دروس سنن الكائنات محاضرات علمية طبية إسلامية للدكتور محمد توفيق صدقي (٨)
الأعضاء التي لا قناة لها علم مما سبق أن في جسم الإنسان نوعين من الأعضاء: (النوع الأول) : هو الذي له قناة تحمل إفرازه سواء أكان هذا الإفراز صالحًا للجسم، أم ضارًّا به، فمثال الصالح إفراز البنكرياس، ومثال الضار إفراز الكُلية، وتسمى هذه الأعضاء (بالغدد التي لها قناة) ، وإفرازها يسمى (بالإفراز الخارجي) ؛ لأنه يُرى خارجًا منها، ويجري في قنواتها، وأكثر هذه الأعضاء له إفراز آخر يسمى (بالإفراز الداخلي) ، وهو الذي يجري في الأوردة الدموية، أو في الأوعية اللمفاوية، وله فوائد سنذكرها - إن شاء الله تعالى -، مثال ذلك الخصية فإن لها إفراز خارجيًّا، وهو المني يجري في قنواتها المعروفة، وإفرازًا داخليًّا لا يُرى، وله تأثير في بنية الشخص، وهيئته، وصوته، وشعر وجهه، ونحو ذلك من مميزات الذكور التي تُفْقَد بالخصاء. (النوع الثاني) : الأعضاء التي لا قناة لها كالطحال وغيره، وهذه لها إفراز واحد يسمى (بالإفراز الداخلي) له منافع عظيمة في الجسم، وقال آخرون: إن المراد من هذه الأعضاء الأخيرة ليس إفراز مواد نافعة للجسم، بل إخراج بعض فضلاته لضرر بقائها فيه، والظاهر أن كلتا النظريتين صحيحة من بعض الوجوه، ولكن الأولى أكثر قبولاً عند الجمهور الآن من الثانية، وهاك بيان وظيفة تلك الأعضاء التي لا قناة لها: (١) الطحال: عضو شهير، وهو أكبر الغدد التي لا قناة لها، وموضعه في الجهة اليسرى من البطن بين المعدة والحجاب الحاجز، أما وظائفه فخمس: (أولها) تكوين كريات بيضاء للدم. (ثانيها) توليد بعض الكريات الحمراء في بعض الحيوانات. (ثالثها) إتلاف الكريات الحمراء القديمة التي قاربت الفساد. (رابعها) تكوين بعض مواد نيتروجينية كحامض البوليك لإخراجها من الجسم لضرر بقائها فيه. (خامسها) يقوم الطحال بوظيفة مستودع للدم يجتمع فيه إذا انتهى الهضم فيمتلئ به ويكبر حجمه، وإذا ابتدأ الهضم يندفع الدم منه الى المعدة. (٢) الغدة الصعترية: غدة مؤقتة تكبر عقب ولادة الطفل إلى نهاية السنة الثانية، إذ يتم نموها، ثم تأخذ في التناقص شيئًا فشيئًا؛ حتى لا يبقى إلا أثرها في زمن البلوغ، موضعها في الجزء الأمامي من الصدر وراء القفص تمتد إلى أسفل العنق، ولونها يميل إلى الحمرة، أو يقرب من السنجابي. ووظيفتها تكوين كريات بيضاء كباقي الغدد اللمفاوية، وفي الحيوانات التي تسبت (Hibern ate) [١] تبقى فيها هذه الغدة الصعترية مدة الحياة كلها، وفي أثناء يقظتها يتراكم فيها جزء عظيم من الشحم، وهذا يستعمل في أثناء سباتها فيأخذ في الاحتراق شيئًا فشيئًا. فيظهر من ذلك أنها تجتمع فيها بعض المواد التي تلزم للحياة في أثناء هذا النوم الطويل في تلك الحيوانات. ويقول بعض العلماء: إنها تولد أيضًا بعض الكريات الحمراء في الأطفال، وإذا أُزيلت هذه الغدة من بعض الحيوانات كالضفادع مثلاً حصل لها ضعف عضلي شديد مع شلل ينتهي بالموت. (٣) الغدة الدرقية: تُشاهد في أسفل العنق من الأمام على القصبة الهوائية، وشكلها يشبه الدرقة؛ ولذلك سميت بهذا الاسم، وهي في النساء أكبر منها في الرجال، وفي زمن الحيض تنتفخ قليلاً، وقد تصاب بمرض فتحصل فيها ضخامة عظيمة تسمى بلسان الأطباء (جواتر) Gositre [٢] ، وهو مرض عسير الشفاء، ولا يزول غالبًا إلا بعملية جراحية، فيُستأصل من العنق المسماة (بتفاحة آدم) [٣] فإن هذه الغدة التي نتكلم عليها هي تحت التفاحة بقليل. أما مادتها فمركبة من منسوج مخصوص مشتمل على حويصلات صغيرة جدًا مملوءة بمادة غروية مركبة من الزلال وعنصر اليود. ووظيفة هذه الغدة أن تفرز إفرازًا داخليًّا له تأثير عظيم في بنية الشخص وقواه العقلية، فإذا مرضت أو استُؤْصِلَتْ في الأطفال وقف جسمهم عن النمو، وأصيبوا بالبله، وإذا أصابها المرض في الكبر حدث للإنسان ما يسمى (بالتورم المخاطي) [Myxoedema] في جسمه؛ فتضخم جميع الأنسجة تحت الجلد حتى يتورم جسمه، ويصاب بالضعف العام في جميع قواه الجسمانية والعقلية؛ ولذلك يجب الاحتراس في أثناء العمليات الجراحية من استئصال هذه الغدة كلها، بل يتحتم ترك جزء منها ليقوم بهذه الوظيفة المهمة. وإنما سمي هذا المرض الأخير بالتورم المخاطي لظنهم أن هذا الورم ناشئ عن زيادة المواد المخاطية تحت الجلد، والحقيقة أن المنسوج الضام الذي تحت الجلد بجميع أجزائه هو الذي يضخم، لا المادة المخاطية التي فيه وحدها. ولعلاج هذه الأحوال يجب استمرار حقن خلاصة من الغدة الدرقية تحت جلد المصاب، أو تستعار له هذه الغدة من أحد الحيوانات، وتلصق بجسمه جراحيًّا (وهي طريقة قليلة النجاح) ، وأحسن من ذلك كله أن يأكل المريض من هذه الغدة ما دام حيًّا. ويوجد للغدة الدرقية أخوات صغيرة بجوارها، أو فيها، والراجح عند بعض العلماء أن التأثير الأعظم في المجموع العصبي وغيره هو لهذه الغدد الصغيرة. (٤) الغدة التي فوق الكلية: هي جسم شكله كالقلنسوة المضغوطة من الجانبين يُرى على قمة كل من الكُليتين، أما وظيفتها فأول من اهتدى إليها طبيب إنكليزي يسمى (أديسون) Addiso في سنة ١٨٥٥م؛ ولذلك سُمي المرض الناشئ من إصابة هذه الغدة باسمه إلى اليوم، وأعراضه ضعف في المجموع العضلي كله، وفي المجموع الدوري للدم، وفي الأعصاب، وإصابة الجلد بلون السمرة بحيث تشبه النحاس. وإذا اُستخلص من هذه الغدة خلاصة، وحُقنت تحت الجلد أحدثت انقباضًا في الأوعية الدموية الصغيرة، فهي لذلك تنفع في منع النزيف، وكذلك إذا وُضِعَتْ هذه الخلاصة على الأغشية المخاطية صيرت لونها أكمد لانقباض الأوعية الدموية فيها ومنعت النزيف، وأشهر الأمراض التي تصيبها هو التدرن. (٥) الجسم النخامي أو المخاطي: هو جسم في الدماغ أحمر سنجابي، يُشاهد على السرج التركي للعظم الوتدي من عظام الجمجمة أسفل المخ، ومرض هذا الجسم يُحْدِث ضخامة فظيعة في عظام الأطراف العليا والسفلى، وكذلك في عظام الوجه. (٦) الغدة الصنوبرية: هي أيضًا داخل الجمجمة تحت مؤخر الجسم المندمل الموصل بين فصي المخ، في وسطها تجويف صغير، ولم تُعْلَم لهذا الجسم وظيفة إلى الآن، وغاية ما يُعْرَف عنه أنه أثر ضامر لعين ثالثة. وتوجد هذه العين في حال