ومدرسة دار الدعوة والإرشاد كلمة الأستاذ عبد السميع البطل في حفلة تأبين الفقيد
إن طريقة الوعظ والإرشاد ليست من الصناعات التي يستطيع كل إنسان أن يزاولها في مهارة وحذق، ولكنها ملكة من الملكات التي قد يحسنها قليل العلم، ويتخلف عنها أكثر الناس تحصيلاً، وقد نشأ فقيدنا ونشأ معه الميل إلى وعظ العامة وإرشادهم، بما كان يتصدى له أولاً في صدر شبابه من قراءة الدروس في قريته القلمون من أعمال طرابلس الشام، ثم بما كان من إنشائه المنار ثانيًا، واستهدافه بالإجابة على الأسئلة التي كانت تنحدر إليه كالسيل من الشرق والغرب، في المسائل المنوعة، وجرأته وصراحته في تقديم النصيحة للملوك والأمراء وكبار الحكام والعلماء - إحياء لسنة السلف - مما جعله أندى العلماء صوتًا، وأبعد المصلحين صيتًا، وأسير المجددين ذكرًا، وأكثر الكتاب أثرًا. وقد قويت رغبته في أن يتولى هو نفسه تربية طائفة من الشبان يصنعون على عينه، يقوم بعضهم بواجب الدعوة إلى الإسلام، ورد شبهات المعترضين عليه، متسلحين بما يتسلح به أمثالهم من رجال الدعوة في الأمم الراقية، من الجمع بين علوم الدين، وما لا بد منه من علوم الدنيا، ويقوم الفريق الآخر بإرشاد المسلمين إلى ما هو أجدى عليهم في دينهم ودنياهم، مع خبرة بحال العصر، وما ينبغي أن يكون عليه المرشد من مسايرة الزمن. كانت هذه أمنية تعتلج بنفسه منذ كان يتردد وهو طالب بطرابلس على مكتبة المبشرين الأمريكيين، يقرأ جريدتهم الدينية، وبعض كتبهم ورسائلهم، ويجادل قسوسهم. وفي سنة ١٣٢٧ كان الخلاف بين الترك والعرب مستمرًّا، فرأى أن يشخص إلى الآستانة ليقضي على عقارب الفتنة، متوسلاً إلى ذلك باتصاله بكبار الدولة هناك، وبما كان يكتبه من مقالات في جريدة (إقدام) وجريدة (كلمة الحق) ثم في جريدة الحضارة، ولشيء آخر شغفه حبًّا، وكان مستهامًا به صبا، وهو تأليف جماعة لإنشاء مدرسة للدعوة والإرشاد. اختار إمامنا أن تكون الآستانة مشرق ذلك النور، ومبعث هذا الإصلاح، وقبلة التأليف بين العرب والترك؛ ليكون المشروع بنجوة من مهابِّ السياسة وأعاصير الفتنة، وفي الآستانة سلخ عامًا كاملاً، يروج للمشروع، ويقنع به كبار المسئولين، فلقي أولاً ترحيبًا به ومعاضدة، وتقرر أن تكفله وزارة الأوقاف، وتألفت الجماعة من كبار رجال الدولة للعمل وإعداده في تفصيل واسع لا محل لبيانه هنا، ولكن بعض الأيدي كانت تعمل من وراء الستار للنهي عنه والنأي عنه، فقضي عليه وهو جنين، وعاد فقيدنا من الآستانة - كما كان يعود منها كل مصلح - ساخطًا ناقمًا، ولكنه لم ييئس من روح الله، فجدد السعي هنا بمصر، وألف الجماعة، واختير أعضاؤها من أهل الفضل والغيرة، ووضع لها قانونًا من أدق القوانين، وعلم بالأمر الخديوي عباس الثاني فأكبره، وأظهر رضاه عنه، وارتياحه له، وأمدته الأوقاف بمبلغ من المال، ووعدت بمضاعفته، وتبرع له كثيرون من ذوي الأريحية، وأجمع العقلاء على استحسانه - بله وجوبه - وفتحت المدرسة أبوابها في ١٢ من ربيع الأول سنة ١٣٣٠ تيمنًا بعيد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان السيد وكيل الجماعة وناظر المدرسة، بل كان عقلها المفكر، وروحها المدبر. نجحت الفكرة إذًا بمصر، ولقيت معاضدة الأمير واستحسان العقلاء، ولكنها لم تنجُ من إرجاف المرجفين، وأذى المفسدين، فلبس لها بعض الجرائد جلد النمر، وترصدها دعاة النصرانية، وأنذرت القناصلُ دولَها عاقبتها، أن مدرسة أنشئت بمصر سيكون لها من الأثر في تنبيه المسلمين