للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


المسألة الشرقية [*]
واعتداء إيطالية على طرابلس الغرب

وقعت الواقعة، ليس لوقعتها كاذبة، خافضة رافعة، فوجفت القلوب،
وامتدت الأعناق، وشخصت الأبصار، وعميت الأنباء على الناس فهم يتساءلون:
كيف أقدمت إيطالية على مفاجأة الدولة العثمانية بالعدوان، واغتصاب مملكة كبيرة
وهي ولاية طرابلس الغرب ومتصرفية بنغازي، وإيذانها بالحرب من غير عداء
سابق ولا خلاف على شيء بني عليه هذا العدوان؟
كيف رضيت الدول العظمى بهذا العدوان المشوه الذي هدمت به حقوق الدول
ونقضت به معاهداتها، وبطلت الثقة بكل ما عدا القوة فيها، فهي كالوحوش
المفترسة، والذئاب الضارية، ولا يصدها عن الولوغ في الدماء، وتمزيق الأشلاء
إلا العجز فقط؟
كيف سكتت الشعوب الأوربية لدولها على هذه السياسة الوحشية التي لا شائبة
فيها لشيء من شرف الإنسانية؟
هل الحقوق والعهود والقوانين والعدل والرحمة والإنسانية ألفاظ تلوكها الألسنة
وترسمها الأقلام؛ لأجل مخادعة الغافلين والتغرير بالجاهلين، أم هي خاصة بمن
يدعون الانتساب إلى المسيح، وإن كانوا أبعد الخلق عن آدابه وتعاليمه في القناعة
والزهد والرحمة ومحبة الأعداء، والصفح عن المعتدين؟
هل تقصد أوربة بالسماح لإحدى دولها الكبرى بهذا العدوان المشوه، المخالف
لما اعتاده سائر دولها من العدوان المموه؛ لجعله مقدمة لإسقاط هذه الدولة الإسلامية
واقتسام بلادها بعد أن أسقطن دولة المغرب الأقصى، واتفقن على انقسام دولة
إيران، وسمحن لروسية بإنشاب براثنها في القسم الشمالي منها، وترك القسم
الجنوبي لدولة إنكلترة؟
أتريد هذه الدول الأوربية المسيحية العادلة الرحيمة البريئة من الظلم
والتعصب بزعمها هدم الدول الإسلامية الثلاث في سنة واحدة؟ هذا ما يتساءل به
الناس.
قد انهتك الستر، وانكشف القناع، وأظهرت أوربة ما كانت تخفيه بالتمويه
من قصد إزالة سلطان المسلمين من الأرض، والقضاء عليهم بالذل والعبودية، وأن
يكونوا خدمًا وعبيدًا لأوربة؛ بعد أن تقتسم ما بقي من ممالكهم، وتقطع عليهم جميع
طرق العزة والقوة، وتحرمهم إلى الأبد من إنشاء حكومة ذاتية.
كانت أوربة تتوسل إلى مقصدها هذا بالبحث عن ذنوب للحكومات الإسلامية
وإن لم تخل من مثلها حكومة، أو انتحال ذنوب لا حقيقة لها، وإنما أوجدتها
الدسائس الأوربية؛ ليبنى عليها مرادها منها.
ابتلي المسلمون بملوك وأمراء وأعوان لهم من العلماء والزعماء بينهم وبين
كل علم وعمل تعتز به أمتهم، وتقوى به دولتهم، فمكنوا بذلك أوربة من مقاتلهم،
وفتحوا لها الثغور؛ لاحتلال بلادهم وإزالة استقلالهم، فزال أكثرها وبقي أقلها
مستقلاً في الظاهر، ولكنه تحت نفوذ أوربة في الواقع.
هذه الدولة العثمانية قد اضطرها مركزها في أوربة، واحتكاكها بدولها وكونها
في الأصل دولة حربية إلى اتخاذ جيش منظم؛ كالجيوش الأوربية التي صار أساس
قوتها العلم والصناعة والنظام لا الكثرة والشجاعة والقوة البدنية فقط، فكانت الدولة
بهذا الجيش وبقليل من النظام أشد الحكومات الإسلامية بأسًا، وأقوهن استقلالاً.
