للفاضل الغيور- م. ن - صاحب الرسالة التي نشرت (في ج ١٠ م ١٨) . حضرة حكيم الإسلام السيد الإمام الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الإسلامية. السلام عليكم ورحمة الله. وبعد: فلست صحفيًّا ولا من المشتغلين بالتحرير ولا يسع وقت فراغي كتابة المقالات، وتنسيق العبارات، فإن في أعمالي اليومية لَشُغلاً شاغلاً. فإن أكتب إليكم فإنما أكتب مدفوعًا بعامل القيام بفريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) التي عفا أثرها بين المسلمين؛ إذ لولا صوت المنار الحي المرتفع الذي يدوِّي في الآفاق فيفتق أغشية الآذان، ويرقق حُجُب القلوب ويفتح الأذهان، ويوقظ النائم، وينبه الغافل - لولا ذلك الصوت المنعش للنفوس المحرك للهمم، لصح أن يقال، ولا عتب في المقال: إن الأمة الإسلامية شبح بلا روح. كتبت رسالتي الماضية في موضوع الدعوة والإرشاد، ولم يكن لي غرض سوى العمل بهذه الفريضة، وإقامة الحجة أمام الله - تعالى - على المسلمين الذي تهاونوا فيه وفي كل عمل إسلامي. وإنه وإن لم يكن لدي كبير أمل في أن يقدّم المسلمون في الحال، ما يحتاج إليه المشروع من المال، فقد كان رجائي عظيمًا في النجاح التدريجي الذي يؤدي إلى النجاح التام. ولكني ما كنت أظن أن يكون نصيب هذه الدعوة الصمت والجمود، اللذان يدلان على شدة ما تعاني الأمة الإسلامية من أدوائها الاجتماعية. لذلك حدثتني نفسي بعد طول الانتظار بأن أبعث إليكم بهذه الرسالة الثانية زيادة في التذكير، وتأكيدًا للإنذار والتحذير، ولأبين أن المسلمين غير معذورين في البقاء في هذه البؤرة النتنة، وأن وسائل النجاة والحياة في أيديهم والأمر كله متعلق بمشيئتهم. وهذه هي الرسالة: دعوت المسلمين في رسالتي الماضية لتنفيذ مشروع الدعوة والإرشاد وما كنت لأدعوهم إلا إلى حق وأوضحت لهم خطورة الحالة التي نحن فيها وما كان لي أن أكذب. وأقمت لهم الدليل على أن المشروع كافل لإصلاح الحال، وما كنت إلا صادقًا. وانتظرت ماذا يكون من أمر هؤلاء وأطلت الانتظار، فألفيتهم صموا عن النداء، واختاروا البقاء في الشقاء، وما كنت مكرهًا لهم على ما تثاقلت عنه نفوسهم ولا إكراه في الحق. إنه لَيحزنني أن تخيب دعوتي، وليس ذلك أنها صادرة مني، فما هي إلا صدًى لأصوات صاحب المشروع ومن نصروه فيه من قبلي. وإنما حزني وأسفي لحرمان الأمة الإسلامية من الخير العظيم الذي كان ينتظرها، إن هي أجابتها، ولكن ما حيلتي، وقد دعوت ونصحت وما فرطت، والأمة أعرضت وجمدت واستكبرت. وقد فشلت دعوة الكثيرين من أهل الغيرة والإخلاص من قبل فلم ينقص إعراض الناس عنها من قدر الحق ولا من قيمة ما دُعُوا إليه شيئًا؛ إذ الحق حي بذاته لا يضره أن يكفر الناس به كما لا يرفعه أن يغلوا فيه. وإن في ضياع صوت أستاذنا العظيم في فضاء غفلة هذه الأمة الجاهلة لَعبرة، وذكرى للمتشائمين المتسرعين. إنه لَيقع الإنسان في الحيرة ويأخذه العجب لخيبة دعوة الحق بين المسلمين، وفيها خيرهم وفلاحهم ونجاح دعوة الشر فيهم، وفي إجابتها هلاكهم وشقوتهم. فما أشد ظلمهم لأهل الحق الذين يغارون على الأمة ويريدون لها الرشاد وظلمهم لأنفسهم باتباعهم أهل الضلال الذين يسعون في الأرض بالفساد. ولقد ودّ المصلحون لو أن الأمة عرفتهم فأنزلتهم منزلتهم وسمعت لقولهم، واقتفت أثرهم فنهضت بهم. لا يسأل هؤلاء الأمة أجرًا على عملهم، فالحق والعمل الصالح