للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المتكلمة بالقرآن
قرأنا في كتاب روضة البلاغة للعلامة أبي الحسن البارزي ما نصه:
عن أحمد بن عبد الله الواسطي قال: خرجت إلى مكة فإذا بامرأة على الطريق
تتلو آية من كتاب الله تعالى وهي: بسم الله الرحمن الرحيم: (من يهدِ الله فلا
مضل له ومن يضلل فلا هادي له) [١] ، فلم أشك أنها ضالة، فقلت لها: يا أمة الله،
أحسبك ضالة، فقالت (بعد البسملة - وهكذا كان كل الأجوبة مصدّرًا بالبسملة
فحذفناها للاختصار) : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (الأنبياء:
٧٩) فقلت لها: يا أمة الله، أين تريدين؟ قالت: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} (آل عمران: ٩٧) فقلت: يا أمة الله، من أين؟
قالت: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (الإسراء: ١) فعلمت أنها من بيت المقدس، فقلت: يا أمة الله،
ما لك لا تكلمينا؟ فقالت: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (ق: ١٨)
فقلت لصاحبي: أحسبها حَرورية. قالت: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} (الإسراء: ٣٦) ، فقلت: لا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنها لا تكلمنا إلا من كتاب الله، فقلت: يا أمة
الله، آخُذ بعيرك، فأقوده إلى مكة؟ قالت: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (البقرة: ٢١٥) ، فأخذت بعيرها أقوده، فبينما نحن كذلك إذ أشرفت من طريق
الشام قافلة، قالت: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} (النحل: ١٦) قلت: يا
أمة الله ما تريدين؟ قالت: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَه} (يوسف: ١٩) الآية، فقلت: في القافلة قرابة لها. قال: فلما أقبلت القافلة قلت:
يا أمة الله، بمَن أصيح ومَن لك في القافلة؟ قالت: {يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ
وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياًّ} (مريم: ١٢) {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى} (مريم: ٧) {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْض} (ص: ٢٦) فصحت:
يا يحيى، يا زكريا، يا داود. فأجابني ثلاثة نفر، فقالوا: ما تريد؟ قلت:
معي عجوز لا تكلمنا إلا من كتاب الله تعالى. فقالوا: إنها أمنا، قد ضلت منذ ثلاثة
أيام قال: فلما أبصرتْهم تبسمت، وقالت: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى
المَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً} (الكهف: ١٩) ، قال: فعلمت أنها تريد أن تزودني وتبرني، فقلت: لا حاجة لي
في زادكم وفي بركم، أخبرونا عن هذه العجوز ما لها لا تتكلم إلا من كتاب الله
تعالى؟ ! قالوا: إنها - منذ أربعين سنة - ما تكلمت إلا من كتاب الله مخافة
الكذب. اهـ
(المنار)
إن المحافظة على الصدق من أفضل الفضائل على الإطلاق، وقد يبلغ الغلو
بالشيء والتعمق فيه إلى ما يُستغرب وقوعه كما ينقل عن الأسخياء والشجعان. ومن
ذلك خبر هذه المرأة، ويلوح للذهن أن الحكاية مخترعة، لا لأن استحضار الآيات
التي تشير إلى المقاصد عسير؛ بل لأن الصبر عن الكلام هذه السنين الطوال محل
غرابة، ولكن الأصل في الكلام - لا سيما كلام أهل العلم - أن يكون صادقًا، ولله
في خلقه شؤون.
هذا، وقد نص بعض الفقهاء على أن استعمال القرآن للتخاطُب في الأمور
العادية محظور.