للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


فتاوى المنار

الرقيق الأبيض والأسود
(س١) من صاحب الإمضاء في قليوب
حضرة صاحب الفضيلة والإرشاد وصاحب المنار المنير؛
تحيةً وسلامًا، وبعد: أعرض على مسامع فضيلتكم المسألة الشرعية الآتية،
وأرجو نشرها في باب السؤال والجواب المفتوح في المنار المنير خدمة للشرع
الشريف، لا حرمنا الله منكم وها هي:
ما قولكم - دام فضلكم - في مسألة الرقيق الأبيض والأسود ومسألة مشتراه
في الزمن الماضي قبل مقاومة الحكومات لهذه العادة. وهل هذا البيع حرام أم حلال
شرعًا، وما الفرق في الدين الإسلامي بين العبد والحر، وما هي ميزة الحر على
العبد في الدين. وهل سواد (العبد) من الإقليم القاطن فيه أو منحة إلهية للفرق بين
الحر والعبد. وما يستحقه العبد في الميراث الشرعي إذا كان من والد حر وله إخوة
أحرار؟ وكيف كان البيع في زمن الجاهلية وزمن النبي صلى الله عليه وسلم
وزمن الخلفاء الراشدين وما هي حجتهم في ذلك؟
نرجو الرد على هذه الأسئلة كما عودتمونا ذلك، ولفضيلتكم الشكر سلفًا، وفي
الختام أهدي فضيلتكم أزكى تحياتي وسلامي.
... ... ... ... ... ... ... ... كاتبه أحمد حسين فراج
... ... ... بعيادة الدكتور محمد عبد الحميد بك الخصوصية بقليوب
(ج) الظاهر أن السائل يظن أن كل مَن كان أسود اللون فهو عبد رقيق
وكل مَن كان أبيض اللون أو قريبًا من الأبيض - كالأصفر والأسمر - فهو حر
وأن الرقيق الأبيض عبارة عما هو معروف في القطر المصري من الاتِّجار
بأعراض البنات اللواتي يحتويهن المشتغلون بهذه التجارة، وهن صغيرات
بضروب من الإغواء والحيل. والصواب أن الأصل الفطري أن يكون جميع البشر
أحرارًا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن العاص: منذ كم تعبَّدتم
الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ! ، وإنما الرقّ أمر عارض أحدثه تحكُّم الأقوياء
في الضعفاء، فكانوا يقتلون الأسرى ثم عطفوا عليهم فاستبدلوا الاسترقاق بالقتل،
وكان عامًّا لجميع أقطار الأرض الآهلة بالبشر، وقد أقرته الشرائع القديمة كلها،
حتى صار من شئون العمران وضروريات الحياة الاجتماعية، وقد جاء الإسلام،
وهو على هذه الحال، فلم يكن من الحكمة أن يبطله دفعة واحدة، كما أبطل الربا
والفواحش والتبني؛ إذ لو أبطله لتعطَّل كثير من أمور المعايش والأعمال، فشرع
الأحكام لإزالة مفاسده كإذلال العبيد وإهانتهم وتحميلهم من العمل ما لا يطيقون،
حتى نهى الشارع أن يقول الرجل: عبدي وأَمَتي، وجعل العبيد إخوانًا لسادتهم،
وأمر بأن يطعموهم مما يأكلون وأوجب عتقهم في الكفارات وغير الكفارات من
الأسباب المعروفة في كتب السنة والفقه، وجعل العتق - من غير سبب - قربة من
أفضل القربات، حتى أن من العتق ما يوجبه الشرع بغير اختيار المالك، ومنه أن
مَن مثَّل بعبده بقطع عضو أو تشويه - أعتق عليه، قال صلى الله عليه وسلم:
(مَن لطم مملوكَه أو ضربه فكفارته أن يعتق) رواه مسلم وأبو داود من حديث ابن
عمر، وقد عمل به ابن عمر، وروياهما والترمذي عن سويد بن مقرن قال:
(كنا بني مقرن ليس لنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خادم واحدة،
فلطمها أحدنا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أعتقوها، قالوا: ليس
لهم خادم غيرها، قال: فليستخدموها فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها)
وإنما أبقى أصل استرقاق الأسرى والسبي من الكفار في الحرب الدينية مباحًا؛
لأنه قد تقتضيه المصلحة، حتى مصلحة السبي نفسه أحيانًا. مثال ذلك أن تقتل
رجال قبيلة في الحرب ولا يبقى منهم أحد يستطيع أن يقوم بأمر النساء والذراري؛
إذ لم تكن الشعوب والقبائل في الأزمنة الماضية -ولا هي الآن كلها أيضًا - ذات دول
غنية كدول أوربة وما يشبهها في النظام الاجتماعي، فإذا أخذ الغالبون السبي في مثل
تلك الحالة وربوه على ما يوجبه الإسلام من الرفق والتكريم، وتسروا النساء حتى
صرن أمهات أولاد لهم يُعتقن بمجرد موتهم - فلا شك أن هذا قد يكون خيرًا لهم من
تركهم هائمين على وجوههم. على أن الإسلام لم يوجب ذلك، بل شرع لنا أن نمن
عليهم بإطلاقهم بلا مقابل كرمًا وإحسانًا وأن نفدي بهم أسرانا، إن كان لنا أسرى عند
قومهم، كما قال في سورة القتال: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ
وَإِمَّا فِدَاءً} (محمد: ٤) .
