للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


عبر التاريخ
ما قيل في فتح الإنكليز لبغداد

قالت جريدة (المقطم) في فاتحة مقالة طويلة نُشرت في صدر العدد الذي
صدر في ١٩ جمادى الأولى سنة ١٣٣٥ - ١٣ مارس سنة ١٩١٧:
قُضي الأمر في العراق، وسقطت بغداد عاصمة الخلفاء العباسيين، ومباءة
مجدهم، وعُنوان فخرهم، واستولى البريطانيون على منبت أثلة المنصور
والمهدي وهارون الرشيد والمأمون، وموئل العلماء والشعراء والأدباء في عصر
الشرق الذهبي الحديث، أي ذكرى تهيج في خاطر العربي إذا ذكر اسم بغداد
والزوراء ودار السلام؟ بل أي مجد يتحلى لعينيه عند سماع اسمها من دولة
عظيمة الأركان، متينة البنيان، قامت على العدل والنظام والعلم والأمان، وشعب
ناهض ناشط لطلب العلم وإتقان الصناعة وترويج التجارة، وتوسيع نطاق الزراعة
وبسط السيادة، وإضاءة مصباح العلم لتمزيق دياجير الظلام، بغداد دار العلم
والمجد، وبغداد مقر العظمة والثروة وبغداد عاصمة العرب وقاعدة الشرق.
هذا إرث مجيد ظل بيد الشرقيين اثني عشر قرنًا شاهدًا ناطقًا بعظمة أسلافهم
يناوح خرائب بابل وآثار نينوى، حتى صار أمره إلى الاتحاديين، فضاع منهم،
كما ضاع سواه، وصارت بغداد في يد مَن يعرف قيمتها، ويقدرها حق قدرها.
هذا ميراث العرب الكرام أخذه الاتحاديون، كما يأخذ الصبي الكرة، وقذفوا
به، كما يقذف بها، فأفلت من يدهم، وهم يسيرون الجيوش إلى بلدان أوربة
فاتحين، وثغور تركيا وكبار مدنها تسقط الواحدة بعد الأخرى، هذه سُنَّة الله في
خلقه، وقد سخر الاتحاديين لإنفاذ مشيئته وإنزال قضائه ".
ثم قال في فاتحة العدد الذي صدر في ٢٢ جُمادى الأولى بعد كلام، علل فيه
تسمية الجرائد الإنكليزية بغداد مدينة الشعر والخيال بأنهم أخذوا ذلك من كتاب ألف
ليلة وليلة، الذي هو أشهر كتاب عند الإنكليز بعد التوراة والإنجيل:
أما العرب فينظرون إلى بغداد من وجهة أخرى، وإن لم يغفلوا وجهة
الشعر والخيال، فالعرب في مقدمة الأمم التي تجلّ الشعر والشعراء، ولكن العرب
يرون في بغداد القديمة عنوان مجد جنسهم، ورمزًا إلى أكبر شأو بلغته حضارتهم،
ويذكرون أن عصرها الأول كان عصرهم الذهبي؛ إذ منها انبلج صُبح العلم في
العصور الحديثة، فأضاء الشرق والغرب.
إن العرب يرون في بغداد الأولى مقر العلم والحكمة، وخزانة معارف الشرق،
ومدرسته التي نبغ فيها العلماء والأطباء والفلاسفة والفلكيون والكيماويون
والشعراء والكُتاب واللغويون والمهندسون برعاية العباسيين، وعناية أفاضل
خلفائهم، ولا سيما المأمون الذي كان عضد العلم وسند العلماء.
قال السر هنري رولنصن المؤرخ الشهير كلامه عن بغداد ما نصه: وقد
نافست بغداد قرطبة في الآداب والعلم والصناعة والفنون، فكان لهاتين المدينتين
سيادة العالم من هذا القبيل. أما في التجارة والثروة فإن قرطبة لم تبلغ شأو بغداد.
وكانت بغداد عاصمة الإسلام الدينية والعاصمة السياسية لمعظم بلدانه، لما كان
الإسلام ركن حضارة الدنيا.
هذه هي بغداد كما يراها العرب الذين يعرفون تاريخ قومهم، ويحفظون ذكر
عظمة جنسهم، ويتحسرون على أيام الرشيد والمأمون، ويتمنون لو أتيح للعرب أن
ينهضوا مثل نهضتهم في ذلك العصر السعيد، ويتعاونوا على رفع شأنهم بإتقان
العلم وتنشيط الصناعة والتفاني في تأييد المجموع.
كانت بغداد لسلطنة العرب كلندن اليوم لسلطنة البريطانيين، فكانت مركز
قوتهم، ومجمع علمهم، وركن صناعتهم، وسوق تجارتهم، ومجلس حكومتهم،
وكان خلفاؤها ينظرون في الجهات الأربع ويعلمون أن الرياح كيفما هبت فإنها تهب
عليهم من ولاياتهم وممالكهم، حتى لقد قال الرشيد - يخاطب السحابة -: (أمطري
حيث شئت فإن خيركِ يأتيني) .
إن بغداد صارت الآن للعرب مدينة الشعر والخيال؛ إذ لا سبيل إلا بهما إلى
تمثُّل عظمتها الماضية، أما في عصر العرب الذهبي فقد كانت بغداد جامعة لأبهة
الملك وشرف العلم ومجد الصناعة وعظمة التجارة وإتقان الفنون وبراعة النظام،
فكان الخيال والشعر فيها تفكهة يلطفان من أخلاق أهلها، وهم في طلب العلى
جادون، وإلى التقدم والارتقاء والنجاح ناشطون، وفي ذلك يقول أحد شعرائهم:
بغداد أيتها الجياد فإنها ... أنجى وأقرب للشؤون وأنجح
ولله در ذلك المستشرق القائل [١] :
في بلاد سكانها من صميم العرب الذين عُرفوا بالعزة والأَنَفَة والشمم، ودانت
لهم الأقطار، ففتحوا الممالك، ودوخوا الأمصار في غابر الأعصار، وأنشؤوا لهم
في التاريخ مجدًا خالدًا، وذكرًا باقيًا، فذاع فضلهم، وطارت شهرتهم، وتناقلت
الركبان أخبارهم، هناك جنة عدن، وهناك جنات النعيم، كانت رافلة في حُلل
الهناء والرخاء أيام كانت إنكلترة وألمانية فيافي وقِفَارًا، وكان أهلهما غارقين في
بحار الجهل، يتخبطون في دياجي الظلام، بلادكم - أيها العرب - هي التي
أزهرت فيها الحضارة، وأينعت الفنون، وأثمر الأدب، وعمرت دور العلم
والفلسفة، وهي البلاد التي انبعث منها نور الدين، وألبَست العالم ثوب الرفاهية
والسعادة.
ترى هل يكون للعرب نصيب من يقظة العالم بعد الحرب، ويد في نهضته
القادمة، فيحل الجد محل الخيال، وتطلق العقول والقلوب مما أصابها من الفتور،
وتنزل هذه الأمة المنزلة التي تجدر بها في مجالس الشعوب؟ ، أو تظل تعود
ببصرها القهقرى إلى عصور مضت، وأيام انقضت، تتغذى بالذكرى، وتصعد
الأنفاس الحرّى. اهـ.