تتمة لحضرة الأديب اللوذعي مصطفى صادق أفندي الرافعي
أما فنون الشعر فما زالت الأيام تلد أخًا بعد أخ من لدن امرئ القيس حتى وقف أبو تمام في طريق أبنائها فقبض على عشر بأصابعه وقام عليها بحماسته يعرفها الشعراء فلا يغادرون صغيرة ولا كبيرة إلا ومنها في أذهانهم ما يفعله شؤبوب الغادية بالروضة القحلاء وهنالك ضرب بينهم وبين معشش الأبناء (كذا) بسد فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبًا. بينما كان الشعراء في هذا القيد يهيمون في كل واد بين حماسة ومراثٍ وأدب وتشبيب وهجاء وإضافات وصفات وسير ومُلح ومذمة الجنس اللطيف - كان عبد العزيز بن أبي الأصبع يستنزل الفنون من شعف القلال إلى سهل الخيال حتى مثلت لديه ثمانية عشر ليس وراءها مطلع لناظر. فجعلها غزلاً ووصفًا وفخرًا ومدحًا وهجاءً وعتابًا واعتذارًا وأدبًا وخمريات وزهدًا ومراثي وبشارة وتهانيَ ووعيدًا وتحذيرًا وتحريضًا ومُلحًا وبابًا مفردًا للسؤال والجواب. على أنه في ذلك لم يخل من خطل في الرأي , أما وإن لكل من تلك المنازع طريقًا لا يجوزه الشاعر حتى يتزود بعد إجادة الصناعة مع الأدب الحقيقي قول ابن رشيق المتقدم. وإن لنكوص العمران على عقبيه تأثيرًا في أذهان الشعراء، فقد وجد منذ عنَّ قريب فيما جاور البلاد العربية كبغداد والموصل وديار بكر وغيرها، شعراء لا يميزهم عن أهل الجوابي والبضيع وحومل إلا ضعف الأسلوب، هذا ديوان الشيخ عبد الغفار الأخرس لو بسط فيه النظر جناحيه حتى يجمع إلى أوله آخره ما خرج الفكر بمعنى جديد على كثرة ما فيه من الأبيات. ولقد بقي ذلك البرق يلمع حتى انخدع بخلبه شعراء اليوم في تلك الجهات وأمثالها. وعجيب أن ينطق بلسانهم المصريون وأمامهم الغور الذي لا يدرك والبحر الذي لا يخاض , وفي بلادهم ما يأخذ بمعاقد البيان ويغنيهم عن جرعاء الحمى وحسك السعدان. انتشر في مصر الشعراء كالجراد المنتشر حتى لم تكن سهمة أكثرهم (قسمته وحظه) من الشعر إلا كالهباءة في الأجواء الثائرة وكيف لا يكون أكثرهم عالة على الشعر وأهليه والأدب ومنتحليه ما دامت البلاغة (خاوية الوفاض بادية الانفضاض) . أذكر أن ليلة جمعتني بعالم يدرس البلاغة فأخبرني أن له في الشعر يدًا وأن هذا الفن من السهولة بحيث لا يعتبر كغيره من الفنون فحدا بي الشوق أن أرى ما وراء كلامه فقلت له: إن رأى الأستاذ أن يجيز (ورد الخدود ودونه شوك القنا [١] ) فما هي إلا هنيهة جال فيها بخاطره ثم استرعى الأسماع واستفرغ الأفكار وظهر عليه الطرب حتى خِلت أن مِن وراء استرعائه ما يُخجل أبا تمام وحزبه، فإذا هو يقول: ورد الخدود ودونه شوك القنا ... فذِ يا أخيّ فارحما فوالله ما تصيب القنافذ بأشواكها ... ما أصاب منا شوك قنافذه هذه نادرة لم يظفر ابن الأعرابي بمثلها ولم يكن في تاريخ الشعر العربي كله أحسن منها. ولشد ما لقي الأدب من أولئك! فإنه أكثر مما لقي البازي عند المرأة العجوز [٢] . ألم تر كيف زعم الغربيون ومن يتعصب لهم من أبناء الشرق أن العرب لم تذق ألسنتهم من البلاغة إلا كما تذوق الأعين من النوم غرارًا ومضمضة. وإن لهم لعذرًا في ذلك ما دام شعراؤنا بمعزل عما يقوله الشاعرون , وربما ركب هواه من ليس يعرف مبلغ العرب من الحكمة فارتفع بشكسبير وروبرت وألفرد ده موسييه وجايتي وأضرابهم إلى الذروة ونزل بامرئ القيس وزهير والمتنبي وأمثالهم إلى الحضيض واستدرج بأبي العلاء - الذي يلقبه الإفرنج بحكيم المشرق- وعلاء الدين الوداعي وأنداد هؤلاء من سالفيهم، ولكنه كدم في غير مكدم واستسمن ذا ورم. لعمري - وما عمري علي بهين - لو كان الملك الضليل [٢] في عصر الإفرنج الذي ينطق