ولكن أوربة تعبث باستقلالها الداخلي، فلا تدعها تتصرف في بلادها كما تتصرف
الدول الأوربية القوية منها والضعيفة في بلادها، بل لا يسمحن لها من التصرف
بمثل ما يسمحن به الولايات التي فصلنها منها وجعلنها دولاً مستقلة؛ كاليونان
والبلغار والجبل الأسود، فهي تريد (مثلاً) أن تزيد في المكوس (الجمارك) على
ما يرد إلى بلادها ولا تقدر على ذلك أو ترضى جميع الدول الكبرى به.
قد علم القاصي والداني أن دول أوربة تطمع في تقسيم ولايات هذه الدولة
بينهن، وأنهن يتربثن بذلك لتنازعهن في القسمة، وخشيتهن أن تؤدي إلى حرب
طحون، يتمزق بها شمل أوربة ويسحق بعضها بعضًا، وكان بعضهن يحسب
لسخط المسلمين الخاضعين لها ولهرجهم حسابًا، فهذا هو السبب في عدم اتحاد دول
أوربة الكبرى باسم الصليب على اقتسام بلاد الدولة العثمانية.
ويلي هذه الدول في دول الإسلام دولة إيران فدولة المغرب الأقصى، كانت
أوربة تتربص بهما الدوائر، وتنتظر الفرص، ترى أن سلاطين هذه الدول
وأعوانهم يستعجلون الطامعين فيها بالاستيلاء عليها؛ لأنهم يظلمون الناس، ويبغون
في الأرض، ويسوقون الناس إلى اليأس من حكمهم، وتوقع زواله وتوطين النفس
عليه، ومتى وصلت البلاد إلى هذا الحد سهل وجود أو إيجاد الفتن والحوادث فيها
والتوسل بها إلى احتلالها أو حمايتها أو امتلاكها، أو ما شئت من الأسماء اللغوية أو
العرفية الدالة في هذا العصر على الفتح السلمي أو الحربي.
كان جل التنازع في السياسة العثمانية والإيرانية بين الدولتين الروسية
والبريطانية، حتى نجم قرن ألمانية في أوائل هذا القرن الهجري وظهرت شرة
عاهلها المستوى على عرشها لهذا العهد في منازعة إنكلترة، فاستمال إليه السلطان
عبد الحميد فخنق الإنكليز على الدولة العلية، وقلبوا لها ظهر المجن، واتفقوا مع
روسية عليها، ومهدوا السبل لتقسيمها.
كانت روسية هي السابقة إلى السعي في إزالة دولة العثمانيين ومحو اسمها من
لوح الوجود، وإرث موقعها البحري الذي لا نظير له في الأرض؛ لتجمع بين
القوتين البرية والبحرية، وتكون لها السيادة العليا في البرية. وكانت قاعدة السياسة
الإنكليزية أنه يجب أن تبقى الدولة العثمانية سدًّا في وجه روسية، وحائلاً بينها
وبين البحر المتوسط الذي هو قلب البحار وسيدها، بشرط أن لا تقوى، ولا تكون
دولة بحرية تخشى، وإن شئت قلت: (بشرط أن لا تموت ولا تحيا) فلما استقرت
قدمها في مصر والسودان، ودمر الأسطول الروسي في محاربة اليابان , وظهر
الأسطول الألماني في منتهى القوة، وصار في سنين قليلة بعد الأسطول الإنكليزي
في الدرجة، تغيرت السياسة الإنكليزية، وتبع ذلك تغير سياسة أوربة كلها في
المسألة الشرقية؛ لأن إنكلترا لا تزال صاحبة النفوذ الأول في عالم السياسة.
كان من سوء حظ العالم الإسلامي في مشرقة ومغربه أن انخدع في هذا الطور
السياسي الجديد بعاهل الألمان، فاغترت الآستانة ثم طهران ثم فاس؛ بإظهار ميله
ووده للعالم الإسلامي ورغبته في بقاء دوله مستقلة عزيزة قوية، فكان غرورها
وانخذاعها، هو الذي حمل إنكلترة على التعجيل بالقضاء عليها، ولم يغن عنها وداد
عظيم الألمان الوهمي شيئًا، بل كان صوته في تحية الثلاث مئة ومن الملايين
المسلمين نذير الشؤم وفاتحة الشقاء.
