إن أحاديث الأمم تدور على محور أفكارها؛ إذ اللسان هو المترجم عما يختلج بالضمير من الصور المحفوظة والمعاني المتخيلة على اختلاف أشكالها وتنوع فنونها، فباختلاف صنوف البشر في المعارف والأمزجة تتباين مفاوضاتها وأحاديثها وتتشعب مجادلاتها ومحاوراتها، وإن تواريخ الأمم الغابرة وحوادث الملل الحاضرة لترشدنا إلى ذلك بأجلى بيان، فهذه الأمة العربية في صدر الإسلام وقُبيله لما مال عنصرها إلى التحبب في خُلُق الجرأة، وحملتها شهامة النفس على الجولان في ميادين الغزو والفتوح، قصرت أحاديث رجالها على ما يتعلق بحرب ماضية، ومعركة آتيه، تعقد مجالسها على ذكر جياد الخيل ومحاسنها، شارحة معايب الأقواس وأوتارها، منتقلة إلى الكلام عمن اشتهر من رجالها بالإقدام والبسالة والانتصار، وقصائدهم الشعرية مشحونة بأوصاف الحماسة، وخطبهم النثرية موقوفة على مدح النزال والبراز، وبقيت هكذا أحاديثهم إلى أن ضعفت تلك الحواس، واستعيض عنها بالميل إلى الراحة والانغماس في النعيم، فتولد فيهم من ذلك المحبة والعشق، ولهجت شعراؤهم بأوصاف الغزل بعد الحماس، وبِنَعْتِ الحاجِبيْن والخصر بعد الإسهاب في وصف القوس والوتر. وهذه اليونان لما كانت ديارها مهد الحكمة ومطلع شموس العرفان، دارت أحاديث قومها في المجامع على تحديد العلوم، وتبيين مهايا الأجناس والفصول، يطلب الواحد منهم منزل صديقه ليتحاور معه في كيفية إنتاج الأقيسة المنطقية مع تغاير أشكالها، فيطول بينهما الحديث، وهما بين مثبت وسالب، ومعترض ومجيب، وهذا في حال كون المجالس الأخرى غاصة بجماهير النبلاء. فئة تغوص في البحث عن أمزجة المواد وعناصرها، وأخرى تطلق عنان اللسان لاستكناه حركات الأفلاك ومراكزها، فإذا عقدوا عزائمهم على المزايلة والانصراف، ودعتهم أوقات أحاديثهم شاكرة لهم على ما أودعوا فيها من تقرير المسائل، وإزالة الحجاب عن كثير من المشكلات والمعضلات، واستقبلتهم الأيام بوجه باش، وثغر باسم، فرحة بما سيكون لها في بطون التواريخ مرسومًا بمداد الثناء على صفحات الأعصار والدهور، لما ستبرزه فيها أفكار هؤلاء القوم إلى عالم الوجود من المطالب العالية المؤيدة بالبراهين الصحيحة والحجج السديدة، وهذا مع محافظتهم وقت المحاورة والجدال على رعاية الآداب، وحرمة قوانين المباحثة. وهذه أمم أوروبا تشعبت مجالسها، وتنوعت مواضيعها، تحمل إلينا الجرائد من أخبارها ما لا نكاد نصدقه لولا علمنا بوفرة معلوماتهم وكثرة مخترعاتهم، فيومًا نسمع بأن ذوي الشركات التجارية اجتمعوا للمداولة فيما يلزم اتخاذه لإنشاء بنك مالي يكون مركزه في إحدى الممالك الأسيوية مثلًا، فتطول بينهم المخابرة في ذلك، ويعلو صوت الخلاف بين أعضائها، فمنهم من يرجح إنشاءه في الأملاك الفلانية من تلك القارة محتجًّا بأن فلاحي تلك الديار يقترضون النقود بفوائد باهظة لاحتياجهم وشدة فقرهم، فتكون الثمرة أجزل والربح أوفر مما لو أنشئ هذا البنك في إحدى الديار الأفريقية التي أصبحت لخصب تربتها ووفرة حاصلاتها وأخذ الأموال الأميرية منها بتقسيط عادل لا تحتاج إلى استقراض من مالنا، بل