الأبكم ويحل عقدة البيان من اللسان، لتهافتوا على أقدامه تهافت الذباب على الشراب , وما وجدوا إلى شق غباره من سبيل. هذا الشيخ علاء الدين بن مقاتل الحموي جاء في زجله المجرد من الإعراب تجريد السيف من القراب بما يضارع أعظم خيالات الإفرنج قاطبة وهو من المتأخرين لم ينسم من عرف المدنية ما نسموه، حيث يقول في وصف خياط سأله أن يصفه: صف جبيني وشعري من تفصيل ... نظمك المبتكر قلت: خيط الصباح يستفتح ... ذيل الدجى في السحر قال لي قصرت بل هو ستر الله ... حين علي أسبلوا حابك الزرقا فاتق الخضرا ... بالهلال كللوا ولست أرى فيما ينم عن فضل العرب في شعرهم أطيب من قول النعمان وقد حاجه كسرى في قومه: (وأما حكمة ألسنتها فإن الله أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه مع معرفتهم بالإشارة وضرب الأمثال وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس) . إنما العبء على عاتق شعرائنا اليوم. كيف يضيء المغرب ويظلم المشرق؟ فما لنا وللجزع اليماني وهذا اللؤلؤ والمرجان , وما لنا ولحصباء العقيق وهذا العقيق والعقيان , وما لنا ولماء الغدران ينساب كالحيات وهذه سحب النعيم غاديات رائحات وأمام العين ما يذكر الجنان ويعلم الإنسان , كيف يكون الشعر في الشعراء ولا أخال أطروفة ابن الجهم تخفى على أديب. بقي أن الناس يقولون: إن الشعر العربي كشجرة الدفلى، إذا أكلها مغتر برونقها أودت به إلى حيث لا يردد أنفاسه وضربت أسدادها بينه وبين السعادة. ولقد يصيب هذا القول غرضه من الحق ما دامت الدلاء ينهز بها الناس مع الغواة وما دامت الأمة لا توقظ الأفئدة من سباتها العميق. هذه حالة أولئك يعدون ما كان من هذا القبيل كأنه حماسة العصر تركها أبو تمامه. وغير أمتنا جرى شأوًا مغربًا لا يرغبون من الشعراء إلا أن يلقوا بين أعينهم مجد البلاد وفخر العباد فلا ينظمون غير منثور الآثار ولا يدَعون لسوء الأحدوثه من قرار وكل منهم كما قال شاعرنا أبو النجم البُستي: له قلم حده لا يكل ... إذا كان في الحرب سيف يكل فيوجز لكنه لا يخل ... ويطنب لكنه لا يمل وهل سبقهم لذلك إلا نابغة بنى ذبيان؟ حُصر أربعين يومًا فانتصر قومه فأخذه الطرب لمجدهم حتى قال الشعر ونبغ فيه؟ يستشف الناس معائب شعر العرب القديم في عصر التمدن الجديد فلا يجدون من الشعر ما كان يجده القائلون من قبل وهيهات أن يكون منه في شيء قول امرئ القيس: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل إذا أنشد الناس في الأزبكية مثلاً حيث لا تكركره صبا نجد , ولا تهتف به أجلاف العرب في سقط اللوى بين الدخول فحومل. وما أحسن الشعر إذا كان ملبسه يشوق ومنظره يروق لا تلج به الصلابة ولا تملؤه الصبابة يتناول المعنى دونه النجم علوًّا والنسيم رقة ولطافة , وحبذا أن يكون للشاعر غير البلج والدعج إلخ مما يعيد مجد بلاده ويرفع ما تأود من عمادها , وأسلوب الشعر المتين أن يكون اللفظ بقدر المعنى لا زائدًا فيفرط، ولا ناقصًا فيفرّط. قال خلاد لبشار بن برد: إنك لتجيء بالشيء المتفاوت , فقال: وما ذاك؟ قال: بينما تجيء بالشعر يثير النقع ويخلب القلوب مثل قولك: إذا ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما إذا ما أعرنا سيدًا من قبيلة ... ذرى منبر صلى علينا وسلما إلى أن تقول: ربابة ربة البيت ... تصب الخل في الزيت لها عشر دجاجات ... وديك حسن الصوت فقال: لكل شيء وجه وموضع , وهذا قلته في جاريتي ربابة وهو من قولي عندها أحسن من (قفا نبك) من ذكرى حبيب ومنزل. وفيما قدمناه ما يكفل للمتأمل أن يمر به في المجلة البيضاء حتى يجيء من البيان بالسحر ومن الشعر بالحكمة.