أحسن منا في الإنسان في الأورال (الغطاء) [Lizards] خصوصًا في النوع المسمى بالإفرنجية (هتيريا) [Hatteria] ، وهي فيها مغطاة بالجلد، وفي الحرباء وبعض الزواحف تتصل الغدة الصنوبرية بعين ثالثة في وسط سطح الرأس؛ ولكنها في الحالة الأثرية أيضًا. وهذا العضو هو من أعظم، وأشهر الأعضاء الأثرية التي بني عليها مذهب دارون. (٧) الجسم العصعصي: يوجد عند نهاية العصعص، وفيه منسوج ضام مشتمل على كثير من أوعية دموية صغيرة، وهذا الجسم لا تُعْرَف له وظيفة أيضًا (٨) الجسم السباتي: هو جسم عند انقسام الشريان السباتي [٤] الذي في جانبي العنق الأيمن والأيسر. وهذا الجسم يشبه في تركيبه الجسم العصعصي وهو مثله أيضًا في جهلنا وظيفته جهلاً تامًّا *** الجلد تركيبه ووظيفته يتركب الجلد من طبقتين: العليا تسمى البشرة، والسفلى تسمى الأدمة، وفيهما الشعر، والأظفار، والغدد الدهنية، وغدد العرق، أما البشرة: فهي مركبة من طبقات عديدة، كل منها مركب من خلايا بعضها بجانب بعض كالبلاط. وأما الطبقات السطحية: فهي كالقشور الميتة، وتُفْقَد منها نوياتها، وتنفصل عن الجلد شيئًا فشيئًا، ويحصل نمو البشرة من طبقاتها السفلى، وفي هذه الطبقات ترى المواد الملونة لبعض أنواع البشر، وفيها أيضًا تحفظ المواد التي يستعملها الناس للوشم، وطبقات البشرة تتغذى بالمادة اللمفاوية، ولها مجار دقيقة جدًّا بين خلياتها، ولا يوجد في البشرة عروق للدم؛ ولكن يوجد في الطبقات السفلى منها أعصاب دقيقة جدًّا. وأما الأدمة: فهي مركبة من منسوج ليفي كثيف، وهذه الكثافة تتناقص شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى المنسوج الخلوي الذي تحت الجلد وبه الشحم، وفي الأدمة حلمات صغيرة توجد بكثرة في راحة الكفين، وفي أخمص القدمين، وهي أكبر الحلمات الجلدية، ويكون بعضها بجوار بعض صفًّا صفًّا، وهي السبب فيما نشاهده في جلد الراحة مثلا من القنوات الصغيرة، وهذه القنوات لها أشكال متنوعة في يد كل شخص، بحيث يتعذر وجود شخصين متماثلين فيها من جميع الوجوه؛ ولذلك يختبر بها تحقيق الشخصية. وفي الحلمات الجلدية لفائف من الأوعية الشعرية الدموية، وفي بعض الأجزاء كالأخمصين، والراحتين، وغيرهما أجسام بيضاوية لها علاقة مخصوصة بحاسة اللمس. وفي الطبقات السفلى من أدمة الصفن، والقضيب، وحلمة الثديين ألياف عضلية غير اختيارية، وهي التي تُحْدِث الانكماش في جلد تلك الأعضاء بانقباضها وأما الأظفار: فهي عبارة عن بعض طبقات من طبقات البشرة تنوعت تنوعًا خاصًّا. وأما الشعر: فهو أيضًا طبقات من البشرة تنوعت تنوعًا مخصوصًا، وكل شعرة تنبت من بصيلة في حفرة مخصوصة تسمى الحويصلة الشعرية، والشعر يوجد في جميع أجزاء الجسم بدرجات مختلفة ما عدا الراحتين، والأخمصين، والقضيب، أما لونه فهو ناشئ عن وجود مادة ملونة في خلاياه، وسبب الشيب فقد هذه المادة، وقد يتولد في الشعر فقاقيع هوائية، وهي التي تُظْهِر أن لونه أبيض عند حصول فزع للإنسان مثلاً. وكل حويصلة من حويصلات الشعر لها ليفة عضلية صغيرة تجذبها في بعض الأحوال؛ فينتصب الشعر كما يحصل عند البرد أو الفزع. وأما الغدد الدهنية: فهي غدد كيسية موضعها في الأدمة، وتنفتح قنواتها في أعلى حويصلات الشعر، وهي تفرز مادة دهنية فائدتها تليين الشعر والجلد، وبانسداد هذه الغدد، والتهابها يحصل (حب الشباب) بسبب كثرة إفراز المادة الدهنية في هذا الطور من العمر، وبعد سن الثلاثين يندر وجود هذا المرض. وأما غدد العرق: فتوجد في جميع سطح الجلد، وتكثر جدًّا في الأماكن التي لا شعر فيها كالراحتين، وكل منها عبارة عن أنبوبة ملتفة على نفسها، موضعها في الأدمة أو فيما تحتها - وهو الغالب - وتنفتح قنواتها في سطح البشرة. وأما المادة التي تفرز في داخل الأذن فلها غدد تشبه غدد العرق. وظائف الجلد: (١) أن يكون وقاية للجسم، ومركزًا للحس باللمس. (٢) عليه مدار تنظيم حرارة الجسم، كما سبق. (٣) يتنفس الجسم منه، فإنه يخرج منه غاز ثاني أكسيد الفحم، ويمتص الجسم أكسجين من الهواء، وهذه الوظيفة في الحيوانات ذوات الجلد السميك ضعيفة جدًّا؛ ولكن لها في ذوات الجلد الرقيق أهمية عظمى، حتى إذا نُزع منها الرئتان عاش الحيوان مدة بالتنفس الجلدي فقط كما في الضفادع. (٤) الامتصاص: وهذه الوظيفة لها أهمية في العلاج؛ فإن كثيرًا من المواد إذا وُضعت على الجلد دخلت البنية كالزئبق مثلاً، وكذلك الزيوت وغيرها كثير، فبامتصاص الزئبق من هذا الطريق يمكن معالجة الداء الإفرنجي، وكذلك يُعَالَج الأطفال النحفاء بدلك أجسامهم بالزيوت خصوصًا زيت السمك، وهي طريقة لطيفة لتوقي طعمها المبغوض، ومن هنا نفهم سبب سمن أكثر المشتغلين بمس الزيوت، والشحوم كالجزارين مثلاً؛ فإن أجسامهم تمتص شيئًا منها، والامتصاص بالجلد هو بالضرورة أضعف من الامتصاص بالأغشية المخاطية. (٥) الإفراز: ومعناها خروج بعض المواد الضارة بطريق الجلد من جسم الإنسان في العرق وغيره. *** العرق توجد غدد العرق بكثرة في الإنسان في راحتيه وأخمصيه - كما سبق - ولذلك يكثر العرق فيهما، ولكن يوجد اختلاف بين الحيوانات في كمية العرق التي تفرزه، وفي الأماكن التي يفرز منها بكثرة - فالثور يعرق أقل من الحصان، والغنم، والفئران، والأرانب، والماعز لا تعرق، والخنزير إنما يعرق أنفه بكثرة، وأما الكلاب والقطط فتعرق براحة أرجلها. وإذا خرج العرق من الجسم تبخر في الهواء، وفي تبخره يجتذب جزءًا من حرارة الجسم؛ فتعرض له البرودة، وإذا كان الهواء جافًّا وحارًّا ومتحركًا كان التبخر عظيمًا، والعكس بالعكس. ومقدار العرق في اليوم نحو ٧٢٠ جراما. تركيب العرق: إذا خرج العرق من الجسم يخرج معه شيء كثير من الفضلات الضارة، وهو يمتزج بالمادة الدهنية التي تفرزها الغدد المذكورة سابقًا، ويختلط كذلك ببعض خلايا البشرة التي انفصلت عنها، وهذه الخلايا فيها كثير من مادة الكبريت، وهذه هي إحدى الطرق لإخراج هذا العنصر من الجسم. أما العرق فيشتمل على ماء كثير، وأملاح متعددة أشهرها ملح الطعام، وحوامض دهنية، ومادة البولينا، وهي التي تخرج بكثرة في البول، وهي من أشهر فضلات الجسم المتخلفة عن احتراق المواد الزلالية فيه - كما سبق - ومما سبق تعرف العلاقة بين إفراز الكُلى، وإفراز الجلد، فإذا كثر العرق قل البول، وبالعكس، وهذا هو السبب في قلة إفراز البول إذا اشتد الحر في زمن الصيف؛ لذلك كان من أحسن طرق علاج المصاب بمرض في الكُلى أن تكثر عرقه بالتدفئة، أو بالحمامات الساخنة، أو ببعض الأدوية التي يعرفها الأطباء، وبهذه الوسيلة تخرج بعض الفضلات الضارة من الجسم بطريق الجلد فتستريح الكُلى حتى يتم شفاؤها. وتوجد مواد كثيرة إذا تعاطاها الإنسان خرجت بكثرة في العرق مثل الجاوي، وبعض الأدوية حين خروجها من الجسم تهيج الجلد، وتُحْدِث فيه طفحًا مخصوصًا كالزرنيخ مثلاً، ومثل ذلك سموم بعض الأمراض؛ فإنها تُحْدِث طفحًا في الجلد، وسيأتي الكلام عليها في الجزء الثاني - إن شاء الله -. وثم مواد أخرى غير ما ذكر تخرج مع العرق في بعض الأحوال، فقد شوهد أن بعض الناس يتلون عرقهم بلون مغاير للون الطبيعي؛ بسبب خروج دم فيه أو بخروج المادة الحمراء الملونة للدم، وقد يخرج في العرق مادة زلالية، وذلك في مرض الرثية (الروماتزم) الذي يكون فيه العرق أشد حموضة من المعتاد، وقد يخرج فيه أيضًا حامض اللبنيك، وذلك في الحمى النفاسية، أو في داء الكساح، أو الخنازير. الاستحمام: علم مما سبق أن الاغتسال ضروري للإنسان؛ لأن تركه يسبب تراكم تلك المواد المذكورة آنفًا على سطح الجلد؛ فتسد قنوات الغدد، وتعوق إفرازها، وإذا قل إفراز الجلد كثر مجهود الرئتين، والكليتين فتصاب بالعطب، زد على ذلك كون القذارة تحط من قدر المرء، وتنفر الناس منه، وتحدث بعض أمراض في الجلد نفسه كالحكة. ومن فوائد الاستحمام غير ما ذكر أنه ينشط الجسم، وينبه المجموع العصبي والدوري؛ ولذلك أوجبه الشارع الحكيم بعد الجنابة لإزالة ما يحدث للجسم من الفتور بعد الجماع، والاستحمام يقوي المرضى والضعفاء، ومن ذلك تظهر حكمة اغتسال الحائض والنفساء لأن هاتين الحالتين هما - من غير شك - مرضيتان. وأحسن طريقة لإزالة أوساخ الجسم هي استعمال الماء الفاتر، أو الساخن مع الصابون، والدلك بالليف، أو نحوه، ولا يخفى أن الدلك من أحسن الوسائل المستعملة في الطب الحديث لتقوية الأعصاب، والعضلات، وإزالة بعض الآلام؛ ولذلك يمدح بعض أطباء الإفرنج الإمام مالكًا - رضي الله عنه - لجعله الدلك من فرائض الغسل؛ فإنه أكثر تقوية للجسم من الغسل وحده. أما الصابون فإنه يتولد من تأثير البوتاسيوم، والصوديوم في المواد الدهنية أو الزيتية. أنواع الحمَّامَات هي: (١) البارد: وحرارته تكون أقل من حرارة الجسم بكثير. (٢) الفاتر: وحرارته أقل بقليل. (٣) الساخن: وحرارته مثل حرارة الجسم. (٤) الحار: وهي مثل حرارة الجسم إذا أصابته الحمى الشديدة. والمياه الساخنة منبهة للجسم مزيلة لآلام الروماتزم وغيرها، ويصح لكل إنسان أن يستعملها. أما المياه الباردة فالأولى أن لا يستعملها الإنسان إلا في زمن الصيف بشرط أن يكون صحيح البنية سليم الكُليتين والرئتين، وإذا أحس الإنسان بعدها بحرارة في جسمه كان ذلك دليلاً على أن بنيته تتحملها بشرط السلامة من المرض. وينبغي أن يستعمل الإنسان بعد الحمَّام البارد الدلك الشديد، والتدفئة بالملابس الكافية، والرياضة البدنية نحو نصف ساعة. وكذلك يجب في جميع الحمَّامَات تنشيف الجسم من الماء تنشيفًا جيدًا؛ فإن في ذلك وقايته من البرد، ويجب في الحمام الساخن أن لا يخرج الإنسان منه دفعة واحدة إلى الهواء البارد، وأحسن وقت للاستحمام أن يكون في الصباح قبل الفطور أو بعد تناول لقيمات قليلة جدًّا مع فنجان من القهوة أو الشاي، ومن الضرر البليغ أن يغتسل الإنسان بعد الجوع الشديد، أو التعب الكبير، أو بعد امتلاء المعدة بالطعام، ولا يصح دخول الحمَّام عقب الأكل إلا بعد مضي ساعة، أو ساعتين على الأقل. ولا يجوز استعمال الماء البارد للشيوخ، والعجائز، ولا للمصابين بضعف القلب. والماء البارد نافع جدًّا في الحميات، وكذلك الفاتر، وهذا مصدق للحديث القائل (الحمى من فيح جهنم، فأبردوها بالماء) - كما سبق - والمعالجة بالماء Hydrotherapy نجحت نجاحًا عظيمًا في شفاء كثير من الأمراض الضعيفة، والأمراض التي تنهك القوى العقلية، ولإزالة مضار الحياة الجلوسية. أما السبب في إحساس الإنسان بالحرارة عقب استحمامه بالماء البارد، فهو تمدد أوعية الجلد، وامتلاؤها بالدم بعد انقباضها عند استعمال الماء البارد، وهو ما يسمى (برد الفعل) . والواجب أن يكون زمن الحمام البارد قصيرًا جدًّا (أي بضع دقائق) ؛ فإن الغرض منه ليس تنظيف الجسم، بل تقويته، ويجب أن لا يكون الحمام الساخن في مكان فاسد الهواء، كأن توضع فيه النار مثلاً. وينبغي الاستحمام في الصيف مرتين في الأسبوع على الأقل، وفي الشتاء مرة واحدة، وينبغي تغيير الملابس بعد الاستحمام، ومن هنا نفهم حكمة الشارع في سن غُسل الجمعة، ولبس أحسن الثياب يومه، وفي فرض الغسل بعد كل جنابة ولو بالاحتلام، وفرض طهارة الثوب. *** الملابس الغرض من الملابس حفظ الجسم من البرد، والحر، والرياح، والمطر، والقاذورات، وهي تدفئه، وتحفظه من بعض العوارض، وكذلك تزينه. وتُتخذ الملابس إما من الحيوان، أو من النبات:
(١) ما يتخذ من الحيوان: فهو الصوف والوبر والشعر: وهي تؤخذ من الأنعام كما هو معروف، وهذه الأشياء جميعا تغزل، ثم تنسج ما عدا اللباد؛ فإنه يصنع بلا غزل، ولا نسج، ولتمييز هذه الأشياء عن المواد النباتية يُوضع جزء منها في محلول القلويات [٥] الكاوية، فإذا ذاب علم أنه من أصل حيواني. والكشمير: يتخذ من شعر ماعز بلاد التبت. وهذه الأصناف جميعًا موصلة رديئة للحرارة، وتمتص الرطوبة بسهولة، وسرعة؛ ولكنها تتبخر منها ببطئ؛ فلذلك كانت نافعة جدًّا في التدفئة، ومن معايبها أنها تيبس، وتنكمش بالغسل. الحرير: يُفْرَز من غدتين بأسفل جسم دودة القز، ولهما قناتان تنفتح في الشفة السفلى لفم الدودة، والخيط الواحد عبارة عن خيطين دقيقين جدًّا ملتصق أحدهما بالآخر وطوله نحو ٤٠٠٠ ياردة. وتفرز بالدودة هذا الخيط لتبني به بيتًا حولها يحيط بها، ويخفيها عن الأعين ويحفظها من كل ما يؤثر فيها مدة تحولها إلى فراش، ويسمى هذا البيت بالشرنقة، فإذا تحولت إلى فراش ثقب هذا البيت، وخرج منه، فتتزاوج