ربما إذا دامت لنا هذه الحال يتوفر لها كثير من إيراداتها التي تقتدر بها على إنجاز مشروعات عمومية حتى تصير بذلك معادلة لأعظم ممالك أوروبا في الثروة واليسار، فيجاوبه الآخر قائلًا: إن الأجدر بنا أيها الشريك أن نعدل عن إنشائه في أي مركز من مراكز آسيا مطلقًا إلى اتخاذه بديار مصر، وأما ما قيل من أن تخفيف الضرائب عنها مع حسن تربتها وكثرة إيراداتها يجعلانها غنية عن الاستقراض، فذلك إنما يكون لو رجع فلاحها عن سرفه وسفهه، وإلا فما دام على هذه الحال فإنه يكون أبدًا مثقلًا بديوننا، يقرع أبوابنا آناء الليل وأطراف النهار، ولو أثمرت أرضه ذهبًا وعوفي من جميع الضرائب سرمدًا، فإنه - على ما يقال - رهن عند أحد البيوت المالية فيها ما يجاوز العشرين في المائة من أطيانها تأمينًا على ما أخذ منه من النقود في مدة لا تزيد عن العام كثيرًا، فيستحسن الحضور بيانه، ويختم الجلسة بالعزم على المشروع فيما قصدوا ليدركوا من الربح مثل من سلفوا. وبينما هم كذلك ترى فئة أخرى تتروى في مد سكك حديدية في إحدى الإيالات المشرقية وإنشاء أسلاك برقية فوق البحار وتحتها تسهيلًا للمواصلات التجارية، وإحكامًا للعلاقات الدولية، وأخرى مجتمعه لتتخير من بينها نبيلًا يكون رسولًا من قِبلها عند رجال إحدى البلاد، فيعقد معها شروط التزام مصالح عديدة، وأراضي فسيحة، ومياه عذبة ما كانت أهل تلك الديار في حاجة إلى التزامه. ونرى على مقربة من هذه الفئات جماهير متألبة، وجماعات متضافرة يحسنون صنع الخطابة، ولا يجهلون تاريخ الخليقة، يقلبون العالم بين أصابعهم، ويقطعون وجه البسيطة في أقل من لمح البصر، وهم جلوس يتحادثون يعينون أوقات الفرص الملائمة للاستيلاء على تلك الجزيرة أو هذه الإمارة أو ذلك الإقليم. يستطلعون الرسائل المتوالية الورود من أبناء جلدتهم المنبثين في أنحاء المعمورة لاستكشاف خبايا القبائل والشعوب التي هم بين ظهرانيهم، يذللون المصاعب ويمهدون طرق الاستيلاء والفتوح، ونحن عن كل ذلك غافلون نواصل الليل بالنهار في اللهو واللعب. بلغت منا الخرافات والهذيانات مبلغًا جسيمًا، حتى استحوذت علينا فأنستنا ذكر الحقائق النافعة والمصالح المهمة، وصارت تلك الأخلاط الفاسدة كملكات للنفس، يتعسر زوالها إلا بذهاب الأرواح والأشباح، تعقد عندنا المجالس ولكن على ذكر أنواع الخمور والمسكرات، يطرب المجتمعون فيها بذكر أوصاف الغيد الحسان ويصرفون ثلثي الليل على قهاويهم (هكذا اصطلح وإلا فهي مواضع رجس ودنس) يشربون فيها من المواد الممزوجة بالعقاقير السامة قدرًا لا تسوغه طباع الوحوش الضارية ولا الأسود الكاسرة، وفي خلال ذلك يتناقشون ويتخاصمون، حيث إن كلاًّ منهم يفضل مألوفه من ذلك، بل مألوفات أصحابه، ويعدد أوصافه ويذكر محاسنه ويشرح مزاياه، من حَوَر عيون، ورقة خصور، وعذوبة منطق، ومما شاكل ذلك. ويحتج عليه بأن فلانًا لا يبيت في ذلك المخدع ولا يطأ ذلك الموضع حتى يدفع عشرين أو ثلاثين جنيهًا وما شابه ذلك. والآخر يناقضه وينافسه ويروم إقناعه في مقام الجدل، ولا يروق لهم الحديث إلا إذا انتقلوا