ألمانية دولة بنيت سياستها على الأثرة والشح، فهي تريد أن تربح بشرط أن
لا يربح منها أحد، بل تريد كسبًا بغير رأس مال، فلا تسمح بدرهم ولا دينار ولا
بجندي ولا بكرة مدفع ولا رصاصة بندقية؛ لأجل المسلمين الذين منَّاهم
إمبراطورها بصداقته؛ لأجل الربح منهم. فكان إذًا كان لا بد لهم أو للدولة العثمانية
كبيرة دولهم من الاعتماد على صداقة دولة أوربية، فلا يشك عارف خبير بأن
صداقة إنكلترة خير لهم ولدولتهم من صداقة ألمانية؛ فإن إنكلترة إذا أرادت أن
تضر لا تقدر دولة أخرى على مثل ضررها، وإذا أرادت أن تمنع الدولة من
اعتداء غيرها عليها، فلا تقدر دولة أخرى على مثل منعها وحماتيها. وأما النفع
فلا ينبغي أن نعتمد فيه على دولة أجنبية، فمن لم ينفع نفسه لا ينفعه غيره.
هذا هو رأيي في الدولتين، وقد صرحت به منذ سنين للبارون أو بنهايم الذي
كان مندوب الإمبراطور غليوم الثاني غير الرسمي بمصر؛ إذ كان يريد أن يقتضي
بضد هذا الرأي، ولكن ظهرت حجتي على حجته ولم يستطع إقناعي ولا خداعي
بمثل ما خدع به بعض الناس، وهذا هو رأي جميع من أعرف من إخواننا
العثمانيين المعتدلين في آرائهم السياسية.
وأذكر أن أحمد مختار باشا سألني عن رأيي في انكسار إنكلترة في حرب
الترانسفال وكانت الحرب في ريعانها: هل من مصلحتنا نحن العثمانيين أن يستمر
انكسار الإنكليز ويسقط نفوذهم، فقلت: أرى أن المصلحة في أن يقف الانكسار
والغلب عند هذا الحد، وأن تنتصر بعده إنكلترة، ويبقى نفوذها في أوربة محفوظًا،
فإن سقوطها خطر على دولتنا؛ لأن من مصلحتها أن تبقى دولتنا، ومصلحة
روسية في زوالنا، ولا يقف في وجهها سواها، فأهوى بيده ورأسه، وقال هذا هو
الرأي.
كانت سياسة عبد الحميد السوء تهدم ما كان لإنكلترة من المصلحة في بقاء
الدولة، وتقرب بينها وبين روسية، وتزيل ما بينهما من الأضغان والأحقاد. فلما
زال سلطانه وجاء الدستور، كانت إنكلترة أول دولة رحبت بحكومتنا الجديدة،
وأظهرت لها الميل، وأنحت على النمسة بأشد اللائمة عندما أعلنت ضم البوسنة
والهرسك إلى أملاكها، وكادت وزارة كامل باشا تعيد لها سياستها الأولى معنا بأكمل
مما كانت عليه. ولكن قام في وجهه أغيلمة غلطة وسلانيك وأسقطوا وزارته
بإرشاد اليهود الصهيونيين الألمانيين، وما زال الغرور بأولئك الزعماء الذين نزوا
على الدولة بقوة جمعية الاتحاد والترقي وضباطها، حتى أيأسوا إنكلترة منا في
وقت يرون فيه فرنسة وروسية وإيطالية تابعات لها في السياسة، ويرون النمسة
مغتصبة البوسنة والهرسك تطمع في سلانيك مركز عظمتهم وفيما جاوروها من
مكدونية، ويرون فيه ألمانية تتفق مع الروسية سرًّا على بلاد إيران شقيقة دولتنا
وجارتها، وذلك من أكبر الأخطار علينا، ولم يفيقوا من غرورهم حتى سمعوا
صيحة إيطالية في يوم انعقاد مؤتمر جمعيتهم السنوي تقول: قد آذنتكم بالحرب،
وأخذت منكم طرابلس بالقوة والقهر، ورأوا الدولة العلية تراجع الدول العظمي
وتذكرهن بالحقوق الدولية والمعاهدات والإنسانية، فيتصاممن عن ندائها، ويدعن
إيطالية تغتصب هذه المملكة الإسلامية الواسعة من الدولة الإسلامية التي لم يبق في
يدها في إفريقية الإسلامية سواها، وقد كان معظم سواحلها الشمالية والشرقية لها.
