للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


رسالة من طهران بحروفها

بسم الله الرحمن الرحيم
إلى حضرة رشيدنا ومرشدنا حكيم الإسلام وفيلسوفه مربي الأمة المحمدية
والدنا وأستاذنا السيد محمد رشيد رضا منشئ مجلة المنار الإسلامي , أطال الله بقاه
ورزقنا بره ولقاه , آمين يا رب العالمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: فالموجب لتحرير هذه السطيرات هو
الإخبار بما اعترض به سفير الدولة العثمانية الأمير شمس الدين بك على الجرائد
الفارسية عند ترجمتها لمقالتكم (الشورى في بلاد إيران) المذكورة في العدد السابع
من المجلد التاسع من مجلتكم الغراء. أول مَن ترجم ذلك ذكاء الملك في جريدته
(تربيت) الغراء، فنبه المترجم علماء الفرس وسواسهم، وذكر لهم بعد الترجمة أن
منزلة ومقام حضرة حكيم الإسلام وفيلسوفه السيد محمد رشيد رضا عند جميع أهل
الأقطار من المسلمين وخصوصًا العرب الكرام بمنزلة مئة عالم مجتهد من أهل
التشيع، فاغتنموا الفرصة وفكروا - أيها السواس - في مقالة هذا الحبر واقرأوها
على المنابر وفي المعابر. ثم نقل ما ترجم، وما قال في جريدة (مجلس) وهي
جديدة الطلوع يقرأها في طهران الصغير والكبير والذكر والأنثى بل وفي جميع
إيران.
كتب الأمير شمس الدين بك إلى وزير خارجية (علاء السلطنة) كتابًا،
وأغلظ فيه وذكر أن ما ترجمته روزنامة (تربيت) ، ونقلته عنها جريدة (مجلس)
من المنار أسباب يلقيها أعداء الدولة ليوقعوا النفاق بين الدولتين، ويحدثوا الشقاق بين
الفريقين، فالأولى أن تحتموا على جرائدكم إذا رأوا مثل هذه المقالات أن لا
يترجموها، فأجابه وزير الخارجية بأن صاحب المقالة ليس من رعيتنا حتى نؤاخذه،
وبأن سلطاننا قد أطلق الحرية للجرائد والأقلام فلا يمكننا معارضتهن بشيء. هذا
معنى ما كتبه السفير، وما أجابه به الوزير، رأيت الكتاب والجواب بعيني في يد
سيد محمد صادق نجل السيد محمد الطباطبائي المجتهد مدير جريدة (مجلس) .
وقد كنت يومًا في مجلس مشحون من طلاب العلوم الدينية فتذاكروا ما جرى
بين السفير والوزير، فقام أحدهم خطيبًا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: إن
دولة الترك تريد أن تضغط على عقولنا وأفكارنا كما فعلت بإخواننا من العرب
المساكين، تطلب منا أن لا نكتب في جرائدنا ما ينور عقولنا، وينبه أفكار أهل
ملتنا من الفرس بأن مجلس الشورى إذا دار في إيران فأحكامه وقوانينه هي أحكام
الشريعة وقوانينها، فيجب على كل مسلم أن يتبع أحكام الشريعة المحمدية حيث
كانت , ماذا رأينا من الدولة التركية؟ رأينا منها التعدي على حدود مملكتنا من
طرف تبريز رأينا منها التعدي والظلم لإخواننا وأهل ملتنا في العراق. رأينا منها
ذبحهم وجزرهم في الشهر الماضي , مهلاً مهلاً أيها الترك أفيقوا من غفلتكم،
وتيقظوا من نومكم، فليس اليوم كالأمس، ولا غد كاليوم، انفتحت علينا أوربا
وأتانا أهلها من كل حدب ينسلون، هذا تاجر وهذا سائح وهذا حكيم والآخر داعٍ
لدينه، والقصد من الكل ابتلاعنا معاشر أهل الإسلام، فإن تيقظتم وإلا فأنتم
صبوحهم ونحن غبوقهم لا سمح الله بذلك، أيها الترك تعالوا إلى كلمة سواء بيننا
وبينكم أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئًا ولا نتخذ المستبدين أربابًا من دون الله،
طاعتهم كطاعته ومعصيتهم كمعصيته، بل نجالدهم بالسيف والسنان، والقلب
واللسان، فإن توليتم فنشهدكم بأنا مسلمون، ونبرأ إلى الله من المستبدين الخائنين،
ومستمسكون بقوله عز من قائل في وصف المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} (الشورى: ٣٨) وهم الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج: ٤١) .
هذا معنى ما خطب به خطيب الطلاب الدينية أحببت أن أطلعكم عليه فإنه بعد
ما ترجم قولكم صار بين الناس - ذَكرهم وأُنثاهم - أشهر من نار على علم اهـ.
(المنار)
ذكر الكاتب اسمه، ولم يأمر بكتمه، ولكننا لم نذكره لأجل قوله: إنه اطلع
على ما كتب السفير والوزير , ولعله يبيّن عنوانه الذي تصل إليه به الرسائل
لنكتب إليه.
وقد رأى القراء أن خطيب طلاب العلوم بطهران أعقل من سفير دولتنا الذي
يدعي أن بيان الحق، وإظهار حكم الله في أمر المسلمين وقاعدة حكومتهم لا يأتي
إلا من عدو لدولته، ولا يكون له من الأثر إذا هو ظهر في بلاد الفرس إلا تأريث
العدوان بينهم وبين قومه الترك، ومعنى هذا - ولا ندري أفهمه أم لا - أن دولته
عدوة للحكم الإسلامي الذي وضع القرآن له أساس الشورى، وأنها تعادي كل من
يقول به أو يحاول العمل به.
ونحن ننزه الدولة في مجموعها والأمة العثمانية عن هذه الضلالة، ونقول:
إن الأمة والدولة يئنَّان من حكم الاستبداد ويحنان إلى حكم الشورى، ولكنهما غلبتا
عليه ولو لم يجد المابين عمالاً مثل حضرة السفير لما تمكن من القضاء على القانون
الأساسي ومجلس المبعوثان بالإعدام , لماذا يكون المُطالب بالشورى والعدل، أو
المادح لهما عدوًّا للدولة، ولا يكون المساعد على الاستبداد والظلم لأجل المال
والجاه هو العدو المبين للدولة والملة؟ أي الأمرين أضمن لسلامتهما؟ أليس من
العار علينا أن نجد الجواب الصحيح عند أحد طلاب الفرس والجواب الباطل عند
أحد وزراء الترك.
إن ما أنذر المسلمين به الخطيبُ الفارسي لَواقع إن لم يتداركوا أمرهم، وإن
الخطر على العثمانيين أقرب , فنسأل الله تعالى أن يغير ما بنا إلى خير منه قبل أن
تقع الواقعة فتكون خافضةً رافعةً.