تكرر منا الوعد بأننا نقبل الانتقاد علينا، ونذكر رأينا فيه فإما تسليمًا، وإما تفنيدًا. وقد كنَّا ذكرنا في الجزء السابع عشر من هذه السنة كلامًا في بدع ليلة النصف من شعبان، ذكرنا أن من ذلك الدعاء المشهور الذي لم ينزل الله به من سلطان. ثم تنبهنا إلى ما كنا قرأناه في كتاب (كنز العمال) من أن لبعض ألفاظ الدعاء أصلاً مرويًّا في الجملة كما سنذكره، وكتب إلينا عقيب ذلك الشيخ إبراهيم السمنودي المنصوري كتابًا يقول فيه: أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه وغيره عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما دعا عبد قط بهذه الدعوات إلا وسع الله عليه في معيشته: يا ذا المن ولا يمن عليه، يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول لا إله إلا أنت، ظهر اللاجين، وجار المستجيرين، ومأمن الخائفين، إن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب شقيًّا فامحُ عني اسم الشقاوة، وأثبتني عندك سعيدًا، وإن كنت كتبتني عندك في أم الكتاب محرومًا مقترًا عليَّ رزقي فامحُ حرماني ويسر رزقي وأثبتني عندك سعيدًا موفقًا للخير إنك تقول في كتابك الذي أنزلت: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكِتَابِ} (الرعد: ٣٩) . وأخرج بعضه عبد بن حميد وغيره عن عمر رضي الله تعالى عنه. وكذا ابن جرير عن شقيق بن وائل ومعلوم أن ليس في ذلك للرأي مجال، فيكون في حكم المرفوع اهـ.
(المنار) مصنف ابن أبي شيبة، ومسند عبد بن حميد لم تتداولها الأيدي، ولا نعرف في عصرنا مَن يرويهما متلقيًا نسخهما، بحيث يصح أن يعتمد على هذه النسخ والرجلان من متقدمي المحدثين، وكل ما رووه فهو في كتب الحديث المتداولة، صحيحه في الصحاح، وحسنه في الحسان وضعيفه في الضعاف. وهذا كتاب الجامع الكبير للسيوطي يقول: إنه أحصى فيه جميع هذه الكتب المعروفة، ولم نجد في كنز العمال - الذي هو الجامع الكبير وزيادة إلا أنه مختلف الترتيب - هذا الحديث عن هذين المحدثين. وإنما أخرج عن الحاكم - بسند ضعيف -عن الحسن بن أبي الحسن أظنه ذكر عن عبد الله بن مسعود قال: كان إدريس النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بدعوة، كان يأمر أن لا تعلِّموها السفهاء فيدعون بها (كذا) ، فكان يقول: يا ذا الجلال والإكرام ... وساق نحو ما تقدم مع تغيير في العبارة، ولم يذكر: (فإنك تقول في كتابك ... ) ... إلخ وعن اللالكائي عن أبي عثمان النهدي أنه سمع عمر يقول في طوافه: (اللهم إن كنت كتبتني عندك في السعادة فأثبتني فيها وإن كنت كتبتني في الشقاوة فامحُني منها، وأثبتني في السعادة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب) ، ولو صح هذا وما قبله - وما هما بصحيحين - لم يكن فيهما حجة على هذا الشعار الديني المبتدع في ليلة النصف، والدعاء الملفق الذي يطلب فيه محو ما في أم الكتاب، على أن الرواية الأولى لم يجزم فيها بقول ابن مسعود، والثانية أبعد عن المقصود. ونرجو من الأستاذ السمنودي أن يكتب إلينا سند ما رآه، وإلا فلا معوَّل عليه أَنَّى كان.