ذكوره بإناثه، وتضع الإناث بيضًا صغيرًا جدًّا كحجم رأس الدبوس الصغير يشبه بزور الخشخاش (أبي النوم) ، وهذه البويضات تفقس؛ فتخرج منها ديدان دقيقة، وهي ديدان القز، ولا تفزر الحرير إلا بعد كبرها، وتمام نموها، وتتغذى هذه الديدان بورق التوت، وفي بلاد المغول نوع آخر منها يتغذى بورق البلوط، وهاك تفصيل حياة هذه الدودة كما علمته بالمشاهدة أثناء تربيتي لها: يبدأ بيض القز يفقس في أواخر شهر فبراير، أو أوائل مارس وقت ظهور ورق التوت، ويكون الدود صغيرًا جدًّا كالنمل، ثم يكبر حتى يصير طول الواحدة نحو ٦ - ٨ سنتيمتر، ويخرج الحرير في أوائل شهر إبريل، ويقال إنه يمكن تربيته أيضًا على ورق الخص؛ ولكن حريره يكون أقل، وتتكون الشرانق فإذا تمت خرج الفراش منها بعد نحو ١٨ أو ١٩ يومًا، وتبدأ الإناث بوضع بيضها بعد نحو ٢٤ ساعة من خروجها، وعدد بيض كل نحو ٢٠٠ على الأقل، ويموت الذكر والأنثى من الفراش بعد خروجه بنحو عشرة أيام، والأنثى أكبر قليلاً، وأصفى بياضًا. أما لون البيض الجديد، فهو مصفر فإذا قَدُم صار رماديًّا، وهو مفرطح، ومنبعج في وسطه، ولا يأكل الدود داخل الشرنقة شيئًا، ولا يشرب، وكذلك الفراش. ولون الشرنقة أبيض، أو مصفر قليلاً أو كثيرًا، وشكله بيضاوي مخصر، وطول الشرنقة من اثنين ونصف إلى ثلاثة ونصف سنتيمترا، وعرضها واحد ونصف تقريبًا، وقد يفقس البيض مرة أخرى في مايو. أما خيط الحرير فله قلب محاط بمادة شمعية زلالية، ولتمييز هذه الخيوط الحريرية عن الخيوط النباتية يُوضع عليها حامض البكريك Picric [٦] ، ولونه أصفر، فإذا تلونت به كانت حريرًا صحيحًا، وإلا فلا. ولتمييز الحرير عن الصوف مثلاً يُوضع القماش في محلول قلوي من أكسيد الرصاص؛ فإذا تلون باللون الأسود دل ذلك على أنه صوف لوجود مادة الكبريت فيه؛ فتتحد مع الرصاص؛ وتحدث هذا اللون الأسود، أما الحرير فليس فيه هذه المادة الكبريتية. والحرير يمتص الرطوبة بكثرة، وهو موصل رديء للكهرباء، ويقال إنه يحفظ الروائح، وجراثيم الأمراض. ولا يحتاج الجسم إلى لبس الحرير إلا إذا كان مصابًا بداء الحكة، ولا شك أن الشارع يبيحه في مثل هذا المرض، فقد لبسه بعض الصحابة بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المرض، لأن الضرورات تبيح المحظورات. ويؤخذ من الحيوانات أيضًا الفرو، والريش، والجلود، أما الفرو فيُستعمل في البلاد القطبية، والريش يُستعمل للزينة غالبًا، والجلود تستعمل في الأحذية وغيرها. (٢) ما يتخذ من النبات: القطن: وهو خيوط تحيط ببزور شجرة معروفة تنبت في البلاد الحارة والمعتدلة كمصر، وهذه الشجرة هي حقيقة شجرة مباركة، فقطنها ضروري للملابس والأثاث وغير ذلك، وبزورها يُستخرج منها زيت جيد نافع في التغذية يسمى في مصر بالزيت الحلو، وهذه البروز تُستخرج منها خلاصة تدر لبن المراضع، وكذلك إذا أُعطيت للأنعام كثر لبنها، وهذه الخلاصة تباع باسم (Lactagol) تصنع في المعامل الإفرنجية، وتُستعمل سيقان هذه الشجرة في الوقود، وقشر جذورها مجهض للحبالى. والقطن كالصوف يُغزل أولاً، ثم يُنسج لصناعة الأقمشة منه، وهو عبارة عن مادة السللولوز المتقدم ذكرها. وإذا وضع القطن في محلول الصودا الكاوية تحول إلى مادة تشبه الحرير، وهي التي تصنع منها أكثر الأقمشة المسماة كذبًا حريرًا. وخيوط القطن تتحمل الغسل والغلي، وهي تمتص الرطوبة امتصاصًا رديئًا وتوصل الحرارة جيدًا؛ ولذلك كانت الملابس القطنية مبردة. الكتان: يؤخذ من سيقان شجرة مخصوصة، بأن تخمر هذه السيقان في مكان رطب ثم تدق إلى أن تتفرق خيوطها، ثم تمشط، ومن بزور هذه الشجرة يُستخرج الزيت المسمى بالزيت الحار، وهو فضلاً على كونه مغذيًا مدر للبول، ومنفث للبلغم، وتستعمل هذه البزور أيضًا في عمل الضمادات (اللبخ) ، والمنسوجات الكتانية موصلة جيدًا للحرارة، وامتصاصها للرطوبة رديء كالقطن؛ ولكنها أغلى ثمنًا منه لنعومتها وبريقها. القنب: يؤخذ من سيقان شجرة أخرى، كما يؤخذ الكتان؛ ولكنه خشن جدًّا، وقل أن يستعمل إلا في الحبال، والقلاع، والأكياس الخيشية، ومن هذا النبات يؤخذ الحشيش، وهو تلك المادة المغيبة الملعونة، وبزر القنب يستعمل لغذاء الطيور. ألوان الملابس وسعتها: أما ألوان الملابس فتأثيرها في الحرارة كما يأتي: الأبيض يمتص الحرارة امتصاصًا رديئًا جدًّا فهو أبردها، ويليه الأصفر، فالأحمر، فالأخضر، فالأزرق، فالأسود؛ ولذلك إذا وضعت قطعة من ثلج في قماش أسود، وقطعة أخرى في قماش أبيض ذابت الأولى أسرع من الثانية؛ لأن الأبيض يطرد الحرارة، الأسود يمتصها، وتنفذ منه إلى الثلج، وكذلك يرتفع زئبق الثرمومتر درجات أكثر إذا وُضع على قماش أسود. ومن الخطأ لبس الملابس الملونة فوق الجلد مباشرة؛ فإن أكثر الألوان تشتمل على مادة سامة؛ فتهيج الجلد، وإذا امتصت منه أفسدت الصحة. ويجب أن تكون الملابس غير ضيقة؛ وإلا عاقت الدورة، والتنفس، وشوهت شكل الأعضاء كمشدات الإفرنج، وأحذية أهل الصين، ولبس الأحذية الضيقة ضار جدًّا بالأقدام؛ فقد يغوص بعض الأظفار في اللحم، ويُحْدِث قروحًا، والتهابات تؤذي الشخص أذى بليغًا، وعلى هذا ما تُحْدِثه الأحذية الضيقة في بشرة القدم من الحلمات الصلبة المؤلمة. نظافة الملابس: أما نظافة الملابس، فهي واجبة طبًّا، وشرعًا لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} (المدثر: ٤) فهي فرض على المسلم، وإن لم يشترطها بعضهم في صحة الصلاة. وأما المضار الناشئة من قذارة الثوب فهي عديدة، وإليك بيان بعضها: (١) إذا تراكم العرق، والإفراز الدهني في الملابس، منعها امتصاص العرق، وعاق الجلد عن تأدية وظيفته، وأحدث حكة فبثورًا، أو دمامل، وهذا هو أهون المضار. (٢) إذا اتسخت الملابس كثر فيها القمل والبراغيث، وهما من أشد الحيوانات فتكًا بالإنسان، فإن القمل ينقل إلى الإنسان الحمى التيفوسية، والحمى الراجعة، والبراغيث تنقل إليه الطاعون، فللوقاية من هذه الأمراض الفتاكة يجب تطهير الملابس من سائر الحشرات. (٣) الملابس القذرة كثيرًا ما تكون سببًا في نقل العدوى من شخص إلى آخر إذا تناقلاها، أو لمساها، فمثلاً الجرب، والأرضة الجلدية (تينيا) كثيرًا ما تُنقل بهذا الطريق، وإذا