فُجئت الأمة المصرية - بل فجعت - باختطاف المنية لعَلاَّمتها الأثرى الأكبر أحمد كمال باشا الشهير، كان مُكِبًّا على تنقيح معجمه للغة الهيروغليفية بداره التي في (شبرا) إلى أصيل النهار، ترك الكتب مُفَتَّحَة وذهب إلى داره التي في جوار الأهرام فتوضأ وصلى المغرب وشرع يغير ثياب النهار بلبوس الليل والنوم فَخَرَّ ميتًا، ولم يكن يشكو شيئًا. يعرف قراء المنار في الأقطار البعيدة أحمد كمال باشا رحمه الله تعالى بما نشرنا له فيه من المقارنة بين اللغتين العربية والهيروغليفية، وهو الاكتشاف الذي امتاز به على جميع علماء العاديات من الإفرنج فأثبت به أو أكَّد ما اكتشفه غيره قبله من عراقة مصر في العربية وكون قدماء المصريين والعرب من عرق واحد لا يُعْلَمُ باليقين أيهما الأصل، أو من عرقين اشتبكت وَشَائِجهما من ألوف السنين ثم افترقا ثم عادا فاتصلا بعد الفتح الإسلامي واتحدا بفرع المُضرية من لغتهما القديمة السامية، أو المصرية ذات الأمشاج العديدة. بَرَأَ الخالق سبحانه أحمد كمال من معدن من أشرف المعادن: معدن العلم والصلاح، فكان منذ نشأته وطفوليته إلى وفاته في شيخوخته طاهرًا تقيًّا، تلقى العلم في مدارس مصر درجة بعد درجة، ورغب في الإخصاء بعلم العاديات المصرية واللغة الهيروغليفية فأتقنها، وألف فيها معجمه الكبير، الذي ليس له نظير، وكان مكبًّا على تحريره وتنقيحه إلى أن توفاه الله تعالى. والذي يعني المنار من ترجمته أنه كان منقطعًا للعلم، معرضًا عن اللهو واللغو، تقيًّا نقيًّا متنزهًا عن الفواحش والمنكرات، محتقرًا للشهوات، محافظًا على الصلوات، حتى إنه حضر في سن الشباب حفلة رسمية في حديقة الأزبكية في عهد إسماعيل باشا فقدم له أحد الكبراء فيها كوبًا من الماء الغازي (الغازوزة) ولم يكن يعرفها فظن بها من المسكرات فأنكر على محاول إكرامه ونهره قائلا: أنا. أنا من هؤلاء؟ وقد ربَّى أولاده النجباء على الدين والتقوى والجد والإقبال على العلم، فكان بيته كما قال الله تعالى: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} (يونس: ٨٧) كان كل من فيه يحافظون على الصلوات الخمس حتى الخدم من رجال ونساء، وكان رحمه الله تعالى في درجة عالية من مكارم الأخلاق، وأحاسن الصفات والعادات، كعلماء السلف الأعلام صدقًا وأمانة وحلمًا وتواضعًا. فهو من شهداء الله وحُجَجه على خلقه، تغمده الله برحمته، وجعل أنجاله النجباء خير خلف له.