ما سيكون خطره عظيمًا. كانت المدرسة ملتقى الطلبة من جميع الأجناس الإسلامية، التقى فيها المصري والمغربي، والشامي والفلسطيني والعراقي، والتركي والداغستاني، والهندي والجاوي والسومطري. وكان يفضل الأجنبي لحاجة بلاده إلى المتعلمين أكثر. كان الطلبة فريقين، ففريق منتسب يحضر من الدروس ما يشاء، ويتخلف عما يشاء، وفريق يحتم عليه حضور الدروس كلها، ويبيت في المدرسة مكفي الحاجة من مطعم ومسكن وكتب، وكان لهذا الفريق نظام خاص يسلكه في معيشته وتربيته، منه أن يستيقظ طلبته قبيل الفجر للصلاة وتدبر القرآن، ويؤدوا الفرائض كلها في جماعة خلف إمام واحد، ويكثروا من التنفل في الصلاة، والصوم، ويروضوا نفوسهم على آداب الإسلام بقوة فيتحرجون من فعل خلاف الأوْلى، ومن ثبت عليه الكذب كان الطرد جزاءه، وكانت المدرسة في قصر شريف باشا بالمنيل على ضفة النيل الغربية عند قنطرة الملك الصالح فكان الطلبة لا ينزلون إلى مصر إلا بإذن كتابي من الفقيد، بعد أن يذكر طالب النزول كتابة سبب نزوله وموعد غدوه ورواحه، وكان يقول: (إن الذي يكثر الاختلاف إلى القاهرة تبطل الثقة به) لذلك كنا نظل الأسبوع والأسابيع لا نغادر جزيرة الروضة، وكان المجتمع بالأمس غيره اليوم، بل فوق ذلك كان يكلف كل طالب أن يحمل في جيبه مذكرة يدون فيها أعماله حسنها وسيئها؛ ليكون على نفسه حسيبًا، ولأجل ذلك كان لا بد أن يجتاز الطالب سنة تسمى السنة التمهيدية لاختبار أخلاقه وتزويده بالعلم والعمل، وكانت اللغة الفصحى هي لغة التخاطب كما كانت لغة الدرس، ومن وصاياه أن التزام الفصحى يومًا واحدًا خير من قراءة كتاب. مضى على إنشاء المدرسة ثلاث سنين إلا قليلاً، ثم اشتعلت نار الحرب الكبرى وكانت أيامها النحسات، فأُبعد الخديوي وكان لها عضدًا، فغُلت الأيدي إلى الأعناق، وجمدت الأكف عن العطاء، وأعطت الأوقاف قليلاً وأكدت، ثم شحت بالجباية واعتذرت. عندئذ اضطرت المدرسة أن تكتفي بمن فيها من الطلبة، ولم تقبل جديدًا، وألجأتها الضرورة الملحة أخيرًا ألا تلتزم ما كانت تلتزمه من نفقة المأكل والكتب، وظلت تجاهد في العنت في وناء وضعف سنتين، ثم ودعت الحياة تاركة آثارًا حسانًا وميراثًا عظيمًا ممن تربوا في أحضانها وعملوا جهدهم على تحقيق بعض أغراضها، وما أسف العقلاء على شيء أسفهم على حرمان الأمم الإسلامية من ثمرات هذه المدرسة التي كانت موضع الرجاء في انتياش المسلمين مما تهوكوا فيه من مفاسد البدع والخرافات والتقاليد والعادات؛ حتى لقد كان أستاذنا يقول: (لو أني كتبت تاريخًا للمدرسة لكان فضيحة للأمة كلها) يريد أن الأمة الإسلامية المنبثة في الشرق والغرب لم تحسن احتضان هذا العمل المجيد، والاضطلاع به في حين تنفق الأمم الأخرى ملايين الجنيهات على جماعات الدعاة بسخاء واغتباط. ولعلكم تحبون أن تعرفوا عمل السيد في المدرسة، ولقد كان فيها مَعقِد الأمل، وقطب الرحى، والقبلة التي تولى الوجوه شطرها، كان لدروسه أعظم الأثر في إصلاح النفوس، وتثقيف الألسن، كان يدرس التفسير، فتتجلى روح الإلهام الصادق، والبصيرة النيرة ويدرس الحديث والتوحيد والكلام وحِكم التشريع، وتعلم الإنشاء، ويمرن على الخطابة الارتجالية، ويبصرنا بالأساليب الصحيحة وما يهجنها من دخيل أو سوقي أو مبذول، أو وضع للمفردات في غير موضعها، وقرأ قدرًا من البلاغة، وكنا نطالع أمامه في مقالات العروة الوثقى. ولشد ما كانت دهشتنا أول العهد به حين سمعنا لأول مرة لغة فصيحة عالية الأسلوب مرتجلة، وغوصًا