تنجس الثوب بالبول، أو البراز، أو الصديد، أو الدم كان سببًا في نقل الحمى التيفودية، والدوسنطارية، والديدان الخيطية، والرمد الصديدي، والزهري، وغير ذلك، وإذا كان الشخص من حاملي الأمراض - وسيأتي بيان ذلك - كانت بعض مفرزاته معدية، ولو كانت صحته جيدة. وحيث إن طهارة الثوب فرض، وهذه الطهارة لا تكون تامة إلا إذا خلا الثوب من البول، والبراز، وغيرهما، وخلوه منهما لا يكون إلا بالاستنجاء؛ فينتج من ذلك أن الاستنجاء فرض على المسلم. وأحسن طريقة لتطهير الثوب أن يُغْلَى غليًا جيدًا نحوًا من نصف ساعة، ثم بعد ذلك يُغسل بالماء والصابون، ثم ينشر في الشمس كالمعتاد، ولا عيب في هذه الطريقة إلا أنها تجمد المواد الزلالية كالدم والصديد؛ فيتعسر إزالتهما تمامًا من الثوب، أما غسله بالماء البارد قبل الغلي؛ فيذهب تلك المواد بسهولة؛ ولكنه يلوث الأيدي والماء؛ فإذا اتبعت هذه الطريقة الأخيرة وجب غسل الأيدي غسلاً جيدًّا، وتطهيرها بوضعها في مادة مطهرة كالغول (الكحول) وغيره، والواجب أن يغلى الماء الذي غسلت فيه قبل أن يلقى منعًا لانتشار الأمراض بين الناس. *** فصل في تنظيف الجسم كله تفصيلاً (مع بيان فوائد ذلك وتطبيقها على الدين الحنيف) نظافة الرأس: تكون بحلقه، أو قصه، ثم يُغسل بالماء الساخن والصابون، مع الدلك بشيء خشن كالليف، ولم ينه الشارع عن الحلق إلا في الإحرام؛ ولكنه أباحه لمن به مرض، أو أذى من رأسه، والحلق واجب طبًّا لإزالة الحشرات، ولتمكين الأدوية من برء أمراض الشواة (جلدة الرأس) ، ولعلاج جروحها، أو كسور عظامها، ولوضع الضمادات الباردة فوقها في الصداع، أو ضربة الشمس، أو النزف المخي أو غير ذلك؛ وإذا أبت امرأة حلق رأسها لوجود قمل أو صئبان فيه أمكن إذهاب ذلك بصب زيت البترول فوق شعرها؛ فإن ذلك قاتل للقمل، وحمض الخليك بنسبة ١ - ٤ يسهل استخراج الصئبان من الشعر - كما سبق -. وإذا تُركت نظافة الرأس أضر الإنسان القمل، وحدث برأسه قروح، وبثور وأمراض أخرى كالقراع؛ فيتسمم دمه بما في رأسه من القروح؛ وقد تصيبه الحمرة، أو تلتهب العقد اللمفاوية في العنق، أو يصيبه داء الخنازير. غسل الوجه: واجب كذلك، وخصوصًا لتنظيف العينين؛ فإن ذلك يقيهما من أرماد كثيرة، والأحسن أن تُغسل العينان في كل يوم مرة، أو مرتين بمحلول حامض البوريك المشبع (أي بنسبة ٤ في المائدة) بعد الغسل بالماء والصابون. أما نظافة الأذن: فيكفي أن تغسل، كما تغسل في الوضوء، ولا يجوز اللعب في داخلها بشيء فإن ذلك قد يحدث التهابًا فيها، أو يثقب طبلتها، وحركة الفكين في المضغ وغيره كفيلة بإخراج آفها (وسخ الآذان) وعندئذ يسهل غسله؛ وإذا أُهملت الآذان من الغسل يعرض لها صمم من تراكم الأوساخ فيها، وطنين مع دوار، وقد يحدث ألم فيها، وسعال مستمر. غسل الأنف: يكون بالاستنشاق، والاستنثار، أما نتف شعره فمذموم، وقد ورد في بعض الآثار ما يفيد مدح نبات شعر الأنف، وحكمته أن هذا الشعر ينقي هواء التنفس من التراب، والميكروبات، وغيرهما. نظافة الفم: هي من أكبر المهمات، وتكون بالمضمضة، والسواك؛ ولذلك كاد الشارع أن يفرضه، ويرى بعض أطباء الإفرنج الآن أن السواك خير من مسفرتهم (فرشتهم) لأن السواك يمكن تجديد طرفه المستعمل مرارًا كثيرة لرخص ثمنه، أما الفرشة فلا يمكن تجديد شعرها؛ فتتراكم فيها أنواع الميكروبات الضارة بالأسنان؛ ولذلك قال بعض أطباء الأسنان: إن السبب في انتشار أمراضها بينهم هو استعمال هذه الفرشة، ونصحهم باستعمال السواك، وتجديده كثيرًا، أو بغلي الفرشة بعد كل استياك. أما مرض الأسنان فإنه مؤلم جدًّا، ومفسد للهضم، ويحدث منه تسمم في الدم فيصفر لون الشخص؛ وتضعف قواه؛ وقد يصيبه داء الخنازير أيضًا، وإذا مرض ضعفت مقاومة جسمه، عن احتمال الأمراض فلذا كان الواجب العناية بنظافة الأسنان نظافة تامة. أما الشارب فالأفضل قصه فإنه تتراكم فيه الأوساخ، والميكروبات فتصل إلى طعام الإنسان وشرابه، ولا بأس بترك اللحية لأنها بعيدة عن ذلك وهي مظهر من مظاهر الرجولية. الإبطان: يجب نتفهما، أو حلقهما منعًا لتراكم القمل، أو الميكروبات فيهما؛ وقد تتولد عفونات فيهما تُحْدِث روائح كريهة، ومن الميكروبات التي تنمو في الإبط ما يُحْدِث العرق الأحمر. وكذلك يجب تقليم الأظافر وتخليل ما في الأيدي من الثنيات فإن وجود الميكروبات فيها وتحت الأظافر ضار جدًّا لسهولة وصولها إلى طعام الإنسان، وشرابه، ومن أشهر الأمراض التي تصل بهذا الطريق هي الحمى التيفودية؛ ولذلك يجب غسل اليدين غسلاً جيدًا قبل كل طعام، ومن الأمراض التي كثيرًا ما تصيب الأيدي داء الجرب؛ فإن حييوينه إذا وصل إلى الأيدي، ولم يُطْرَد عنها بالتنظيف المتوالي ثقب الجلد، وأحدث هذا الداء، وأحسن الوسائل المتبعة لوقاية الطعام من كثير من الميكروبات الأكل بالشوكات، والملاعق، واستعمال السكاكين ويجب حلق العانة وكذلك الختان منعًا لتراكم القمل، والصئبان في شعر العانة، وتجمع القاذورات تحت القلفة، وقمل العانة هذا هو كقمل الإبط واللحية وغيرهما؛ فلذا يمكن انتشاره من العانة إلى مواضع أخرى من الجسم حتى الحواجب، وأهداب العين، ولا يخفى ما في ذلك من الضرر العظيم، وفي حلق العانة شيء من تحريك داعية الوقاع لتهيج هذا المكان عند نبات الشعر. ومن مستلزمات نظافة السبيلين الاستنجاء، وذلك للمحافظة على طهارة الثوب المفروضة، ومنع الروائح الكريهة، وانتشار الأمراض، وقد يقي الإنسان أيضًا من السيلان والإفرنجي، ويكون الاستنجاء باليد اليسرى، ولا ينبغي الأكل بها، ويتحتم غسل الأيدي بعد كل استنجاء غسلاً جيدًا، وكذلك يجب بلها بالماء قبله لمنع تشرب اليد للمواد الكريهة وللميكروبات بقدر الإمكان. ومن الواجب أيضًا نظافة القدمين وتكون بالغسل الجيد المتكرر والتخليل، فإن ذلك مانع لتسلخاتهما، ولروائحهما الكريهة؛ فإنه إذا تراكمت الأوساخ فيهما؛ فقد يعرض للأخمصين، ولما بين الأصابع تسلخات، ربما أدت إلى التهاب في العقد الأربية، ونشأ عنه حمى، وخراج في ذلك الموضع، وتلك التسلخات مؤلمة وتعوق الإنسان عن المشي، وتعطله عن أعماله. وبعد ذكر هذه النظافة التفصيلية يجب علينا تكرار الحض على تنظيف سائر الجسم، ودلكه