إن سكوت أوربة على هذا العدوان المشوه الذي تتبرأ منه الأعذار، وتنكث به
العهود وتنسخ القوانين برهان واضح على أنه عدوان متفق عليه، وإذًا لا يقف هذا
العدوان عند طرابلس، ولا سيما إذا ظهر لأوربة أن التجربة الأولى ناجحة بعجز
الدولة العثمانية عن كل عمل، وعدم تأييد الأمة العثمانية بجميع شعوبها التي يعتد
بها لها، وعدم تهييج شعور العالم الإسلامي كله لأجلها.
يظهر أن دول الاستعمار ولا سيما إنكلترة وفرنسة، يعتقدن أن العالم
الإسلامي قد مات شعوره وتقطعت روابطه؛ بما نفثت فيه أوربة من سموم الجنسية
الوطنية واللغوية والقومية، ومن التعاليم الفاسدة المزعزة لأركان الإيمان، المغرية
بالنعيم والشهوات، وقوَّى اعتقادها هذا عدم ظهور الغيرة والحمية الإسلامية عند
العبث باستقلال دولة المغرب الأقصى ودولة إيران، فتجرأن على العبث باستقلال
الدولة العثمانية، ولم يحفلن باعتقاد المسلمين أنها دولة الخلافة، وأن بذهابها زوال
الحكم الإسلامي من الأرض، وهو الذي يجب على كل مسلم أن يبذل ماله ونفسه
في سبيله.
ألا فليعلم المسلمون في جميع أقطار الأرض والعثمانيون أينما كانوا وحيثما
وجدوا؛ أن ذهاب طرابلس الغرب غنيمة باردة، يتبعه اغتصاب النمسة لسلانيك
وما جاورها، فاقتسام بقية ولايات مقدونية، فوضع الولايات السورية تحت حماية
الدول الكبرى، فتجزئة بقية ولايات الدول.
لا يغرنكم انتقاد بعض جرائد لغدر إيطالية وعداونها، سواء كان صادرًا عن
مخادعة وخلابة، أو عن استقلال في الانتصار للمعاهدات والقوانين، أو لأجل أن
لا يناقض إقرارهن لإيطالية ما كان من إنكارهن على النمسة عندما اغتالت البوسنة
والهرسك.
الجرائد في أوربة مرآة أممها وحكوماتها، فإذا كانت تلك الأمم والحكومات
غير راضية من عدوان إيطاليا؛ فما حل عقدتها على أوربة بعسير.
أمامنا شيء واحد فيما أرى؛ تأليف وزارة تثق بها أوربة، واجتماع مجلس
الأمة في الحال وتأييده، وإزالة سيطرة أولئك الأحداث على الدولة بقوة جمعيتهم؛
فهم مصدر هذا البلاء كله، فإذا تم هذا وأمكن لهذه الوزارة أن تقنع دول الاتفاق
المثلث بوجوب كف عدوان إيطالية؛ والمحافظة على جميع أملاك الدولة فذاك وإلا
فالخطر واقع ماله من دافع.
إن عجزنا عن تأليف هذه الوزارة وليس لها مثل كامل باشا، وعن تأييد
المجلس لها بمعارضة أولئك الأحداث، فذنب هلاكنا علينا ولا عتب لنا على أوربة
وإن قدرنا على تأليفها وتأييدها، وعجزت هي عن إقناع الدول بما ذكرنا، علمنا
أن البلاء من أوربة كلها، وأنها متفقة على محو سلطتنا من الأرض كلها لا من
طرابلس فقط، والحكم حينئذ للطبع لا للرأي، فإذا كان قد زال منا كل شعور
بالشرف وقيمة الحياة الإنسانية نخلد إلى الذل والعبودية؛ وإلا نفعل كما نفعل كل ما
يفعله الإنسان الذي يشعر ويحس إذ يئس من الحياة الاستقلالية الشريفة، وقضى
عليه بالذل والعبودية، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
((يتبع بمقال تالٍ))