أعلا من أن يقوّما بشيء من حُطام الدنيا. وإن أخذوا أجرًا في الظاهر فليس هو في الحقيقة بأجر وما هو من قبيل ثمنٍ لشيء مباع، ولكنه مال يسدون به عَوَزَهم ويستعينون به على عملهم الذي يقومون به لخير الأمة وسعادتها. إنما أجرهم على الذي هو فطرهم، وهو وحده الذي يقدِّر عملهم ويكافئهم عليه في دار غير هذه الدار. أما أهل الباطل والضلال فهم ينفثون السم في النفوس والأرواح بما ينشرون من رأي، ويدعون إليه من عمل، ويسلبون أموال الأمة أجرًا على هذه الضلالات، إنهم لا يرجون عند الله ثوابًا ولا بعد هذه الحياة حياة. فهم لذلك يحتالون على جمع المال بأي وسيلة تمكنهم منه، فهو غرضهم الذي إليه ينتهي الأمل، والسبب الوحيد الذي يحركهم للعمل. هؤلاء هم رسل الشهوات وأعوان الهوى وأولياء الشيطان، وأولئك هم دعاة الفضيلة وناصروا الحق وحزب الرحمن. فيا ليت شِعري، أي الفريقين خير مقامًا وأهدى سبيلاً، ومن منهما أولى بالاتباع وأقوم عملاً وأحسن قيلاً؟ فيا خلف خير أمة أخرجت للناس أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ وتندفعون إلى الأوهام والضلالات مختاريين وتستسلمون إلى الشر. وَدَّ كثير من الناس لو يعرفون سبب هذا الجفاء بين المسلمين وأهل الحق والصلاح وهم المحبون الصادقون، وعلة هذه المودة بينهم وبين أهل الباطل والفساد وهم الأعداء الظاهرون. فإنه لا بد لذلك من سبب، ومتى عُرف السبب زال العجب. ليس العيب الذي تقدم ذكره هو الوحيد في المسلمين. وإلا فلماذا يعادي هؤلاء المسلمون أنفسهم، ويعطفون على أعدائهم؟ ولِم يعرضون عن مصالحهم ويسارعون إلى هلاكهم؟ وما الذي حسَّن إليهم الباطل وبغَّضهم في الحق؟ وأي شيء سوغ إليهم ارتكاب السيئات وترك الحسنات؟ ولأي سبب يصافحون الشيطان ويُغضبون الرحمن؟ وما السبب الذي هبط بهذه النفس الإنسانية إلى درك الحيوانية؟ إنه يوشك أن تكون جميع تصرفات المسلمين مخالفة للعقل والنقل وأحوالهم مرذولة غريبة الشكل. وإنما هذه التصرفات والأحوال هي أعراض للمرض العام الذي سكن في جسم هذه الأمة فأضعف قوتها الحيوية وأسدل الحجب على بصيرتها قبحت ما ليس بالقبيح ورأت حسنًا ما ليس بحسن. فمرض الأمة هو سبب كل ما ننكر من ميولها وحركاتها وسكَناتها. فإذا عُرف المرض عُرف السبب. المرض أو السبب هو كما قال السيد الإمام: ضعف استعداد الأمة وحرمانها من الزعيم. وهو قول حق لا ريب فيه؛ إذ لو وُجد الاستعداد والزعيم معًا لنهضت الأمة من كَبْوتها وحييت حياتها الطيبة ولفارقها الشقاء، وزال عنها ما نزل بها من البلاء، ولكن إلى متى نسكت على هذا الضعف فينا ولا نباشر علاج أنفسنا؟ الآن وقد عرف كُنْه المرض الذي أصابنا وسبب الضعف الذي أنهك قوانا، فمن السهل معرفة علاج هذه الحالة أيضًا. إنه وقد أمكن تشخيص الداء، فما علينا إلا أن نَصِف الدواء. لا علاج لضعف استعداد الأمة إلا في أمر واحد، وهو العلاج القديم الذي ثبت صلاحه وتأكد نجاحه واتبع في كل زمان وفي كل مكان، وسار على سننه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في تبليغ رسالات ربهم -عز وجل - وكذلك الصالحون من بعدهم. ذلك العلاج هو إقامة فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) . إن الناس أفلحوا وسعدوا ما عملوا بهذه الفريضة، وخابوا وشقوا ما أهملوها. فكما أن داءنا في تركها، كذلك علاجنا في إقامتها. وقد جعل الله - تعالى - العمل بهذه الفريضة شرطًا ضروريًّا لصحة الإيمان، ولهي أعظم ما فرض العليم الحكيم على أتباع أنبيائه - عليهم السلام -، فكانت ولا تزال إقامتها عنوانًا على هداية الناس وسعادتهم، وإهمالها دليلاً على ضلالهم وخسرانهم واستحقاقهم لِلَعْنَتِهِ (لتأمرنّ بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يُستجاب لهم) {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (المائدة: ٧٨-٧٩) . تركت الأمة الإسلامية العمل بفريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) من عدة أجيال، ففقدت بذلك قوتها الحقيقية التي كانت تحمي بها الأموال والأعراض والعقول والقلوب والأخلاق والدين من فتك الشهوات وهجمات الشياطين وماذا يفعل الأعزل من السلاح، في ميدان النِّزال والكفاح؟ صار أفراد المسلمين بعد ذلك - وقد خفَت صوت الأمة، وارتفع صوت الشهوات والهوى والشيطان، كالعِقد الذي تبعثرت حباته، أو كذرات الرمال التي تتجاذبها الرياح والأهواء المختلفة، فضلّ الناس في الفهم والرأي والعمل ولا مُنْكِر ولا مرشد، وانحلت الرابطة وتفرقت الكلمة، وتناكرت العقول والقلوب، وضاعت الفضيلة، وحلت محلها الرذيلة، واستُبدل الجهل بالعلم، وأوشك أن يكون الدين المعمول به عند الجماهير الآن مجموعة خرافات وأوهام وضلالات، وبدع ومنكرات وتقاليد وعادات. وبالجملة إن الحال قد تحوّل إلى ما يرى كل إنسان، وليس الخبر كالعيان. تلك عاقبة الذين نسوا حظًّا مما ذُكِّروا به بإهمال هذه الفريضة فتوالدت بذلك في الأمة الأمراض والعلل، التي أضعفت استعدادها للفهم والعمل، فضل فيها صوت المصلح، وخابت دعوة الحق {وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} (فصلت: ٤٦) . وإن تعجب فعجب أن يعتذر القادرون على الإصلاح عن إغفالهم ذلك الواجب العظيم بإعراض الأمة عن الحق والخير وانصراف عقول أفرادها وقلوبهم إلى الباطل والشر، ونسوا أن الأمة ما سقطت في هذه الهُوة السحيقة إلا بسبب إهمال هذه الفريضة، كما غفلوا كونها أحوج إلى الإرشاد في هذه الحالة منها في سواها؟ ! إن ما وقع من الأمة من التفريط في جنب الله لا ينبغي أن يُسأل عنه سواها، وإن عليها أن تتحمل وحدها أثقله وتتجرع مرارته {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الأنعام: ١٦٤) . فلا يصح أن يؤدي تفريط الأمة في واجبها إلى تفريط المؤمن في واجب سواء استجاب له الناس أم لم يستجيبوا. ما كان ضعف استعداد الأمة للحياة، أو بعبارة ثالثة ضعف قوتها الحيوية الذي هو نتيجة طبيعية لما كسبت أيديها، كما تقدم ليغير من موقف المصلح أمامها، فهو مطالب على الدوام بأن يصدع بالحق، وإن كان غريبًا عن عقول وقلوب أكثر سامعيه، وأن يقرر الحقيقة، وإن لم يفقهها إلا نفر قليل منهم، ولدعوته مع ذلك حُجة على الطائع والفاسق، وما الأخير لقلة استعداده بمعذور {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (المطففين: ١٤) {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} (البقرة: ٨٨) {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ} (البقرة: ٢٧٢) {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ} (المائدة: ٩٩) . وقد دعا كثير من أنبياء بني إسرائيل قومهم إلى الحق فكذبوهم وقتلوهم. وما كذبوهم، وما قتلوهم إلا لأنهم لم يفقهوا دعوتهم أو لم يقبلوها، وكذلك كان شأن الناس مع كثير من المصلحين. فما من دعوة إلى حق إلا وصادفت في أول أمرها إعراضًا عظيمًا ومقاومة كبيرة ممن جاءتهم، حتى قيل: إنه لا أمل في قبولها. ومع ذلك لم يكن ذلك الإعراض وذلك التكذيب وتلك الشدائد لتؤثر في همة أولئك الهداة وعزمهم، أو تُرجعهم عن قصدهم، فمن ذا الذي يجسر أن يقول: إن عملهم كان لغوًا؛ لأن الناس لم يكونوا مستعدين له؟ كلا بل هو كل الحق والصواب وعين ما أمر الله به وأوجبه عليهم، وهو سبب كل ما وجد وما يوجد من خير وإصلاح في العالمين وعلة الحركة والحياة في الناس أجمعين. إن كل دعوة لحق تصيب الغرض سواء أجيبت في الحال أم لم تجب وسواء أدرك لداعي نجاح دعوته في حياته، أم حصل النجاح بعد وفاته، فهي محدثة أثرها على كل حال. فمَثل الكلم الطيب والعمل الصالح وتأثيرهما في النفوس كمثل التفاعلات الكيماوية سواء بسواء، فإن التفاعل الكيماوي حاصل، وإن كان أحيانًا يسير ببطء تبعًا لحالة المواد وطبيعتها وقوة تأثيرها بعضها في البعض الآخر. وكثيرًا ما تجري الحوادث الكونية بحيث لا تدركها الأبصار ولا تتناولها الحواس، فإذا مضت الأيام أو الشهور أو السنون أو القرون فوجئ الغافلون بالنتائج الصغيرة أو الكبيرة التي نشأت عنها. وبالجملة: إنه كما أن لكل حركة أثرًا في مجموع ما يحيط بها من الأشياء، كذلك لكل كلمة طيبة أو كلمة خبيثة فِعلها في رَدْع الناس عن الشر أو إغرائهم به. أفليس من الوجوب علينا الإكثار من الكلم الطيب دعوة للخير ومقاومة لدعوة الشر التي كثرت واستفحل أمرها؟ إن الباطل عدو الحق كما أن الحق عدو الباطل. وهذه العداوة قديمة من عهد أن عرف حق وباطل، وستبقى مستمرة إلى ما شاء الله - تعالى -. فعلينا أن نفهم هذه الحقيقة ولا يطمعن أحد في التوفيق بين عدوين هما أكبر خصمين في الوجود. إنه لا ضرر على الحق من هذه العداوة أو المخاصمة التي لا مفر منها، فالباطل أضعف من أن يقف أمام حق، والحق أقوى من أن ينازل باطلاً، وما كان لباطل أن يوجد مع حق في ساحة، فأين وجد حق لا يوجد باطل، وإن الباطل ليتضاءل أمام أشعة الحق كلما اقترب منه كما تتضاءل الظُّلمة أمام الضوء. إن الحق ثابت بنفسه والباطل ساقط بذاته أو بعبارة أخرى، إن حياة الحق مستقلة باستقلال الحق ولا حياة للباطل إلا باستناده إلى الحق فهو أشبه بالخيال منه بالحقيقة. إنه لا يغلب الباطل إلا الحق، فالباطل قوي ما غاب عنه الحق، وكما أنه لا سلطان لحق على حق كذلك لا نفوذ لباطل على باطل وكما أن الباطل يذهب لقدوم الحق فإنه لا يترك مكانه لباطل مثله. فيلزم مواجهة الباطل بالحق على الدوام فموت الباطل في قرب الحق منه، وحياة الحق في خفاء الباطل. إن الحق حق ولا يمكن أن يكون إلا حقًّا، والباطل باطل ولا سبيل إلى جعله حقًّا، فلا بد من الخلاف والتصادم بينهما. ولما كانت مهمة الحق إزهاق الباطل، ودأب الباطل الفرار من أمام الحق والانتشار في الساحات التي لا سلطان له فيها، وجب أن يتعقب الحق الباطل أينما حل وسار، ليتم له الانتصار. لا عيب في الحق، وإنما العيب فيمن يدَّعون أنهم أهله إذا قصروا في القيام به ونصره، وإلا ففيم يَخشى أهل الحق الباطل، وهؤلاء ضعفاء بضعف ما لديهم من باطل، وأولئك أقوياء بما لديهم من الحق؟ لا يجوز لأهل الحق أن يَدَعوا هؤلاء المبطلين آمنين مغرورين بزخرف الباطل مفتونين بظواهره الكاذبة حتى لا يكون ذلك إقرارًا منهم لباطلهم، بل إن الواجب إقلاق بالهم وقذفهم بالحق دائمًا بدون رأفة أينما ذهبوا أو حلوا أو وجدوا، في غدوهم ورواحهم، في نومهم ويقظتهم، في أعمالهم وراحتهم، إلى أن يذهب نور الحق بظلمة الباطل، ويعرفوا أنهم لم يكونوا إلا واهمين. إن نور الحق متى ظهر للناس لا يستطيعون نكرانه، وإن استطاعوا إنكاره فلا يقدرون على المجاهرة به. وإن الإصرار على الباطل بعد أن يفضحه الحق قليل في الناس، وإنما يصر الأكثرون منهم على ما يصرون جهلاً منهم وتوهمًا أنهم على حق، لا عذر في السكوت على الباطل، فيجب أن لا يصد داعيًا إلى الحق صادٌّ مهما عظمت المهمة وبعُدت الشُّقة، وإذا بعُد الناس عن الحق أو قلَّ عدد الراغبين فيه منهم أو فُقدوا في بعض الأزمنة أو الأمكنة، فإن ذلك لا يجعل الحق غير حق، ولا ينبغي أن يكون مانعًا من الدعوة إليه؛ إذ الباطل لا يصح أن يُرضى به على أي حال. إن الحالة قاضية بتنبيه المسلمين إلى الخطر المحدِق بهم، وأن يقال لهم في وجوههم بصوت جهوري: إنكم في هوة انحطاط سحيقة تجب المبادرة إلى إنقاذ أنفسكم منها. ولا يمكن أن يقال لهم غير ذلك. ينبغي أن يقال للمسلمين: يا معشر النساء ويا معشر الرجال، أنتم على باطل وضلال. وإن تقاليدكم وعاداتكم التي تدينون بها وتحرصون غاية الحرص عليها، إنما هي من مخترعاتكم ومخترعات آبائكم، وإن العقل ينكرها، وشرع الله يتبرأ منها. وهذه القبور وما حوت من عظام، والأشجار والأحجار لا يمكن أن تُتَّخذ وسيلة إلى العليم العلام، ولا سببًا لقضاء الحاجات أو شفاء الأسقام. وهذه الأفكار الفلسفية والنزعات المادية التي اتبعتم فيها سفهاء الإفرنج بدعوى المدنية لم تكن إلا نزغات شياطين. وإن خطتكم التي تسيرون عليها لخطة عوجاء، وهي سبب ما نزل بكم من البلاء. فارجعوا إلى أصل الدين تكونوا من المهتدين يجب أن يقال ذلك وما شاكله للمسلمين، وأن يبين لهم ما يقال؛ تقريبًا للعقول والأفهام. فمن قام بذلك فقد قام بواجبه وليس عليه أن يبحث في مبلغ تأثير كلامه في نفوسهم فليس عليه هداهم، وإنما الهُدى هُدى الله. قد يفقه المسلمون القول، ويدركون الغرض المقصود منه في الجملة فيهمون أن يفتحوا عيونهم للنظر ويتحركوا للعمل، ولكن تغلبهم الشهوات فيعرضون، ويُوسوس لهم الشيطان فينكِصون، وعن اتباع الحق يعدلون. إنهم عصوا لضعف استعدادهم، ولكن ما حيلة الداعي وأمر استعدادهم بأيديهم إن شاءوا أصلحوه، وإن شاءوا زادوه ضعفًا؟ وما ذنبه، والمرء لا ينفعه زجر زاجر ما لم يكن له من نفسه وازع {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: ١١) . إن الناس مسئولون عن ضعف استعدادهم كما أنهم مسئولون عن ضياع كلمة الحق بينهم. وإن ضعف استعداد الأمة ناشئ عما ارتكبته من السيئات، فيكفي منها الإقلاع عنها وعمل الصالحات ليبدلها الله - تعالى - من فضله حسنات. ما عُذر هؤلاء المسلمين في هذا الانحطاط الذي انفردوا به، وفيهم كتاب الله - تعالى - وأمامهم سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وبين أيديهم آثار أهل الحق ورجال الإصلاح، وتحت أنظارهم الأمثال الحسية على قيمة العمل وعلو الهمم فيما يشاهدونه حولهم من المجهودات العظيمة التي تقوم بها الأمم العزيزة القوية. إن المريض، وإن اشتد به المرض قد يجد إلى الشفاء سبيلاً باتباع أوامر الطبيب والعمل بإرشاده. فلماذا لا تطلب هذه الأمة شفاءها في القرآن الذي ما فرط الله فيه من شيء ففيه شفاء للناس؟ ولِمَ لا تستوضح ما أشكل عليها من سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمأثور عن السلف الصالح؟ كل ذلك ميسور لها سهل عليها. بل ما الذي يمنعها من الإصغاء لنداء أهل الحق والإصلاح الذين يمن الله - تعالى - بهم على المسلمين من وقت إلى آخر رحمة بهم إذا اشتدت الحاجة إليهم، وزاد الكرب وضاع اللُّب وبلغت الروح التراقي؟ لقد رزق الله الأمة الإسلامية من هؤلاء في أقل من نصف قرن ثلاثة أقطاب كل واحد منهم يكفي للنهوض بالأمة وإسعادها، لو وجدوا منها سميعًا وناصرًا مطيعًا إنه قضى منهم اثنان، وها هو ذا الثالث يقرع بالحُجة ويصدع بالحق تسعة عشر عامًا، فهل وزن قوله بميزانه، وعُرف له حتى الآن قدره؟ إن صوت المنار لهو حجة الله الناطقة في الناس في هذا العصر، وإنه وإن ضاع حتى الآن بين أهل الزمان، فإنه لا يضيع عند الله ولا في مستقبل الأزمان. أفلا ينظر المسلمون إلى حالتهم ويرجعون إلى أنفسهم ليجدوا أنهم ضلوا ضلالاً بعيدًا! وهل شيء أدل على ضعف دينهم وانحلال قوتهم من قيام قسيس في هذين اليومين يطعن في السُّنة وأشهَر رواتها وحمَلتها وينشر شبهته في مجلة سيارة ويدعو إلى الرد عليها ثلثمائة مليون من المسلمين؟ فأي برهان على فقر الأمة من الرجال أقوى وأظهر من سكوت علمائها عن رد مزاعمه وإبطال شبهاته سوى رجل الإصلاح الأوحد ناصر الإسلام السيد الإمام؟ إن القسيس ما كان ليتحدى برسالته صاحب المنار فهو يعرف من هو، وكان يتمنى - طبعًا - لو لم يرد عليه بحرف واحد. فهل الأمة كلها صاحب المنار؟ وهل عدم المسلمون وهم يعدون بمئات الملايين من يستطع إبطال الشبهة ورد الفِرية سواه؟ قد يكون ذلك صحيحًا، ويا للأسف وقد لا يكون صحيحًا. ولكن الذي يلزم الاعتراف به هو أن الأمة سكتت لمن ادَّعى أنه هدم الأصل الثاني من أصول دينها وهو السنة النبوية، وقد وقف أمامها يدعو أفرادها كافة إلى الكلام، ويطلب منهم، وهو فرد ضعيف الخروج جميعًا إلى الميدان! فهل نصدق بعد هذا دعاوى من تصدروا لإرشاد الأمة وسموا أنفسهم رجال الدين وأئمته؟ وهل يغتر الغافلون بتظاهر أهل العمائم والفَرَجيات من علماء هذا الزمان بالتقوى والصلاح والغيرة على الدين والعمل لمصلحة المسلمين؟ ألا ليت شِعري، بماذا يعللون سكوتهم، وقد وجب النطق واستنصر الحق؟ وبأي شيء يؤولون إهمالهم فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وهم أولى الناس بإقامتها؟ لا جواب على ذلك إلا أن الهمم مصروفة إلى غير تلك السبيل، وحسبنا الله ونِعْم الوكيل. لم تفقد الأمة الإسلامية استعدادها للعمل فقدًا تامًّا؛ إذ هي لا تخلو من استعداد لقبول دعوة الخير إلى حد ما وإلا لكانت شرًّا محضًا. ولا يوجد في الكون محض شر، وإلا لزال على الفور. فالذي نشكوه وعناه السيد الإمام هو ضعف الاستعداد لا فقده تمامًا. وإنما ترفض الأمة الضعيفة الاستعداد دعوة الحق ولا تلبيها في وقتها لقصر في النظر وقلة في الفهم، وضعف في القلب، وليست معذورة في ترك العمل لضعف استعدادها وحرمانها من الزعيم أو الزعماء كما تقدم، فإن ذلك الضعف، وذلك الحرمان منها وهي التي ولدتهما كما تلد الأم ولدها. ألا إن الاستعداد لا يوجد في الأمة من نفسه ولا يوهب لها كما يوهب المتاع. ولكن الأمة هي التي توجده بتمهيد الأسباب له كما أن وجود الزعماء تابع لحركة الحياة فيها، فهم