جيدًا بالماء والصابون؛ فإن نفع ذلك معلوم مما سبق، ويجب علينا تكرار ذكر ما للقمل من المضار - خصوصًا قمل الجسم أو الملابس - فإنه فضلاً عن نقله للحميات المذكورة قد يكون هو وحده سببًا في إحداث حمى شديدة - كما قلنا - وذلك إما بسبب تهييج أعصاب الجسم بلدغه، أو بحقن سموم في الجسم من إفرازه، فقد شوهد أن بعض الناس قد أصابته حمى في منتهى الشدة، حتى زادت حرارته عن أربعين، وعند البحث في جسمه لم يوجد به مرض، ولم يكن هناك سبب لتلك الحمى سوى وجود قمل كثير في الجسم، وبعد النظافة التامة زالت عنه الحمى في الحال. زد على ذلك ما للقمل من المضار الأخرى، كإقلاق راحة الإنسان، ومنع النوم عنه، وإحداث بثور في الجسم. *** القاذورات والنجاسات القاذورات التي نعتبرها ضارة طبًّا، هي عين النجاسات المعروفة شرعًا، وأشهرها البول، والبراز، والدم، والقيح، أو الصديد، والقيء، والمني، ولم يعتبر اللعاب، والمخاط من الشخص السليم ضارًّا في الشرع؛ لأنه حقيقة لا يوجد فيه ميكروب يضر الإنسان ضررًا بليغًا، اللهم إلا ميكروب الالتهاب الرئوي والميكروب اللعابي (الذي ذكر في صفحة ٦٩ من هذا الكتاب) ، ولكن هذين الميكروبين، وغيرهما يسكنان عادة في فم كل شخص، ولا يضرانه إلا إذا ضعفت بنيته عن مقاومتهما؛ ولذلك كان الاحتراس من لعاب الشخص السليم، ومخاطه لا فائدة كبيرة فيه، أما البلغم فهو شيء غير المخاط العادي إذ أنه يشتمل على شيء من الصديد، وغيره كبلغم المسلولين، وهو خطر جدًّا، فيجب اعتباره نجسًا لاشتماله على الصديد، أو الدم كما ثبت ذلك بالبحث المجهري، وقد نص الفقهاء على أن كل ما يخرج من الصدر من نخامة وغيرها نجس. وقال فقهاء الحنفية: إن ما زاد من هذه النجاسات عن قدر الدرهم وجب تطهير الثوب وغيره منه، ولا يخفى أن المصاب بالسل، وغيره من الأمراض الصدرية يخرج من فمه كثيرًا من الصديد، الذي قد يزيد عن قدر الدرهم فإذا كان الواجب عندهم أن يتطهر الإنسان من البلغم إذا أصاب ثوبه بهذا المقدار، كما يتطهر من البول والبراز؛ فإنه لا فرق بينهما، وكلاهما ضار ضررًا بليغًا، على أن الإمام الشافعي يرى أن القليل والكثير من النجاسات سواء، فيجب التطهر حتى من قليل البلغم الذي يخرج من الصدر. *** نظافة البيوت وشروطها الصحية من مقتضى الطهارة في الإسلام أن يكون مكان الشخص نظيفًا طاهرًا لئلا يتنجس ثوبه فطهارة البيوت - فضلاً عن كونها واجبة طبًّا - هي واجبة شرعًا. ومن أكثر الأسباب نشرًا للأمراض أن يدوس الإنسان في الطريق على ما يُلقى فيه من القاذورات، وميكروبات الأمراض، ثم يأتي إلى بيته ولا يخلع نعليه فإن ذلك مما ينشر في البيوت أكثر الأمراض كالدفثيريا، والسل، وكثيرًا من الحميات العفنة. فالواجب أن تكون أرض البيت، وفرشه، وحيطانه، وسقفه وكل ما حوى في غاية النظافة، بحيث لا تتلوث بشيء من النجاسات المذكورة آنفًا، وكذلك يجب أن تنظف من القمل، والبق، والبعوض (الناموس) ، والذباب والفئران، والبراغيث، وغير ذلك بأن تسد جميع شقوقها، ويتكرر تنظيفها خصوصًا بالجير أو نحوه، وتغسل أرضها، ويصب في مراحيضها شيء من البترول [٧] لقتل العلق (صغار الناموس) ، وبيضه. وينبغي أن تكون المساكن طلقة الهواء، ذات منافذ كثيرة معرضة لأشعة الشمس بعيدة عن الأماكن الرطبة، والأفضل أن تكون مراحيضها في الجهة الجنوبية بمصر - أو ما يقابل الجهة التي يكثر الهواء منها في كل بلد - وتكون حيطان هذه المراحيض مصقولة صقلاً جيدًا بحيث لا تنفذ المياه منها إلى أرض المنزل؛ فتملأه بالرطوبات، والروائح الكريهة، وتفسد هواءه، ويجب أن يكون لمثل هذه المراحيض منافذ كالمداخن تعلو فوق سطح المنزل من الجهة الجنوبية لتصريف الروائح الكريهة؛ فإذا اُتبعت جميع هذه الشروط، وكانت الشوارع متسعة كانت المساكن صحية. ومن الناس من يجمع المواد البرازية، وغيرها في أواني مخصوصة، ثم تحمل إلى خارج المدن، وذلك خير من تلويث أرضها بها، والأفضل من ذلك كله أن يعمل لها مجارٍ صقيلة (كقنوات مواسير) الحديد لتحمل هذه المواد إلى مستودع بعيد عن المدينة كلها بعدًا شاسعًا، وينبغي الانتباه إلى هذه المواسير جيدًا بحيث لا ينفذ منها شيء إلى ما يجاورها عادة من قنوات الماء. والسكنى في الأماكن الرطبة العفنة مضعفة للصحة بإفسادها الهواء، وإحداثها البرودة، ولإكثار الميكروبات فيصاب الشخص بالنزلات الشعبية، والرئوية، ونزلات الأنف، والحلق، والتهاب اللوزتين، بل الدفتيريا أيضًا، والروماتزم، وغير ذلك. والواجب أن تكون أفواه المراحيض حيث يتبرز الإنسان مسدودة بمثل المنجنيق أو السيفون [٨] Siphon المستعملين الآن. وماء السيفون يذيب الغازات، ويمنع أكثرها من الدخول في البيت، وكذلك يعوق خروج البعوض، والخنافس، والصراصير، والفئران، ويجب تجديد ماء السيفون مرارًا حتى في اليوم الواحد. وأعظم ضرر للنوع المسمى (ANOPHELES) من البعوض - الناموس- هو إحداث حمى النافض (الملاريا أو الحمى الأجمية) ومن الناموس ما ينقل أيضًا الحمى المالطية والجذام - كما سيأتي -. وأما أهم ضرر للجرذان (الفئران الضخمة) فهو أنها تصاب بالطاعون الذي ينتقل منها إلى الإنسان بواسطة بعض أنواع البراغيث. وأما البق فقد ينقل الطاعون، أو الجذام، وغيرهما. وأما الخنافس، والصراصير، والنمل فضررها الأكبر أنها تنقل القاذورات، والميكروبات من المراحيض، وغيرها إلى طعام الإنسان، وشرابه، وملبسه وفرشه، وكفى بذلك ضررًا عظيمًا. *** المطهرات علم مما سبق أن أصل جل الأمراض - إن لم نقل كلها - هو القاذورات بما فيها من الميكروبات [٩] ، وسمومها، فلذا تجب معرفة بعض الأشياء القاتلة لهذه الأحياء الدنيئة، وهي المسماة بالمطهرات. وأشهر هذه المطهرات وأكثرها استعمالاً ما يأتي: (١) الشمس فإن أشعتها تقتل الميكروبات. (٢) النار وهي أقوى المطهرات، وأسهلها، وتستعمل كثيرًا في غلي الأشياء الملوثة. ولما كان بعض بزور الميكروبات (حبيباتها) قد يقاوم درجة الغليان (أي درجة ١٠٠) لمدة ٥ أو ١٠ دقائق؛ فلذا يجب إطالة مدة الغلي فوق ذلك، فإذا أصيب شخص بمرض معد فللوقاية منه يجب غلي ملابسه، وفرشه، وجميع ما استعمله في مرضه كالأواني وغيرها، أما الأشياء التي