للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: حسن البنا


خطيئة آدم

حضرة المحترم رئيس تحرير المنار:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد ...
فأرجو التكرم بإيضاح معنى خطيئة آدم عليه السلام، وكيف يوسوس إليه الشيطان؟
وكيف يتفق ذلك مع العصمة؟ مع بيان توبته، وهل ما يقال من أنه أمر في الباطن
ونهي في الظاهر صحيح؟ وهل جاءت هذه القصة في القرآن على سبيل التمثيل
كما قال بعض المفسرين؟ وما معنى التمثيل عند من يقول به؟ أفيدونا، أثابكم الله،
وغفر لنا ولكم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... محمود عسكر
... ... ... ... ... ... ... ... معلم بملجأ بنها قليوبية
والجواب، والله أعلم:
قص الله علينا في القرآن الكريم قصة آدم - عليه السلام - وأنه خلقه
وسواه ونفخ فيه من روحه، وأسكنه هو وزوجته الجنة، ثم أمره ألا يأكل من
الشجرة {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ
تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: ٣٥) فوسوس لهما الشيطان
وخدعهما وأقسم لهما إنه لمن الناصحين، فاغترا بنصيحته، ونسي آدم ما عهد به
إليه ربه، فأكلا من الشجرة - مع تحذير الله إياه من إبليس وجنوده - ثم علما ما
كان من أمرهما فندما، وألهمها الله - تبارك وتعالى - صيغة التوبة، فقالا:
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف:
٢٣) فقبل الله توبتهما، ولم يؤاخذهما على هذا العصيان إلا بأن أنزلهما إلى
الأرض حيث استعمراها ونسلا فيها، واستمرت الحرب سجالاً بين ذريتهما وبين
الشيطان إلى يوم يبعثون؛ فمن تبع الشيطان فهو من الآثمين المعذبين، ومن حذره
وخالفه فهو من المهتدين الناجين، وسيبرأ هذا الشيطان من أتباعه يوم الدين،
ويكون بينه وبينهم ما قصَّه الله علينا من نبأه في سورة إبراهيم.
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ
وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا
أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِن قَبْلُ إِنَّ
الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} (إبراهيم: ٢٢ - ٢٣) .

هذا مجمل ما قصه الله علينا في القرآن الكريم في مواضع عدة، ومنه تعلم:
(١) أن خطيئة آدم - عليه السلام - هي حسن ظنه بوسوسة إبليس حتى
أكل من الشجرة.
(٢) وأن توبته إنما كانت بإلهام الله - تبارك وتعالى - إياه أن يدعوه بما
جاء في الآية الكريمة في سورة الأعراف: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: ٢٣) ، وقد كان عن هذه التوبة أن
غفر الله له وتاب عليه، كما قال - تبارك وتعالى -: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ
وَهَدَى} (طه: ١٢٢) .
أما كيف يوسوس له إبليس؟ فذلك لأن قبول النفس البشرية للوسوسة أمر
جِبِلِّيّ خِلقي فيها، والوسوسة تصل إلى النفس الإنسانية وإن كان الشيطان بعيدًا
عنها كما يصل الصوت البعيد على تموجات الهواء أو ما هو أرق منه؛ ولهذا لا
تقدح الوسوسة نفسها في العصمة، فكل بني آدم قابلون لها معرضون إليها بأصل
الخلقة، وإنما يعصم عن ذلك من عُصم منهم برعاية إلهية وحفظ رباني من الله -
تبارك وتعالى - مع حسن الاحتراز ودوام اليقظة والبصر، وسد مداخل الشيطان
إلى القلب وتضييق مجاريه، وشغل القلب بذكر الله - تبارك وتعالى - {إِنَّ
عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} (الإسراء: ٦٥) . على أنه قد
ورد أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ولا مانع من أن يكون إبليس قد
دخل الجنة بعد أن طُرد منها، مخالفًا بهذا الدخول أمر الله - تبارك وتعالى -
عاصيًا له، وما زال يزين له الأكل من الشجرة (ويفتله في الذروة والغارب،
ويمنيه بمعسول الأماني، ويرفؤه بالقول اللين حتى تمكن من نفسه، وأنساه أنه
عدوه الذي حذره الله منه أشد الحذر) .
وأما كيف يعصي آدم وهو نبي، والأنبياء معصومون من الوقوع في الذنوب؟
فقد أجاب كثير من الناس عن ذلك بوجوه:
الأول - أن يكون ذلك منه على سبيل النسيان، وسمي خطيئة أو معصية
وغواية لعلو منزلته، وعظيم تقريب الله إياه وكبير فضله عليه، وكلما قرب العبد
من ربه وعلت منزلته كلما كان ذلك أدعى إلى اليقظة وتمام التذكر والانتباه.