أبناؤها، وهي التي تلدهم. فالأمة هي التي توجد استعدادها كما تلد زعماءها، وقد يكون الزعيم موجودًا وهي لا تراه لعلة في باصرتها أو بصيرتها، فإذا زالت العلة بتقوية الاستعداد للإصلاح والتوجه لطلبه وجدته بين يديها وأمام عينيها. فالأمر كله راجع إلى الأمة، وهي التي عليها أن تحضِّر الدواء، وهي التي عليها أن تتعاطاه. فهي المريض ومنها الطبيب. وبعبارة ثانية إن الأمة متى وجد فيها الاستعداد للحياة أوجدت طبيبها، واستعدت لقبول دوائه، فهي المطالبة بإعداد الطبيب أو الأطباء، وهي المطالبة بتجهيز الدواء وباستعماله في مقاومة الداء. إنها هي المطالبة وحدها بإقامة فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فإن عجزت فقد عجزت عن الحياة، ولا دواء ولا شفاء. لست أعني بهذا أني يئست من حياة هذه الأمة، بل مرادي أن أقول: إن حياتها لا تكون إلا في العمل بهذا الفريضة التي هي العلاج الوحيد لمرضها. إنه ما كان للسيد الإمام، وهو طبيب الأمة الأوحد أن يباشر علاجها إلا من هذا الطريق الطبيعي الأمين، وأن يستعمل سلاحًا لقطع عرق الفاسد من أصوله غير ذلك السلاح الماضي. فلقد أحيا هذه الفريضة ونصرها بلسان المنار، الذي أنشأه، وبلسانه على منابر الخطابة وفي الجمعيات والحفلات وفي مجالسه العامة والخاصة، وقد ربى المنار رجالاً يحبون الإصلاح. ولكنه على ارتفاع صوته وعظيم قوته المستمدة من قوة الحق لا يزال عدد من رباهم قليلاً واستعدادهم ناقصًا. ولا يدل ذلك على تقصير المنار، بل هو علامة على استفحال الداء في جسم الأمة. ولما رأى الرجل زاده الله علمًا وهدى أن تيار الفساد يشتد اشتدادًا، وأعوان الضلال وأولياء الشيطان يزدادون ازديادًا، أدرك أن الأمر يقضي بتربية فئة من المسلمين تربية علمية أخلاقية دينية عصرية ليجعل منهم سدًّا أمام ذلك السيل الجارف الذي ينذر بأمر خطير وشر مستطير. إنه أراد بتأسيسه (جمعية الدعوة والإرشاد) أن يهب الأمة كنزًا ثمينًا لا نفاد له لتأخذ منه على الدوام حاجتها من الرجال القادرين على إقامة هذه الفريضة التي لا قوام لها بدونها. إنه كان حقيقًا بالمسلمين، وقد أصبحوا على حافة الهاوية أن يشتروا حياتهم بإحياء هذا المشروع. إن الحياة أغلا من أن تقوَّم بالمال. فهل كثُر على المسلمين أن يشتروا حياتهم بلفس، لو قستم على كل فرد منهم ما أصاب الفرد بارة واحدة؟ إنهم بخلوا بهذه الدُّريهمات؛ ولذلك مات المشروع فماتت بموته آمال عظام. إنه مات صدقًا، ولكن ذلك لا يفزعنا فسيخلقه الله خلقًا جديدًا، وما ذلك عليه بعزيز. نعم: مات المشروع بعد أن عاش أربع سنين عيشة مضطربة، ولكنه سيعود بإذن الله - تعالى - على أيدي أناس آخرين جديرين بإحراز فخر القيام به، إنه مات ولكنه في الحقيقة لم يمت، فقد مات بشكله الذي أنشئ عليه، وعاد للحياة بعد تحوير في شكله الأول بقدر ما سمحت به الوسائل لصاحبه وسيبقى - ما شاء الله تعالى - حاكمًا على الأمة بالضعف وللأستاذ بعلو الهمة والإخلاص. مات المشروع ليحيا المشروع. مات وحقيقة الأمر أنه حي؛ لأنه من الحق، والحق لا يموت أبدًا ليكن مات في الظاهر، ولكن صاحبه بفضل الله لم يمت وسيبقى بتوفيق الله تعالى بالرغم من حسد الحاسدين سيفًا مسلولاً فوق رقاب المفسدين، وحجة الله - تعالى - على المجرمين. ليس غرضي الآن أن أعود فأدعوكم إلى نصرة المشروع، وقد رفضتم الدعوة من قبل وما أغنتكم