لا يمكن غليها كقطن الفراش، ونحوه فهذه تطهر بوضعها في أفران مخصوصة يسلط عليها البخار في درجة الغليان مدة ساعة حتى ينفذ إلى باطن ما فيها من الأشياء. (٣) الحوامض كحامض الهيدروكلوريك والنيتريك (ماء النار) وهي كلها مطهرة تطهيرًا شديدًا؛ ولذلك جعل الله تعالى في عصير المعدة حامض الهيدروكلوريك - بنسبة ٢ في الألف - فإن من أعظم فوائده تطهير الطعام والشراب. (٤) الجير ويستعمل لطلاء الحيطان، والسقف، وغير ذلك، وإذا وُضع في سطول (جرادل) المواد البرازية نفع نفعًا عظيمًا، ويُستعمل لهذا الغرض بنسبة واحد، أو اثنين منه إلى عشرة من الماء. أما ماء الجير - وهو الذي يتحصل عليه بإذابة الجير في الماء المقطر حتى يتشبع به، ثم يصفى - فإنه مطهر، مانع للقيء والإسهال، مصلح لهضم اللبن في معدة الأطفال، مقوٍ لعظامهم، ويمكن مزجه باللبن بنسبة واحد إلى واحد أو واحد إلى اثنين من اللبن، ويمكن أيضًا شربه بدون مزج باللبن بمقدار أربع أواقي، وإذا مزج مع ماء الجير بزيت الزيتون، أو بزيت بزر الكتان بنسبة واحد إلى واحد من كل منهما كان دهانًا نافعًا في الحروق - كما سيأتي - (٥) الغول النقي (الكحول الخالص) مطهر عظيم يسهل الحصول عليه لغسل الأيدي كلما مست مريضًا. (٦) البوريك بنسبة ٤ في ١٠٠ مطهر لطيف للأعين - كما سبق -، وإذا وُضع في اللبن بنسبة واحد إلى ألف مثلاً حفظه من الفساد مدة؛ ولذلك يستعملونه في حفظ كثير من الأطعمة؛ ولكن استعماله لمدة طويلة قد يضر بالجسم وينقص وزنه. (٧) الفنيك يستعمل بنسبة واحد إلى عشرين لغسل الأيدي، وغيرها. (٨) الليزول - ولونه وقوامه كالعسل الأسود - يستعمل بنسبة واحد إلى المئة عادة. (٩) الإيزال - ولونه كالطحينة المضاف إليها شيء من الماء - يستعمل بنسبة واحد إلى مئتين، أو واحد إلى أربع مئة، ويستعمل في الإسهال بإضافة ١٥ نقطة منه على كل رطل مصري من اللبن؛ فإنه نافع فيه، وكذلك في الدوسنطاريا وهذه المواد الثلاثة الأخيرة تُستخرج من قطران الفحم الحجري. ومن المطهرات أيضًا السليماني (وهو مركب زئبقي يستعمل عادة بنسبة ١ إلى ٢٠٠٠) ، وأملاح النحاس (كالتوتيا الزرقاء) ، واليود، والغلسرين، وغير ذلك كثير، وكلها مطهرات عظيمة النفع. *** النظافة والعلاج كما أن النظافة عليها مدار حفظ الصحة هي أيضًا الأصل الأصيل لعلاج جميع الأمراض، والجروح، وسائر العوارض الجراحية؛ فإن علاج ذلك كله مبني على النظافة والتطهير، إذ يكفي لعلاج أي جرح، وعمل أي عملية جراحية أن يكون كل ما تستعمله مطهرًا طهارة تامة، حتى إذا بُقرت البطن بآلة طاهرة أمكن درء الموت عن المصاب بكل سهولة بالتزام النظافة، ويكفي في علاج جميع الإصابات والحروق ونحوها أن تُنظف نظافة تامة، ويتكرر ذلك يوميًّا حتى يبرأ الجرح، ويكفي في الغالب أيضًا لعلاج أي جرح أو سحج أن يُغسل بالماء المغلي، وأن يضمد بالقطن، والأربطة المطهرة - إما بالغلي أو بالبخار الساخن - بدون احتياج إلى أي دواء آخر. وفائدة تضميد الجروح، هي منع كل ما يوصل الميكروبات إلى الجرح كالأتربة، والذباب، والهواء، والأيدي، والماء غير المغلي، وبالضماد أيضًا يقف النزف بسبب الضغط على الجرح، وبه أيضًا تحصل راحة المكان المجروح من الحركة، وهذه الأشياء كلها هي أهم ما يطلبه الجرح من العلاج، وأسها كلها النظافة التامة. وخلاصة ما تقدم كله أن العاقل يجب عليه أن يكون نظيفًا في جسمه، وملبسه، وفراشه، ومسكنه، ومأكله، ومشربه، وفيما يعالج به أمراضه، وإصاباته. *** تذييل للفصول السابقة في الذباب ومضاره لا يخفى أن من عادة الذباب أن يجتمع على القاذورات، والنجاسات، ثم ينتقل منها إلى طعام الإنسان، أو يسقط في شرابه، أو يقف حول عينيه؛ وبذلك تنتقل جراثيم الأمراض إلى الإنسان، وتنتشر بين أفراد هذا النوع، ومن أمثلة ذلك وقوفه على أعين المصابين بالرمد الصديدي، ثم انتقاله إلى الأعين السليمة؛ فتصاب بهذا الرمد، ومن أسباب انتشار الحمى التيفودية بشكل وبائي وقوف الذباب على البراز مثلاً - إذا لم يدفن في الأرض دفنًا جيدًا - فيتلوث الذباب بميكروب التيفود، وبعد ذلك يقف على الخبز مثلاً، ومثل التيفود الهيضة (الكوليرا) والدوسنطاريا. ومن الذباب ما يلدغ بعض الحيوانات المصابة بالجمرة الخبيثة، ثم يأتي إلى الإنسان فيلقحه بها، ومنه ما ينقل بلدغه مرض النوم، وغيره من شخص لآخر، ويقال: إن البللغرا تنتقل أيضًا بلدغ بعض أنواعه - كما سبق - ومن المحقق أن حمى ثلاثة الأيام، وسبعة الأيام، والحمى البسيطة المستمرة في الهند كلها تنتقل بلدغه، وحمى ثلاثة الأيام تسمى أيضًا باباتتسي، وسميت بذلك من اسم الذباب الذي يحدثها (Phlebotomus pappatasii) ، وميكروب هذه الحميات وراء المجهر على ما يظهر. ومن مضار الذباب أيضًا أنه قد يضع بيضه في الجروح، أو في الآذان أو في تجاويف الأنف؛ فيفقس هذا البيض، ويخرج منه النغف (وهو ما يسمى الآن باليرقات ويشبه الدود) ، وهذه الديدان تأكل من جسم الإنسان، وتحدث فيه التهابًا شديدًا، وإذا أصابت جروحه آلمته إيلامًا شديدًا، ويحصل بسببها أيضًا التهاب الجرح وحمى، وتعوق برء الجرح مدة مديدة؛ حتى أن الجرح لا يشفى إلا إذا خلص منها، ومن أنواع هذه الديدان ما يأكل جثث الموتى. وقد قرر أطباء الإنكليز أن من أعظم أسباب انتشار الحمى التيفودية بين الجنود في حرب الترنسفال (من سنة ١٨٩٩ - ١٩٠٢) كان الذباب وساعده في ذلك الريح بنقل الأتربة الملوثة بالبراز إلى طعام الجنود. فلذا يجب إزالة جميع القاذورات من حول الإنسان، ودفن المواد البرازية ونحوها دفنًا جيدًا، أو إبادتها بأية طريقة، بحيث نأمن وقوف الذباب عليها وانتقاله إلينا، وأحسن الطرق حرق القاذورات، أو وضع الفنيك، أو الفورمالين عليها. وإذا وقف الذباب على الأعين وجب طرده في الحال، وإذا وقف على الطعام أو سقط في الشراب فالأسلم تطهيرهما بالنار، وكلما كثر الذباب وجب السعي في إبادته بقدر الإمكان، واعلم أن الذبابة الواحدة تضع نحو ٩٠٠ بيضة، وحياتها لا تتجاوز ثلاثة أسابيع. أما ما رواه البخاري عن أبي هريرة من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه كله، ثم ليطرحه؛ فإن في أحد جناحيه شفاء ، وفي الآخر داء) فهذا الحديث مشكل؛ إن كان سنده صحيحًا، فكم في الصحيحين من أحاديث اتضح لعلماء الحديث غلط الرواة فيها كحديث (خلق الله التربة يوم السبت) مثلاً وغيره مما ذكره المححقون، وكم فيهما من أحاديث لم يأخذ بها الأئمة في مذاهبهم، فليس ورود هذا الحديث في البخاري دليلاً قاطعًا على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله بلفظه مع منافاته للعلم، وعدم إمكان تأويله، على أن مضمونه يناقض حديث أبي هريرة وميمونة وهو أن النبي سئل عن الفأرة تقع في السمن فقال: (إن كان جامدًا فاطرحوها وما حولها وكلوا الباقي، وإن كان ذائبًا فأريقوه، أو لا تقربوه) فالذي يقول ذلك لا يبيح أكل الشيء إذا وقع فيه الذباب؛ فإن ضرر كل من الذباب والفئران عظيم، على أن حديث الذباب هذا رواه أبو هريرة، وفي حديثه وتحديثه مقال بين الصحابة أنفسهم خصوصًا فيما انفرد به، كما يعلم ذلك من سيرته [١٠] وغاية ما تقتضيه صحة السند في أحاديث الآحاد الظن، فلا قطع بأن هذا الحديث من كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يروون الحديث بالمعنى فيجوز أن يكون لفظ الراوي لم يؤد المعني المراد، والله أعلم. وهب أن الرسول قال ذلك حقيقة فمن المعلوم أن المسلم لا يجب عليه الأخذ بكلام الأنبياء في المسائل الدنيوية المحضة التي ليست من التشريع، بل الواجب عليه أن يمحصها، ويعرضها على العلم والتجربة؛ فإن اتضح له صحتها أخذ بها والأعلم أنها مما قاله الأنبياء - عليهم السلام - بحسب رأيهم، وهم يجوز عليهم الخطأ في مثل ذلك وقد حقق هذه المسألة القاضي عياض في كتابه الشفاء فليراجعه من شاء، ومما رواه فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: (إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب) [*] . *** الحرق الحرق يحصل عادة إما بالنار، أو بالسوائل المغلية، وهو خطر جدًّا على الحياة، وخطره يختلف بحسب اتساعه، وعمقه، ومكانه، وعمر المصاب، فإذا أصاب الشخص حرق بسيط، وعم جسمه كان خطرًا على الحياة خصوصًا في زمن الصغر، وحروق الرأس، والصدر، والبطن هي أشد الحروق خطرًا، الغالب أن الحروق النارية أشد أذى بالجسم من حروق المياه المغلية؛ لأن المياه تبرد بسرعة وتسيل من على الجسم، أما السوائل التي كالزيت أو المعادن المصهورة فلالتصاقها بالجسم تفتك به فتكًا ذريعًا، ويتميز الحرق الناري عن الحرق المائي بأن الأول يحترق فيه الشعر والملابس بخلاف الثاني. وللحرق أعراض موضعية وأعارض عمومية أما الأعراض الموضعية فتنقسم إلى ست درجات: (١) احمرار الجلد بدون إتلافه، والاحمرار يحصل بسبب كثرة ورود الدم إليه. (٢) تكوُّن الفقاقيع بالجلد، وذلك بانسكاب بعض السوائل من أوعية الدم تحت الطبقات العليا للبشرة، وعند شفاء مثل هذه الدرجة تتولد طبقات جديدة للبشرة من الطبقات التي تحتها، وقد يتلون الجلد بلون يخالف المعتاد. (٣) احتراق البشرة كلها، وبعض الأدمة، وهو أشد الحروق ألمًا. (٤) احتراق الأدمة مع البشرة كليهما، وعند شفاء مثل هذا الحرق يحصل انكماش شديد في الجلد مكان الحرق. (٥) احتراق الجلد كله مع بعض الأنسجة التي تحته حتى العضلات (٦) احتراق العضو كله وصيرورته فحمًا. وقد شوهد أن بعض النساء السمينات المدمنات شرب الخمور يحترقن بسرعة عجيبة، بحيث يتعذر إطفاؤهن ولو بالماء إلى أن يحترق الجسم كله تقريبًا، ويحصل هذا الاحتراق عند وجود أقل سبب له كالاقتراب من فتيلة مشتعلة حتى ظن بعض الأطباء أنه يحصل بلا نار مطلقًا، ويسمونه (الاحتراق الذاتي) . وأما أعراض الحرق العامة فهي ثلاث درجات: (١) الصدمة العصبية: فيصاب الشخص ببرودة شديدة، وذهول حتى إنه قد لا يشعر بشيء من الألم، وتضعف ضربات قلبه ونبضه، وقد يقع في الغيبوبة ويموت. (٢) رد الفعل والالتهاب: وذلك يحصل بعد مضي يوم أو يومين، فترتفع حرارة الشخص، وتصيبه الحمى، ويقوى نبضه ويسرع، وقد يحصل له التهاب في الأحشاء كالتهاب الرئتين، أو البريتون، أو سحايا المخ، وفي هذه الدرجة قد يصاب أيضًا بقرحة ثاقبة للاثني عشري. (٣) تكوُّن الصديد: وهو إذا طال، وكان المكان متسعًا أدى إلى الاضمحلال فالموت. *** المعالجة يُطفأ المحروق أولاً بأن يلف جسمه في الحال بشيء سميك ليمنع وصول الهواء إليه؛ فتطفأ النار، والأحسن أن يُبل هذا الشيء الذي يُلف به، ويشترط أن لا يلف الوجه بشيء خوفًا من الاختناق، وإن لم يوجد شيء يتلفف به يُمَرَّغ الشخص على الأرض، وإن وجدت قطعة لا تكفي إلا لجزء من الجسم فينبغي التلفف بها مع التمرغ. وبعد إطفاء النار يجب الاحتراس التام من أن يمس جسم المحروق أي شيء غير مطهر، ثم تُبَطّ الفقاعات إن وجدت، ويصفى السائل منها، ولكن الأحسن ترك البشرة بدون إزالتها فإنها تكون كالوقاية للجسم، ثم يدهن الجسم كله بزيت بعد غليه وتبريده، أو يستعمل مروخ الجير الذي تقدم ذكره. وهناك عدة طرق لتضميد الحروق تُذْكَر في فن الجراحة، ومن أحسنها استعمال حامض البكريك (وهو مادة متبلورة صفراء اللون مركبة من الفنيك مع حامض النيتريك) يذاب في الماء بنسبة ٥ إلى ١٠٠٠ أي يكون الماء مشبعًا به، ثم يدفأ ويغمس فيه الموصلي (الشاش) ، أو قماش آخر يسمى لنت Lint، ويلف به المحروق، ويوضع فوق ذلك ورق زيتي، أو حِبَرة زيتية فقطن، ويترك هذا الضماد نحو ٣ أو ٤ أيام، ثم يجدد ويترك لمدة أسبوع، وفائدة حامض البكريك هذا هي أنه مطهر مجفف للحرق مسكن للألم، وذلك هو كل ما نبغي. ولعلاج حالة المصاب العمومية في الطور الأول (طور الهبوط والرجة العصبية) يجب استعمال المنعشات، فيُلَف الشخص بالملابس والأغطية السميكة حتى يدفأ، وتوضع زجاجات الماء الساخن حول رجليه وجنبيه، ويُعطى له مثل القهوة أو الشاي الساخنين أو بعض الخمور - إذا لم يوجد ما يغني المسلم عنها - ويُمنع عن الأغذية ما عدا اللبن وغيره من السوائل كالمراق، ولا بأس من إعطائه جزءًا من الأفيون - قدر قمحة أو قمحتين - إن كان الألم شديدًا، ويجب بعد ذلك أن يتولى باقي علاجه الطبيب حتى يشفى أو يموت. وأسباب الوفاة في الحرق عند حدوثه مباشرة متنوعة منها الاختناق بالدخان والغازات، أو الفزع الشديد، أو الرجة العصبية بسبب ألم الحرق. ((يتبع بمقال تالٍ))