للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تقرير فضيلة مفتي الديار المصرية
في إصلاح المحاكم الشرعية

اختصاص المحاكم الشرعية مادة ومكانًا
رأيت أن بعض القضاة يلتبس عليهم الأمر عند التخاصم، فيحكمون بعدم
الاختصاص فيما هو متعلق بالمواد الشرعية، كما وقع أن رجلاً ادّعى نشوز زوجته
ليسقط نفقتها وأجرة سكناها وطلب إلزامها بأجرة المسكن الذي كان أعده لها بمقتضى
حكم سابق مدة شهرين، فحكم القاضي بعدم اختصاصه بالنظر في الإيجار ظنًّا منه
أنه حق مدني محض مع أنه مرتبط بالنشوز وسقوط النفقة، وكما وقع لآخر في
دعوى زوجته علي أبيها بجهازها، وأنه أخذه منها بعد أن استلمته، فإنه حكم بعدم
الاختصاص مع أنه كان يمكنه النظر في الأولى والحكم في الدعوى بعد ما حضر
لديه الخصماء، وهما الوالد وبنته، وأفضل حَكَم بين مثلهما هو القاضي الشرعي
الذي يتولى النظر في حقوق القرابة أيًّا كانت، وهو أيسر ما كان على المتقاضين.
فأرى أن يطلق النظر للقضاء في الأمور المذكورة في المادة ١٦ من اللائحة،
وفيما لا يتجاوز مبلغه خمسة وعشرين جنيهًا في أي مادة شرعية.
ثم ألاحظ ما لاحظه سماحة قاضي محكمة مصر الكبرى من أنه يجب أن
يضاف على الأمور المذكورة في المادة ١٦ بعد التوكيل بين الزوجين
ألفاظ (وغيرهما فيما يتعلق بما ذكر) .
وفي مقام الاهتمام بإصلاح هذه المحاكم لا ينبغي توجه الفكر إلى تضييق
اختصاصها , بل يجب أن يفسح الأمل في توسيعه حتى تغني الحكومة عن كثير من
الوسائل التي تحاولها من زمن بعيد في تيسير التقاضي على الناس وتخفيف الحمل عن قضاة لمواد الجزئية في المحاكم الأهلية، وقلما تصادف فيها نجاحًا حقيقيًّا، ثم يجب أن يترك أمر الاختصاص على ما هو عليه في القوانين المصرية بدون تعرض لتفصيله مع إصلاح ما جاء في مواد التنفيذ من اللائحة الجديدة مما يوهم أن بعض أحكام المحاكم الشرعية فيما هو مختص بها بمقتضى الشريعة لا ينفذ، فإن أمر الاختصاص بيّن والناس معه عارفون ومقتنعون بأن ما منعت المحاكم الأهلية من النظر فيه بمقتضي المادة ١٦ من لائحة ترتيب المحاكم الأهلية يختص النظر فيه بالمحاكم الشرعية، ويصعب جدًّا تحديده بغير ما حددته لائحتا ترتيب المحاكم الأهلية والشرعية والإتيان بهذه الإشارات في اللوائح مما يوجب الارتباك في العمل ويضر به.
ولنفرض أن رجلاً مات وترك ديناً على آخر ويريد وارثه أن يثبت وراثته
له بحكم شرعي، وقد حتمت اللائحة أن لا تقام الدعوى إلا على خصم حقيقي
كما هو الواجب شرعًا، وليس للتركة خصم حقيقي إلا هذا المدين، أفلا يضطر
الوارث لإقامة الدعوى على المدين ليصدر الحكم بالدين وفي ضمنه الحكم بالوراثة
حسبما تقتضيه القواعد الشرعية؟ فإذا صدر هذا الحكم، وهو من محكمة مختصة
بحكم الضرورة التي لا مندوحة عنها، فكيف لا ينفذ لأنه ليس حكمًا في أحوال
شخصية، مع أنه مرتبط بالأحوال الشخصية غاية الارتباط، وكيف يلزم من حكم له
بالدَّين أن يرفع دعوى جديدة بدَينه هذا أمام المحكمة الأهلية ليمكنه التنفيذ، فإن
ضعفت الثقة بحكم القاضي في هذا الدَّين، فكيف تقوى في حكمه بما هو أهم منه وهو
النسب الذي تتبعه حقوق الوراثة في الدَّين، وفي غيره من التركة التي تبلغ قيمتها
آلافًا من الجنيهات.
فالرأي عندي إبقاء الاختصاص على ما كان عليه واعتبارأحكام المحاكم
الشرعية في جميع ما أُبيح لها أن تنظر فيه من المواد بمقتضى الشريعة الإسلامية،
وإنما يجوز للحكومة أن تقيد الحكم في بعض المسائل التي تحتاج إلى التوثيق
بالكتابة بأن يكون للدعوى مستند مكتوب مثلاً على الصفة التي تحددها كما صنعت
مثل ذلك في الوقف والزواج ونحوهما، وبهذا تنتفي كل المصاعب التي تحس بها
الحكومة والناس معًا، أما الاختصاص من جهة المكان فقد حددته المواد ٢١ و٢٢
و٢٣ من اللائحة الجديدة، وذكر فيها لفظ (توطن) المدعى عليه مثلاً، وقد أظهر
العمل أن من المتخاصمين من لا وطن له كالرحالة من العربان وغيرهم،
وكالمسجونين والمحكوم عليهم بالأشغال الشاقة، فإنهم ليسوا متوطنين شرعًا حيث
هم، ويصعب جلبهم من سجونهم ومشاغلهم إلى المحاكم المختصة بالنظر في
الدعوى عليهم باعتبارهم متوطنين في دائرتها، وكذلك الموظفون إذا لم يسكنوا
بعائلاتهم حيث يعملون في وظائفهم وفي أزمان الانتداب لمدد طويلة، ونحو ذلك مما
يطول شرحه.
ثم اختلف النظر في الزوجة يعقد عليها زوجها في بلد أهلها، ثم تقيم معه
مدة طويلة في بلد آخر، ثم ترجع إلى بلد العقد، هل تقام الدعوى على زوجها في
محل العقد أو في بلد الزوج؟ فإذا كان العقد في بلد الزوج ولم يدخل بها وأقامت
الزوجة في بلد آخر هو بلد أهلها، وأرد الزوج أن يدعوها إلى الدخول في طاعته
والبناء بها، فهل يدعي عليها في بلده حيث كان العقد أو في بلدها؟
والذي أراه وطلبه جميع القضاة أن يبدل لفظ (توطن) في مادتي ٢١و ٢٣
بإقامته، وأن يبقى في مادة ٢٢ على حاله، وقد كان لفظ الإقامة بدل التوطن في
اللائحة القديمة، وهنا أعجل بذكر مسألة كان العمل فيها قبل اللائحة أيسر منه بعدها
وهي دعوى زوجة على زوجها بأنه تركها بلا نفقة وهي في أسوان وهو في
الإسكندرية مثلاً، معروف المقام، فكان ينظر فيها علي مذهب زفر في المحكمة
التي تقيم الزوجة في دائرتها، ويصدر لها الحكم بدون إعلان الزوج ولا إعذاره متى
استوفيت الشروط المسوّغة للحكم، ويبقى حق المعارضة للزوج عند التنفيذ لا محالة
وكان في ذلك تيسير علي الزوجات الفقيرات، ولكن حُظر هذا النوع من التيسير
بعد اللائحة، وأرى أن يبقى الأمر على ما كان عليه قبلها.