إلى القذف في شرف من بينه وبينهم جامعة ديوانية، وعلاقة مجاورة منزلية، أو لا هذه ولا تلك، وإنما حدتهم شهرة ذكره إلى معرفته، فيرمونه بالجبن وعدم الذوق، لكونه نزيه النفس، أنف من سلوكهم، ويرومونه بغلظ الطبع والتقشف، ويسمونه (نطعًا) وهم في خلال ذلك يهزؤون ويسخرون ويضحكون بصوت جهوري (ولا يبكون وهم سامدون) يتبارون في ميادين البذاء، واستحضار كل ما قبح وخبث من الألفاظ، وهو المسمى عندهم (تنكيتًا) فقسموا الألفاظ العرفية أبوابًا وفصولًا ليستعملوها في هزلياتهم السخيفة، حتى كثرت الفصول وتنوعت المواضيع، وإذا تبارى اثنان منهم في باب منها استداما ساعة أو أكثر، وهما مع الحضور في خلال ذلك يرفعون أصواتهم بالضحك المزعج، فمن عجز منهما قبل صاحبه أوسعوه توبيخًا، وصفقوا للمنتصر إعلانًا بظفره، وأجلسوه مكانًا عليًّا، ويسمونه المعلم الماهر، وهذه فئة غير قليلة في المدن، وأكثرها من أبناء الأغنياء عديمي التربية. وأما مجالس ذوي الكمالات من أهل المدن فإنها إن اتفق وتجردت عن الحديث في منكر، فهي لا تخلو عن حشو، فإنه على الأقل لا بد أن يتشرف المجلس ولو زمنًا قليلًا بحلول الغيبة أو النميمة المرافقتين لنا مرافقة الشخص لظله، اللهم إلا إذا سمحت الصدفة وكان زمن المجلس قليلًا جدًّا لا يسع سوى التحية دون ردها. وإنهم لن يستطيعوا أن يبرهنوا على خلاف ذلك، فإني قائل: إذا لم يجلسوا مستديمين الصمت ومنصرفين كذلك، فبمَ ينطقون؟ هل بعلم شرعي وقد جهلوه أو تجاهلوه؟ أم بعلم صناعي وقد عادوه؟ أم فن طبي وقد تناسوه؟ أو حديث عن منفعة عمومية وقد أغفلوها؟ أم استفسار عن حوادث سياسية، وقد زعموا أن الاشتغال بها لا ينفع؟ فإذًا لا سبيل إلا الاشتغال بألعابهم المعتادة كالشطرنج والنرد (الطاولة) وغيرهما من أصناف الملاعب، وإنها دون ريب لتحملهم إلى أسوأ مما فروا منه، كما هو مشاهد. نعم يوجد بيننا بعض الأذكياء الذين يتحدثون عن المعارف والسياسة، ولكن فضلًا عن كونهم نزرًا يسيرًا فإن أعمالهم غير منطبقة على ما يقولون، لكونها جملًا حفظوها من غير أن يعقلوا لها معنى، أو لكونها أمورًا إجمالية ضيقة المجال لم يبحثوا في تفاصيلها. هذه هي المجالس المنزلية. وأما المجالس التي تعقد على قهاوي الشعراء والحشاشين المخرفين، فلا نستطيع تفصيل ما فيها من العجائب والأحاديث الجنونية، لكثرتها وتشعب مسالكها سيما حديثهم فيما يتعلق بالجن والشياطين، أو خرافات المعاتيه والمجانين. كما أننا نكتفي في الكلام على منتديات الأرياف؛ لأنها وإن قيل فيها ما يتعلق بالزراعة ومصالحها، ولكن لا تخلو من كلمات تدل على تمكن الحسد والحقد في أفئدتهم، وأن العداوة والبغضاء راسختان في ضمائرهم، بحيث يعسر زاولهما، وهذا مع مساواة غالبهم لأهل المدن في البغي والفجور، وإن بعض عمد البلاد أسوأ حالًا وأقبح عملًا من أهل المدن كما هو معروف. فهذه أحاديثنا في مجالسنا، وتلك أقاويل غيرنا في مجامعهم، سردناها لذوي النقد والبصيرة، معرضين عن كثير مما نتفوه به وقت اجتماعنا، ولعلنا نذكره وقتًا ما، إذا رأينا لهذه البذرة أوراقًا يانعة