وقد صرحت الآية بلفظ النسيان، ويؤيد هذا قراءة {فَنُسِّيَ} (طه: ١١٥)
بالتشديد على أن المراد فأنساه إبليس أمر الله - تبارك وتعالى. وبهذا قال بعض
المفسرين، وإن كان الجمهور على أن " نسي " هنا بمعنى ترك لا بمعنى سها.
والثاني - أنه تأول فيما فعل بأنه فهم أن المراد بالأمر والنهي الإرشاد فقط لا
الإلزام، كما حمل الفقهاء الأمر بكتابة الدين على أنه أمر إرشاد لا أمر إيجاب ولا
إثم في تركه، ويرد على هذا تصريح القرآن بالظلم المترتب على قربان الشجرة
في الآية الكريمة {وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} (البقرة: ٣٥) .
والثالث - أن ما حصل من الذنب صغيرة. ويرد على هذا أن القول بعدم
عصمة الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من الصغائر قول مرجوح، ويرد عليه
كذلك تصريح القرآن الكريم بأن هذه المخالفة عصيان وغواية ترتب عليها عقاب
وتوبة وإخراج من الجنة.
والرابع - أن ذلك كان قبل النبوة المستلزمة للعصمة من المعصية. وإلى هذا
ذهب أبو بكر بن فورك، قال: بدليل ما في آيات (طه) من ذكر المعصية قبل ذكر
الاجتباء والهداية. وهو كلام حسن؛ لولا أن ورود الأمر والنهي من الله - تبارك
وتعالى - لآدم بدون واسطة من أمارات النبوة ودلائلها، وقد كان ذلك قبل الأكل
قطعًا، ومن جهة أخرى فإن النفس أمْيَل إلى أن الأنبياء - صلوات الله وسلامه
عليهم - معصومون من المعصية على كل حال، وإن لم يكن ذلك رأي جمهور
علماء العقائد وإن لم ينعقد الإجماع إلا على العصمة بعد النبوة.
والخامس - أن الله - تبارك وتعالى - أمر آدم بعدم الأكل من شجرة وأراه
إياها، فظن آدم أنه منهي عن هذه الشجرة بعينها لا بجنسها، فأكل من شجرة
أخرى من جنسها ولم يأكل من التي انصبَّ عليها النهي بالذات، وهذا تأويل حسن
وإن كان عليه مسحة التحايل.
وهناك تصوير تطمئن إليه النفس، وذلك أن يقال إن حقيقة المعصية مخالفة
أمر الله - تبارك وتعالى - قصدًا، وحقيقة الطاعة هي امتثال أمر الله - تبارك
وتعالى - قصدًا كذلك، فمناط المؤاخذة أو المثوبة في الطاعة والمعصية النية
والقصد، مصداق قوله - تبارك وتعالى -: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا
وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} (الحج: ٣٧) .
ولا شك أن آدم - عليه السلام - حين أكل من الشجرة لم يكن يضمر معنى
المخالفة ولم يكن يسر العصيان، بل لعله كان يتحرى بذلك المبالغة في طاعة الله -
تبارك وتعالى - بأنه سيصير ملكًا خالدًا دائم الطاعة والعبادة لربه، وقد خدعه قسم
إبليس له، فآخذه الله بهذا الانخداع مع سابق التحذير، وإلى هذا المعنى أشار ابن
قتيبة، فقال: أكل إبليس من الشجرة التي نهي عنها باستزلال إبليس وخداعه إياه،
والقسم له بالله إنه لمن الناصحين، حتى دلاه بغرور، ولم يكن ذلك عن اعتقاد
متقدم ونية صحيحة، ويؤيد ذلك أن آدم لم يتفطن إلى أنه أخطأ إلا بعد أن عاتبه
ربه، كما قالت الآية الكريمة: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل
لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (الأعراف: ٢٢) ، وحينئذ ألهمهما التوبة
فجأرا إلى الله - تبارك وتعالى -: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ} (الأعراف: ٢٣) ، وهذا المعنى واضح مفهوم
في سياق الآيات كلها تقريبًا.
وقد آخذه الله على هذا التأثر بوسوسة الشيطان وخداعه مؤاخذة شديدة حتى تاب
عليه، على حد القاعدة المعروفة حسنات الأبرار سيئات المقربين.