النذر، وإنما أدعوكم إلى إقامة فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فانظروا ماذا أنتم صانعون. إني أطالبكم بإقامة هذه الفريضة التي لا مجال فيها للتأويل، ولا للقال والقيل، إنه في إقامة هذه الفريضة علاجكم الوحيد، فلا يصح أن تتوانوا في طلبه، وإلا فقدتم حياتكم. إن الحالة وإن اشتدت وتعاظمت لا يجوز أن ييأس باشتدادها المؤمنون، فإنه {لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الكَافِرُونَ} (يوسف: ٨٧) نعم: إنكم قطعتم في سبيل الضلال شوطًا بعيدًا وسقطتم في مهواة الخيبة والخسران سقوطًا شديدًا، وصرتم أحط أهل الشرق والغرب، وضجت من أفعالكم الأرض، واستغاثت السماء، وغضب الرب، ولكن العلاج لازال ممكنًا وطريق السلامة أراه مفتوحًا آمنًا ولا يعوزكم إلا السرعة في العمل، قبل ضياع الأمل. فإن نار الشهوات والهوى التي أحرقت أجسامكم وأرواحكم تكاد تأكل ما بقي من رمق فيكم، فاحفظوا هذا الرمق، وانجوا بأنفسكم وإلا هلكتم كما هلك من كان قبلكم، {وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} (الأنعام: ١٣٤) . يؤلمني أنه إذا دعا المسلمين داعٍ لا يعرفون مَن المقصود منهم بالكلام، فكل ينتحل لنفسه الأعذار ويرى أنه غير معنيّ بقول ولا مكلف بعمل! ذلك بأنه لا جامعة تجمعهم ولا سائل ولا مسئول! ولكن الله يعلم ورسوله وملائكته وأهل الحق يعلمون أن لا وظائف في الإسلام ولا رسوم، فكل مسلم مخاطب بكلمة الحق مطالب بالعمل بكتاب الله وسنة رسوله، والأمة كلها متضامنة في مسئولية الرضاء بالحالة الحاضرة، وعلى ذلك فأنا أوجه خطابي إلى الأمة جميعها، وأعني به كل فرد من أفرادها، وأقصد بنوع خاص أهل العقل والفهم الذين لهم آذان يسمعون بها وقلوب يفقهون بها. إني أدعو هذه الأمة إلى إقامة فريضة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وأخاطب في شخصها المسلمين كافة، صغيرهم وكبيرهم سواء منهم المعمم والمطربش، الكبير والحقير، الغني والفقير، التاجر والصانع، صاحب الملك والمزارع، الخاصي والعامي، البدوي والحضري، العربي والعجمي، إني أطالبكم جميعًا بإقامة هذه الفريضة، فإن أجبتم فإن الله يعدكم من لدنه مغفرة وأجرًا عظيمًا، وأن يرفع عنكم هذا البلاء، ويفيض عليكم رزقًا ورحمة من السماء، وإن تتولوا فحسبكم ما أنتم فيه جزاء في الدنيا {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} (طه: ١٢٧) . أدعوكم أيها المسلمون إلى إقامة هذه الفريضة ولا أخيركم بين إجابة الدعوة ورفضها؛ لأنه ما كان لي أن أخيركم بين الصحة والاعتدال، والهدى والضلال. ولكم فيما عدا ذلك أن تعدوا وسائل العمل بحسب ما يروق لكم. ولكن ذلك لا يمنعني أن أكرر النصح لكم بأن أقرَب الطرق إلى إقامتها على وجهها هو تنفيذ مشروع (الدعوة والإرشاد) الذي دعوتكم إلى تعضيده في رسالتي الماضية. فإن كنتم في ريب منه فأتوا بمشروع خير منه أو مثله للقيام بهذا الواجب الأكبر، وتخليص الأمة من هذا الكرب العظيم، إن كنتم صادقين، فإن لم تفعلوا فاعلموا أن ما دعاكم إليه إمامكم هو الحق المبين، وإني لم أكن في ترديده غير ناصح أمين. نشرنا هذه الرسالة ومنشئ المنار قد ذهب إلى أداء فريضة الحج، فنوجه إليها نظر المسلمين ونخص صاحب (الانتقاد على المنار) ص ١٩٠ ج ٣. ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... صالح رضا ((يتبع بمقال تالٍ))