وثمارًا طيبة، فيقوى فينا ضعيف الأمل ويحيا ميت الرجاء، ونشمر عن ساعد الاجتهاد ونطلق لسان العظة، داعين إلى طرق النجاح. وإنا لنخشى أن تقابَل هذه الجملة بما قوبلت به أخواتها من قبل، كأن يقول زيد: ما كتبت هذه الجملة إلا للتنديد على أقوالي، ويظن مثله عمرو، فيصرفونها عما وضعت لأجله من خالص النصح ومحض الإرشاد، من غير أن تناط بشخص مخصوص أو فئة معينة، فالملحوظ فيها - كسابقاتها - الخُلُق من حيث تعلقه بالأفراد أيًّا كانت، كما هو الشأن في جميع المواعظ والنصائح العمومية، لا المرء المخصوص المتصف بتلك الأخلاق حتى تكون تنديدًا وطعنًا، فعسى أن لا نسمع بعد بمثل تلك التصورات من أحد من الناس، ويعلموا أن ما كتب وسيكتب صادر عن نفوس تسعى في تهذيب الأخلاق ما استطاعت، ويسرها أن ترى أبناء الديار رافلة في حُلل من الكمالات متحلية بالعزة والفخار، حقق الله آمالنا وختم لنا بحسن مآلنا. اهـ.
(المنار) كتب الأستاذ هذه المقالة في ١٠ ربيع الأول سنة ١٢٩٨ أي: من بضع عشرة سنة، وفيها من المناسبة لحال هذه الأيام ما ترى. أما ما ذكره عن أحاديث الأوروبيين ومقاصدهم من ذلك فهو: (١) إنشاء شركاتهم بنكًا في مصر؛ لأن أغنياء المصريين وعمدهم ما داموا لا ينفكون عن السفه والتبذير فهم في غمرات الديون التي تجلب على بلادهم رَيْب المَنُون، وإن أنبتت تربتهم الذهب الوهاج، وأعفتهم الحكومة من كل إتاوة وخراج، وقد تقرر الآن إنشاء البنك في مصر. (٢) إنشاؤها سككًا حديدية في بعض الأيالات الشرقية. وقد جاء في الجرائد الأوروبية أن (الكونت ولدمير كاينتز) ابن أخت سفير روسيا من فينا طلب من حضرة مولانا السلطان امتيازًا بإنشاء سكة حديدية جديدة من ميناء طرابلس الشام إلى الكويت على خليج العجم، وقد أنشئت شركة مختلفة لمدها، وهاتان المسألتان من أهم المسائل المالية الحاضرة الآن. وقد ذكرنا في العدد ١٨ أن الباب العالي منح امتياز سكة حديد بين قونيه والبصرة للمسيو كوتار الفرنسوي (نقلنا ذلك عن الاتحاد المصري والعهدة عليه) . وبقية ما ذكره عن الأوروبيين من إرسال رسل من نبلاء بلادهم ليعقدوا مع رجال بلاد أخرى شروط التزام مصالح عديدة، وقيام خطبائهم لبيان كيفية استيلائهم على البلاد البعيدة، هو الآن أشد وأكثر مما كان في سائر الأحايين، وناهيك بما هو جارٍ في مملكة الصين، وأما ما ذكره من أحاديث أبناء هذه البلاد ومجالسهم، في معاقرتهم ومقامرتهم، فهو على ما كان في تلك الأيام. نعم قد زاد لغطهم وثرثرتهم بالسياسة على الوجه الذي ذكره وهو كون أعمالهم غير منطبقة على أقوالهم، ولقد صدَّر المقالة بكلمات قال فيها عن أحاديث منتدياتنا: (إنها عقبات في طريق تقدمنا وظلمات متكاثفة في وجه انتظام هيئتنا الاجتماعية وحواجز دون الوصول إلى محجة الرشاد، وانتهاج خطة السداد، وإن خاله الكثير منا تمدنًا وزعمه السواد الأعظم من شعار الأدب وعلائم الذوق والترف) وإنما لم نذكرها في صدر المقالة؛ لأنها جاءت في خلال الكلام عن وعد سابق في الكلام عن الموضوع كان وقع له يومئذ، ولا محل له عندنا اليوم فيصدر الكلام به.