وما يقال من أنه أمر في الباطن ونهي في الظاهر كلام مردود، ولا دليل عليه،
والأخذ به هدم للتكليف في الحقيقة، وقد جاء في كلام بعض الصوفية شيء من
هذا في التفريق بين معصية الولي والفاسق، وأفضل ما قالوه في ذلك أن الولي لا
يقصد المعصية ولا يفرح بها ولا يُصر عليها، وهذا كلام لا غبار عليه، وأما ما
زاد عليه فغلو لم يقم عليه دليل.
وأما القول بأن هذه القصة وردت في القرآن الكريم على سبيل التمثيل، فهو
قول مردود كذلك، والآيات الكريمة صريحة فيما وردت له لا تحتمل التأويل، وإذا
جاز لنا أن نتأول هذه الآيات مع صراحتها ووضوحها، فقد صار ذلك ذريعة
للخروج بالقرآن كله عن معانيه الواضحة، وهذا مذهب لا يدع من نحلة الباطنية
شيئًا، وليس هناك ما يقتضي العدول عن الظاهر.
وقد ادعى بعض المتعلمين الذين تشربت نفوسهم المعارف والعلوم الإفرنجية،
أن ظاهر هذه الآيات يصطدم بالنظريات العلمية الحديثة التي جاء بها (دارون)
وأمثاله من علماء الحيوان والبحث في أصل الأنواع، وهذا كلام لا تدقيق فيه،
ودعوى لا صحة لها؛ فإن دارون نفسه لم يدَّع أن الإنسان فرع عن غيره من
الحيوان، سواء أكان هذا الحيوان قردًا أم غيره.
كان دارون يدرك تمام الإدراك أن نظريته لا تفسر وجود الأنواع تفسيرًا نهائيًّا
يُثلج الصدر، ويعترف بأن هناك عوامل خفية لا يعرفها اشتركت مع ناموس
الانتخاب الطبيعي في تنويع الأحياء؛ فقد قال في كتابه أصل الأنواع: (أنا مقتنع
بأن ناموس الانتخاب الطبيعي كان العامل الرئيسي لحدوث التنوعات في الأنواع؛
ولكنه لم يكن العامل الوحيد في إحداث ذلك التغير) فهو هنا يشير إلى أمرين
هامين: الأول أن ناموس الانتخاب الطبيعي في رأيه السبب الرئيسي لحدوث
التنوعات في الأنواع لا في حدوث الأنواع نفسها، والثاني أنه ليس الناموس الوحيد
في ذلك.
وقد كتب دارون إلى المستر هيات يقول له: (اسمح لي بأن أضيف إلى هذا
بأني لست من قلة العقل بحيث أتصور بأن نجاحي يتعدى رسم دوائر واسعة لبيان
أصل الأنواع) فأين هذا من غلو قليلي العقول من جامدي مقلدة الفرنجة؟ على
أن هذا ليس كل ما في الأمر؛ فقد هبَّ كثير من العلماء الغربيين يخطئون نظرية
دارون تخطئة تامة وينتقضونها من أساسها، ويؤلفون في ذلك الكتب الضافية،
ويدللون على ذلك بأدلة علمية يعتقدون صحتها كل الاعتقاد، وإليك بعض الشواهد
من كلام هؤلاء الناس أنفسهم:
(١) قال الأستاذ فون باير الألماني، وهو من أقطاب الفزيولوجيين
والحفريين والبيولوجيين وأستاذ علم الأميريولوجيا (علم الأجنة) في كتاب أسماه
(دحض المذهب الداروني) بالنص: (إن الرأي القائل بأن النوع الإنساني متولد من
القردة السبماتية هو بلا شك أدخل رأي في الجنون قاله رجل على تاريخ الإنسان،
وجدير بأن ينقل إلى أخلاقنا جميع الحماقات الإنسانية مطبوعة بطابع جديد،
يستحيل أن يقوم دليل هذا الرأي) .
(٢) وقال الأستاذ فيركو الألماني موافقًا الأستاذ دوكانزفاج الفرنسي في
كتابه (النوع الإنساني) بالنص: (يجب عليَّ أن أعلن بأن جميع الترقيات الحسية
التي حدثت في دائرة علم الأنترويولوجيا - علم التاريخ الطبيعي للإنسان - السابقة
على التاريخ تجعل القرابة المزعومة بين الإنسان والقرد تبعد عن الاحتمال شيئًا
فشيئًا، فإذا درسنا الإنسان الحفري في العهد الرابع وهو الذي يجب أن يكون
الإنسان فيه أقرب إلى أسلافه، نجد إنسانًا مشابهًا لنا كل الشبه، فإن جماجم جميع
الرجال الحفريين تثبت بطريقة لا تقبل المنازعة بأنهم كانوا يؤلفون مجتمعًا محترمًا
للغاية، وكان حجم الرأس فيهم على درجة يعتبر الكثير من معاصرينا أنفسهم سعداء
إذا كان لهم رأس مثله.