على معاني المفردات في دقة، والتقاطًا لفرائد البلاغة في دروس التفسير وغيرها، واستخراجًا لكوامن العبر من ثنايا الآيات البينات، بل لشد ما كان عجبنا حين كنا نراه يبكي في المواضع التي تستدر الدمع، والذين عاشروا السيد يعلمون أنه كان أسيفًا رقيق القلب، سخيًّا بالدمع سخاءه بالمال، وكان يقول، وكتب في (المنار والأزهر) أنه كان يقرأ وِرد سحر أول اشتغاله بالتصوف فإذا مر ببيت المنبهجة [١] : ودموع العين تسابقني ... تجري من جفونك كاللجج ولم يبك، تركه ولم يقرأه لئلا يكون كاذبًا فيخجل أمام ربه. كان السيد مغرمًا بالاستطراد الطويل في غير ملل، فبينما يكون موضوع الدرس تفسيرًا أو حديثًا، أو حكمة تشريع مثلاً، إذا به يحتال للدخول في باب السياسة أو الاجتماع أو تاريخ الفرق ومذاهب المبتدعين أو ما أشبه ذلك، فنخرج من الاستطراد بكليات عظيمة تزيدنا بصيرة وثقافة. وقد لا تعجب هذه الطريقة رجال التربية الحديثة، ويرونها معيبة بالمدرس، مضيعة للطالب؛ ولكن هذا يرجع فيما أرى إلى عدة أسباب؛ فهو قد قرأ كتب المتقدمين، وتغلغل فيها، وهضمها، وتمثلت فيه، فتأثر بها، وتلك كانت طريقتهم، وكان ريان من العلم شبعان، فكانت تتدافع المسائل في صدره فلا يستطيع لها كبحًا. وسبب ثالث كان أحيانًا ما يصرح به، وهو أنه قليل الثقة بدوام المدرسة، ويخشى أن يفوته شيء يريد أن يقوله فلا تواتيه الفرصة؛ لذلك كان يتلمس الاستطراد تلمسًا، وأذكر أن بعض إخواننا من كبار علماء الأزهر حملته مرة هذا الاستطرادات في مجلس معه - وكانت شفَتْ كثيرًا مما بنفسه - على أن يطلب إليه أن يقدم درسًا خاصًّا في بيته ليلة في الأسبوع ففعل، وكان يحضره كثير من أذكياء علماء الأزهر وأساتذة المدارس العالية والثانوية والابتدائية. ثم لعلكم تحبون أن تقفوا على شيء من حال طلبتها بعد أن آل أمرها إلى ما عرفتم، وأقول لكم: إن منهم المشتغل بالتربية والتعليم، والمشتغل بالصحافة والتحرير، والمشتغل بالوعظ والإرشاد، والمتصل بالملوك ورجال السياسة. وحسبكم أن تعلموا أن الناموس الخاص لجلالة ابن سعود أحدهم، بل حسبكم أن تعلموا أن زعيم القدس الكبير السيد أمين الحسيني ممن يتشرفون بالانتساب إليها. هذه لمحة خاطفة عن تلك المدرسة التي أصبحت كمنشئها في ذمة التاريخ، وهناك مدرسة الفقيد الكبرى التي عكس مناره من أشعتها على العالم أربعين سنة، تبوأ فيها بحق مقام الإمامة، وخلف ميراثًا عظيمًا يشرع للناس طرق الإصلاح، ويبصرهم بكتاب الله وهدى رسوله، وقد أصبح له تلاميذ ومريدون يعدون بالألوف، وصار له حزب قوي في الأزهر ممن قبضوا قبضة من أثره، وإنه لميراث عظيم، شغل فقيدنا حياته في جمعه وادخاره، وترك ذرية ضعافًا لا سند لهم إلا الله وإخلاصه، وأقول - والألم يحز في النفس - إن المنار قد مات بموت صاحبه أو كاد، ولا غرو فقد كان السيد أمة وحده في علمه، ودينه، وكفايته وصبره، والثقة به، والبذل في سبيل الله، ولسنا بواجدين من يملأ بعض فراغه في بعض ما نهدَ له، وفي العالم الإسلامي علماء يعدهم الناس بالألوف، فيالله للأمة الفقيرة. ولقد كان السيد جديدًا دائمًا، غير آسن، كما كان يتجلى ذلك في كتاباته وأحاديثه، اتصلت به ما يناهز ربع قرن اتصالاً وثيقًا، طالبًا وصديقًا؛ فما أذكر أني وردت شرعته يومًا - على كثرة الورود - إلا وصدرت بجديد في العلم أو الأدب أو شئون الحياة، أحسن الله عزاء الأمة فيه، وبوأه منازل الكرامة مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.