تعتبر بها الدولة.