وإذا قابلنا مجموع الرجال الحفريين الذين نعرفهم للآن بما نراه في أيامنا هذه
استطعنا أن نؤكد - بكل جرأة - بأن الأشخاص ناقصي الخلقة هم بين الرجال
العصريين أكثر منهم بين الرجال الحفريين، ولا أتجاسر أن أفترض بأننا في
اكتشافاتنا الحفرية لم نصادف غير أصحاب القرائح السامية من أهل العهد الرابع،
والعادة أننا نستنتج من تركيب هيكل عظمي حضري تركيب معاصريه الذين عاشوا
معه في وقت واحد، ومهما كان الأمر فيجب عليَّ أن أقول بأنه لم توجد قط جمجمة
قرد تقرب حقيقة من جمجمة الإنسان! ! على أنه يوجد بين الإنسان والقرد خط
انفصال نهائي آخر؛ فإننا لا نستطيع فقط أن نعلم الناس بأن الإنسان يتولد من القرد
أو من أي حيوان آخر، بل لا نستطيع أن نعتبر ذلك من الأمور العلمية) .
(٣) وقال الأستاذ إيلي دوسيون من العلماء الفيزيولوجيين عن مذهب
دارون في كتابه (الله والعلم) ما يأتي: (بعد أن قاوم المذهب الداروني عشرين
سنة تلك المكافحات الحقة التي قصده بها خصومه، قضي عليه قضاء غريبًا بأن
يهلك تحت ضربات أشد أشياعه غيرة عليه) ثم ذكر بعد ذلك ما كتبه هربرت
سبنسر في هدم ناموس الانتخاب الطبيعي، وما كتبه (ويسمان) في هدم ناموس
انتقال الصفات والخصائص المكتسبة، وقد كانا عماد مذهب دارون.
هذا قليل من كثير جدًّا جدًّا من أقوال العلماء الأوروبيين في كتبهم ومجلاتهم
في نقض رأي يعتقده جامدو مقلدة الأوربيين عندنا كل شيء في العلم الحديث،
ويتشدقون في الكلام عنه والذهاب إليه، وليس ذلك كل ما في الأمر، بل تغالى
بعض العلماء الأوربيين، فأخذ يحاول إثبات عكس هذا المذهب.
فهل يحق لنا أمام كلام كهذا - مهما تغالينا في قيمته علميًّا، فهو لم يخرج عن
أنه فرض من الفروض العلمية - أن نؤول كلام العليم الخبير ونصرفه عن
الظاهر إلى التأويل والتمثيل؟
ويعجبني كلام تقدم في هذا المعنى في تفسير المنار في سورة البقرة، عند
قوله - تبارك وتعالى -: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة: ٣٠) جاء هناك ما نصه: (كما أخطأ من قالوا إن الدليل العقلي هو
الأصل فيُرد إليه الدليل السمعي، ويجب تأويله لأجل موافقته مطلقًا، والحق كما
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن كلاًّ من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي،
فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا، وإذا تعارض ظني من كل منهما مع قطعي وجب
ترجيح القطعي مطلقًا، وإذا تعارض ظني مع ظني من كل منهما رجحنا المنقول
على المعقول؛ لأن ما ندركه بغلبة الظن من كلام الله ورسوله أولى بالاتباع مما
ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا الضئيلة التي يكثر فيها الخطأ جدًّا، فظواهر الآيات
في خلق آدم مثلاً مقدم في الاعتقاد على النظريات المخالفة لها من أقوال الباحثين
في أسرار الخلق وتعليل أطواره ونظامه ما دامت ظنية لم تبلغ درجة القطع)
ا. هـ.
على أنه أورد بعد ذلك وقبله كلامًا طويلاً في الآيات، وذكر الرأي القائل
بالتمثيل على أنه رأي الخلف، ورأي الأخذ بالظاهر ونسبه للسلف، وأكد في عدة
مواضع أنه يقول بهذا الأخير. ونسبة القول بالتمثيل للخلف قول فيه نظر، فمن
المقصود هنا بالخلف؟ ومن الذي قال منهم بهذا الرأي؟ سؤالان يحتاجان إلى
الجواب. على أن الذي يعنينا أن نتفق على الاعتقاد بأن الآيات على ظاهرها،
وأن القصة حقيقة واقعة كما قصها الله - تبارك وتعالى - علينا في كتابه، والله
يقول الحق وهو يهدي السبيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... حسن البنا