للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: علي سرور الزنكلوني


خطبة الأستاذ الشيخ على سرور الزنكلوني

أيها السادة:
كان لصاحب المنار منذ عرفته مصر وجود قوي، وشخصية بارزة، امتد
صوتها إلى الأقطار العربية والأقطار الشرقية، بل كان لهذا الصوت أثر في بعض
الأمم التي ليست شرقية ولا إسلامية؛ لأن الأبحاث التي تعرض لها صاحب المنار،
وإن اتصلت بالشرق وبالإسلام اتصالاً قويًّا، فإنها متصلة بالغرب أيضًا؛ لأن
عيون الغرب لا تنام عن المسلمين ولا عن الشرقيين.
اشتغل صاحب المنار طوال حياته بقضية الإسلام وقضية العرب، وبما
يتصل بالإسلام من أمر الخلافة، وبما يتصل بالعرب من هجمات الاستعمار، ولم
تحرم مصر من زعامة السياسة في ظروفها المختلفة فكان بهذا كله لمصر، وللشرق
وللإسلام والمسلمين.
أيها السادة:
ليس في وسعي أن أوفي صاحب المنار حقه في مثل هذا الموقف، ولكني
أردت أن أساهم مع المساهمين؛ وفاء لحق الصداقة وتقديرًا لتلك الشخصية
النادرة.
عرفت المغفور له صاحب المنار منذ ابتدأ الأستاذ الإمام - رضوان الله عليه-
دروسه في الأزهر، ولم يكن صاحب المنار في ذلك العهد يدهشنا وجوده العلمي؛
لأن طلاب الشيخ جميعًا كانوا يغترفون من بحر واحد، وإن تفاوتت مراتب
جهودهم واستعدادهم.
ولم يكن لصاحب المنار ميزة في ذلك الوقت سوى أنه كان يكتب ما يلقيه
أستاذنا علينا، وقد كان مثل هذا العمل في نظر الأزهريين عملاً عاديًّا لا أثر
لموهبة خاصة، ولا لنبوغ ممتاز.
تآخينا وتآخى معنا السيد رشيد بحكم صلة الدرس العامة، وبقدرها، وكان
هذا لا يمنع بعضنا من توجيه النفس إلى السيد رشيد، توجيهًا خاصًّا كلما ظهر
السيد رشيد بموهبة ممتازة، قد يطول الحديث عنها؛ حتى هوجم الأستاذ الإمام في
آرائه الدينية والإصلاحية مهاجمة عنيفة، من كل القوى التي توافرت لها عوامل
الكيد والاستبداد، وإذا بالسيد رشيد يبرز في وجوده القوي لمناصرة خصوم الشيخ
بقلمه ولسانه، وينشر في مجلة المنار آراء أستاذه واتجاهاته. وما كان يتلقاه من
دروس شيخه، وكان يعلق عليهم بعبارات من عنده تدل على كمال الفهم واستقلال
الفكر، وكذلك كان أمر السيد رشيد في كل ما كان يكتب من مقالات وما يدون من
أبحاث؛ لأن أسلوب الأستاذ الإمام خلق ممتازًا، وسيبقي ممتازًا.
مات الأستاذ الإمام، وللسيد رشيد في نفوس إخوان الشيخ وأبنائه منزلة سامية،
ومع سمو هذه المنزلة لم يخطر ببال أحد أن السيد رشيدًا سيرث الشيخ فيما كان
يدعو إليه، وأنه سيرتفع صوته في بلاد الإسلام الغائبة، ولكن أبى الله سبحانه إلا
أن يسير السيد رشيد بخطى واسعة إلى الأمام، وقدر الله لصوته وهو على منبر
مناره أن يدوي في بلاد الإسلام والشرق، ولم يعتر جهاده في سبيل العلم والدين بعد
وفاة شيخه مع كثرة المخاطر شيء من الوهن والفتور.
ولا جرم أن هذه الميزة هبة إلهية، لا تمنح إلا للقليل من أفذاذ الرجال؛ لأن
حياة الأستاذ الإمام كانت قوية في مصر وفي غير مصر.
لهذا كان بقاء صاحب المنار ثلاثين عامًا بعد وفاة شيخه في وجوده القوي
يصد عادية جيوش الباطل التي لم تفتر ولم تنم، دليلاً ملموسًا على أنه من الأفذاذ
الذين بخل التاريخ بالكثير من أمثالهم، ولعل أكبر شاهد على ذلك أن مهمة السيد
رشيد العلمية لم يستطع إلى الآن أن يقوم بها فرد أو جماعة على كثرة العلماء
والكاتبين.
أيها السادة:
إن لصاحب المنار - رحمة الله عليه - من حياته العلمية آثارًا كثيرة وجوانب
قوية، لا أستطيع أن أوفيها حقها.
وقد أردت أن تكون كلمتي فيه الآن مقصورة على علمه بالقرآن وبأسرار
القرآن؛ لأن صلتي به لم تتأكد إلا من درس التفسير على الأستاذ الإمام، ولأن
آثاره في تفسير القرآن هي أقوى الآثار وأظهرها في الإقناع والإلزام، ولأن مفسر
القرآن إذا أخلص وصدق استحق الثناء الخالد؛ لأنه بصدقه وإخلاصه يشرف
عقله على الوجود، وعلى ما وراء الوجود، وقد تحقق ذلك للسيد رشيد، رحمة
الله عليه.