وإذا عرفت أصل الرق الشرعي علمت أن ما اشتهر عن النخاسين من شرائهم
بعضَ بنات الشركس من آبائهن الفقراء لبيعهن في الآستانة وغيرها، ومن شرائهم
أو خطفهم لأولاد السودانيين أيضًا - كله باطل، فالأب لا يملك بيع أولاده. ومَن
دونه من الأقارب أوْلَى بأن لا يجوز له ذلك، والمشتري لأمثال هؤلاء لا يملكهم
شرعًا، ويجب على الحكام إبطال مثل هذا الرق قطعًا؛ لما يترتب عليه من مفاسد
التسري والتوارث وغير ذلك من الأحكام الباطلة.
وأما سواد السود من الناس فهو من تأثير الإقليم كما هو مشهور، وقد سكن
كثير من العرب - الذين يغلب عليهم اللون القمحي في البلاد الاستوائية وما يقرب
منها - فأثَّر ذلك في جلودهم؛ حتى صاروا أقرب إلى الزنوج منهم إلى البيض،
وسكن كثير منهم في البلاد الشمالية الباردة وما يقرب منها؛ فصار بياضهم كبياض
أهلها.
وأما الفرق بين الحر والعبد في الدين الإسلامي فهو أنه لا فرق بينهما في
الإيمان وتقوى الله تعالى والعمل الصالح وفضائل الدين وآدابه والجزاء عند الله
تعالى، وكم من عبد مملوك تقي خير عند الله من ألف حر، ولكن المملوك لما كان
لا يملك المال عند الجماهير ولا يملك التصرف في نفسه لتقيده بخدمة مالكه - كان
له بذلك أحكام خاصة لا يحتاج السائل إلى معرفتها كلها، فمنها ما هو تخفيف عليه،
ككونه لا تجب عليه الجمعة عند الجمهور خلافًا للظاهرية - وتصح منه إجماعًا -
ولا الجهاد ولا الحج، وإذا حج بإذن سيده أو معه صح منه ذلك وأثيب بقدر
إخلاصه وقيامه بالمناسك على وجهها ولا تجب عليه الزكاة؛ لأنه لا يملك المال،
ويترتب على عدم ملكه المال أنه لا يرث ولا يورَّث، وحدّه نصف حدّ الحر،
ويترتب على عدم ملكه التصرف بنفسه أنه لا يلي الولايات العامة كالقضاء، ولا
الخاصة كالنكاح والوصاية على اليتيم، وكل مسألة من هذه المسألة وأشباهها مفصلة
في كتبها وأبوابها من كتب الفقه. وفي بعضها خلاف بين الفقهاء. وأما بيع الرقيق
فكبيع غيره مما يملك، وحسب السائل هذا البيان المختصر.
***
العوام والخواص
(س٢) من الحاج عبد العزيز. ن. وفي بلد جكجاكرتا (بجاوه) .
نرجو من فضلكم أن ترشدونا في تعريف العام والخاص، هل العام مَن لم
يعرف اللغة العربية في فصاحتها وبلاغتها، والخاص مَن يعرفها؟ أو مَن هم؟
(ج) العامّ اسم فاعل من العموم وهو الإحاطة والشمول، والخاصّ اسم فاعل
من الخصوص وهو إصابة بعض الشيء أو الأفراد دون بعض. يقال: نزل المطر
فعمّ الأرض فهو عامّ أو خصّ بلد كذا فهو خاص. والسائل لا يسأل عن هذا، وإنما
يسأل عن معنى العامّيّ والخاصّيّ، واحد العامة والخاصة. فالعامّيّ هو المنسوب
إلى عامة الناس أي سوادهم الذين لا خصوصية لهم فيهم، ويقال لجماعتهم العوامّ،
والخاصّيّ المنسوب إلى خاصة الناس وهم كبراؤهم وزعماؤهم كالعلماء الأعلام
وكبار الحكام وأهل الفضل والجاه، ويقال لجماعتهم الخواص. وعلماء اللغة
العربية في جاوه يصح أن يكونوا من خواص أهلها، وأما كونهم هم الخواص
وحدهم فلا يتحقق إلا إذا كان أهل البلاد يخصونهم بالاحترام والتكريم ويفضلونهم
على سائر الناس، ويعدون مَن عداهم سواسية، لا فضل لأحد منهم على أحد ولا
كرامة.