فالقرآن كتاب الوجود، وكتاب ما وراء الوجود، وكل من جهله واتجه إلى
غيره مهما كان قويًّا في نظر نفسه، وفي نظر أمثاله، فحياته غير صادقة،
وسعادته لا ضمان لها، ولا استقرار، بل المسلمون إذا أخلصوا للقرآن فهمًا وعملاً،
وعرضوا جواهره السماوية على عقول البشر، فقد ملكوا كل شيء؛ لأن العقول
من مادة السماء، ومادة السماء إذا تركزت في الأرض محال أن تطغى عليها
شهوات النفس الترابية.
والإنسان إذا أهمل فهم القرآن والتبصر فيه، وقد أحاط بما في الأرض علمًا؛
فليس من الله ولا من الوجود الحق في شيء، فحصر العقل في جزء صغير من
الوجود يستخدمه في حياته المادية لا يصور الحقيقة، ولا يحقق معنى الحياة
والسعادة؛ إذ الحياة الإنسانية مسبوقة بوجود لانهائي، وبعدها وجود لانهائي.
ومن حق العقل أن يفكر طويلاً في ذلك الوجود اللانهائي، هذا لا يتم إلا بفهم
القرآن، ومن أجل ذلك يقول الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ
الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: ٧) ويقول: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ
كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: ٦٤) .
أيها السادة:
إن لأهل القرآن وأنصاره مرتبتين: المرتبة الأولى في فهم معانيه
الصحيحة وامتزاجها بالعقل والروح والنفس، فيشع منها النور والقوة بحيث يعملان
عملهما في الوجود بقدر الطاقة البشرية، وهذه هي مرتبة النبي صلى الله عليه
وسلم، ومرتبة الصديقين من أصحابه وأمته إلى يوم الدين.
المرتبة الثانية - هي فهم معانيه فهمًا صحيحًا، وامتزاجها بالعقل، وبالنفس
في أغلب أحوالها، وهذه هي مرتبة كبار العلماء والصالحين مع ما في كل من
المرتبتين من المنازل المتفاوتة بتفاوت الاستعداد، وصفاء الجوهر.
وإني أؤمن إيمانًا قويًّا بأن السيد رشيد قد تمت له المرتبة الثانية في أرقى
منازلها، وأرجو أن يكون له نصيب من المرتبة الأولى.
أيها السادة:
إذا علمتم أن القرآن هو كلام الله، وأنه كتاب الوجود، تعلمون مقدار ما بذلته
وتبذله العقول في استخراج جواهره منذ أنزل إلى اليوم، ولا يتم للعقل استقصاء
كل ما فيه وتحديده بالدقة ما دام الوجود قائمًا، ولكن العقل يأخذ منه ما يستكمل به
وجوده، وطمأنينته في الدنيا والآخرة على قدر فهمه.
ومن هنا تعددت آراء المفسرين لاختلاف وجوه النظر؛ ولذلك كان تفسير
القرآن في أكثر العصور فن علم وجدل، مع أن التفسير يجب أن يكون زبدًا
مستخلصًا بالمقاييس العلمية الصحيحة المستمدة من الفن والبحث، كما أن التفسير
الذي لا يعتمد على مقاييس العلم والعقل، لا يسمى على الحقيقة تفسيرًا للقرآن
الكريم، ويجب أن يدخل في مقاييس العلم ما يستظهره العقل من أسرار الوجود
بالدلائل القاطعة، وليس من التفسير مظاهر الحياة التي تعتمد على نزعات النفس
في إنسانيتها الضعيفة المضطربة.
وهذا هو ما وفق إليه الراحل الكريم في تفسيره للقرآن وفي علاجه للأبحاث
الدينية، فقلما كان يتعرض السيد رشيد لبحث لا يتصل بالقرآن اتصالاً جوهريًّا إلا
بقدر ما تمس إليه الحاجة.
وكثيرًا ما كان يتعرض لأقوال المفسرين، وما يستدلون به، ولكنه لم يترك
القرآن في المكان الذي تتجاذبه فيه الآراء كما فعل أكثر المفسرين، بل كان في
تفسيره يستخلص القرآن للعقل مؤيدًا للغة وبالشواهد والأدلة من ظواهر الوجود.
وأول من فتح هذا الطريق وعبَّده الأستاذ الإمام رضي الله عنه، وقد سار فيه
تلميذه صاحب الذكرى شوطًا بعيدًا انتهى فيه إلى آخر سورة يوسف عليه الصلاة
والسلام، وقد فسر من القرآن على هذا المنوال الحكيم اثني عشر جزءًا، وهي
أصعب أجزاء القرآن فهمًا واستنباطًا، وكان آخر آية فسرها من سورة يوسف
ومات على إثر تفسيره لها قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن
تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا
وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: ١٠١) .
ولقد فاجأته المنية والمؤمنون الصادقون، والعلماء المخلصون المستعدون لفهم
القرآن على وجهه وتذوق حلاوته وتلمس بعض وجوه إعجازه - هم وحدهم
الذين يقدرون خسارة العلم والإسلام الفادحة بفقد صاحب المنار.
وإذا كانت هذه هي منزلة السيد رشيد من تفسير القرآن الحكيم، وهو غاية
الغايات والشغل الشاغل للملأ الأعلى في السماء وفي الأرض؛ فماذا يبتغي آل
السيد رشيد له وأصحابه له من المنزلة الرفيعة؟
رحم الله السيد رشيدًا بقدر ما ضحى، وبذله من جهوده، وأفاض عليه
من كرمه الواسع ما يفيضه على المخلصين من حفظة كتابه، وأسكنه مع النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا.