يقظة بعض المسلمين. حال الباقين. تفصيل ما ظهر للمستيقظين. من شقي ومن سعد. الاتباع والإبداع. الفرق بين الماضي والحاضر. آيات تحصيل العلوم. إنما أوقع المسلمين في الشقاء رؤساء الدين والدنيا. طريق الخلاص. اتباع سنة الراشدين في الدين وسنة الأمم العزيزة في الدنيا. استعداد المسلمين لهذا الإصلاح. الاجتهاد والتقليد. الحاجة إلى وضع حدود للإصلاح. من تصدى لذلك. استلفات للعلماء. نحمد الله أن ليل الإسلام قد عسعس، وصبحه قد تنفس، وطفق أهله يهبّون من رقادهم، ويمسحون النوم عن أعينهم، ولما يستيقظ إلا نفر قليل. وأما الباقون فمنهم من هو مستغرق في سباته يغط مما ثقل عليه النوم، وما أطال نومه هذا إلا تلك الأوزار والأوقار التي حملها من البدع والتقاليد، والأثقال والأحمال التي ناءت به من الظلم الشديد، ومنهم من وقع عليه الكابوس فمنعه من القيام. فلا هو في يقظة ولا في منام. ماذا فعل المستيقظون؟ رأوا الناس في طور جديد، {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} (هود: ١٠٥) ، فالسعيد قد غلب وساد، وحكم العباد، واستولى على ثروة البلاد، وأما الشقي فهوالذي رضي وخضع، وذل وخنع، وقلّدَ واتبع. رأوا أن هذا الزمن زمن الاجتهاد والاختراع، والإحكام والإبداع، وتغيير الأوضاع، إلا ما لا يمكن تغييره، ولا يتأتى تحويله من شريعة محكمة توافق كل زمان، وسنة كونية لا يحكم عليها الأوان. رأوا مدنية هذا العصر مخالفة لمدنية العصور الخوالي، رأوا أنه لا يمكنهم أن يكونوا فيه على عادات أجدادهم الأوالي، رأوا أن السيوف الهندية، والرماح الخطية، لا تقابل المدفع والبندقية، والنسافات الديناميتية، رأوا أن العزة والقوة بالعلم والمال. وأن العلوم بالأعمال، لا بالقيل والقال، وكثرة الجدال، وإنما آية العلوم اللغوية بلاغة القلم واللسان، والقدرة على إيصال المعاني للأذهان، والتأثير بإصابة مواقع الوجدان، وآية العلوم الكونية الثروة الواسعة للأمة، والسلطة النافذة للدولة، فالثروة بالزراعة والتجارة والصناعة، والسلطة بالحكومة الشوروية، والعدل في الرعية، وآية العلوم الدينية تطهير العقول من الاعتقاد الباطل، وتزكية النفوس من الرذائل، والوقوف على جادة الاعتدال، في كل عمل من الأعمال. رأوا كل هذا وما يتبعه ويحتف به , وعلموا بالمشاهدة والعيان أن جميع المنتسبين للإسلام أمسوا وراء الأمم كلها. وعلموا أن هذا التأخر لم يكن ناشئًا عن تقصير الطبقات الدنيا مع الأمة لأن زمامها لم يكن في أيديهم. وإنما الشقاء والبلاء كله من قادة العقول والأفكار، والمتصرفين في النفوس والأرواح، وهم العلماء والمرشدون. ومن قواد الجيوش والعساكر، والمتصرفين في الدنانير والدراهم، وهم الملوك والحاكمون، وعلموا كما يعلم كل من نظر في هاتين المقدمتين البديهيتَيْنِ - تأخُّرِ الأمة الإسلامية وكون السبب في ذلك الرؤساء - أن صلاح هذه الأمة وانتياشها من هذا الشقاء لا يمكن إلا بمعرفة الفساد الذي طرأ على أولئك الرؤساء منذ تولدت جراثيم الخلل والضعف في الأمة إلى اليوم , وتلافي ذلك والتَّفصي من عُقُله والانطلاق من قيوده والسير في طريق جديد يوافق ما عليه سلف الأمة أيام الخلفاء الراشدين من حيث الدين , وما عليه الأمم العزيزة القوية من حيث الدنيا , ورمي كل ما عدا هذا وراء الظهر وعدم الالتفات إليه وإن لوّن بلون الدين وأوهم أنه منه , وعدم الالتفات إلى قائليه ومروّجيه وإن كان لهم من الألقاب الضخمة ما يختلب عقول العوام، ويوهم الغافل أن مخالفتهم جناية على الإسلام. هذه النتيجة موضع اتفاق بين الباحثين في إصلاح المسلمين ولكنهم في العلم بها على درجات. وجميع المتعلمين على الطريقة الجديدة والواقفين على أحوال البشر مستعدون لموافقتهم في رأيهم فكلما صدرت من واحد منهم كلمة؛ تنتشر بين هذا الصنف من الناس بسرعة غريبة حتى كأن القائل ألقاها إليهم بالأسلاك الكهربائية وكأن كل رجل من ناقلها سارية من سواري السلك البرقي. ولا يعبئون بإنكار الغافلين عن أحوال العصر والجاهلين بعلم الاجتماع من أصحاب العمائم إذا أنكروها لأنهم يعتقدون أنهم ما أنكروها إلا لأنها تمس أرزاقهم التي يتناولونها باسم الدين وتخفض شيئًا من جاههم العلمي العتيق الذي لا يطابق ما كان عليه الصدر الأول من سلامة اللغة وبساطة الدين وسهولته ولا ما يقتضيه العصر من تعزيز الإسلام وإعلاء كلمته. أرأيت ما قاله أحمد بك شوقي شاعر الحضرة الخديوية الفخيمة في نصيحته لولي عهد الحكومة المصرية بالأَخذ بالدين: وخذه من الكتاب وما يليه ... ولا تأخذه من شفتي فقيه نشر هذا القول في المؤيد أعم الجرائد العربية انتشارًا وطبع في ديوان (الشوقيات) وترنم به الناس وقبلوه حتى لم نسمع أن أحدًا أنكره لا قولاً ولا كتابة مع أنه كلام شبيه بالرسمي , والمخاطب به من أعظم أمراء الإسلام بل سمعنا من قال: إن هذا خير ما قاله شوقي وأنفعه. هذا ما عليه السواد الأعظم من متعلمي المسلمين وخواصهم في العرب والعجم إما حصولاً وإما قبولاً ومن عداهم من الخواص كالمتعلمين على الطريقة العتيقة يحتجون عليهم بأن هذا يقتضي فتح باب الاجتهاد وهو مسدود من مئين من السنين ونحو هذا الكلام الذي لا يقبله أولئك لأنهم يرونه تقليدًا للمقلدين. والمقلد لا يصح تقليده كما أن المجتهد لا يقلد مجتهدًا بالإجماع. يقولون: من سدّ باب الاجتهاد وهل هو مجتهد أم مقلد؟ فإن كان مجتهدًا فمن هو؟ وكيف اجتهد هو ومنع غيره من الاجتهاد؟ وإن كان مقلدًا فكيف تعدى على مقام الاجتهاد وتحكم في أهله؟ وكيف يصح لنا أن نأخذ بقوله هذا وهو مقلد لا قول له؟ وللآخرين أجوبة سنشرحها في مقالة أخرى ونبين رأينا فيها ونقول الآن بالإجمال: لا يريد عاقل من الباحثين في الإصلاح الإسلامي أن يكون الناس في الدين فوضى يذهب كل واحد إلى ما يزين له هواه ولا يريد أحد منهم أيضًا أن يبقى المسلمون مقيدين بكتب الخلف من الفقهاء وغيرهم لأن هذا رضى بما عليه المسلمون لا سعي بإصلاح حالهم. لا بد من وضع قواعد وحدود للإصلاح الديني تتبع عملاً , وقد كتبنا شيئًا من هذا في السنة الأولى للمنار وسنعيد الكلام فيه. ونقلنا في الجزء الماضي عن حضرة زميلنا محبوب عالم أفندي أن إخواننا مسلمي الهند سبقونا إلى هذا الإصلاح بالعمل , ولم نزل نحن في طور الفكر وقد كتب بعض الفضلاء منا نبذًا متفرقة لم يتحرر بها الموضوع تحريرًا. وقد نشرت رفيقتنا (ثمرات الفنون) الشهية عشر قواعد لأحد العلماء الأفاضل سدّد فيها وقارب ولكنه لم يجلّ الغيابة ويبصّر الغاية , فانبرى له بعض أهل الجمود والخمود يردّ عليه ويحتم على المسلمين أن لا يخرجوا أرجلهم من المقاطر التي وضعها العلماء المتأخرون على ما فيها من الخلاف والنزاع والإبهام والإيهام والخرافات والضلالات , ولقد عجب كل من رأيناه من الفضلاء الذين اطلعوا على الثمرات كيف نشرت هذه الجريدة النافعة هذا الردّ المعسلط الذي لا نظام له. ونحتم القول باستلفات علمائنا الكرام إلى العناية بالوقوف على أفكار الأمة وأمانيها لا سيما المتعلمين والكتاب , وأن يجعلوا من أوقات فراغهم الطويلة جزءًا للبحث فيما عليه الأمة ونسبتها لسائر الأمم والمذاكرة في ذلك ليبصروا مجرى الأفكار أين يتوجه فيكونوا على بصيرة من محافظتهم على طريقتهم التي هم عليها أو من السعي في السير على طريقة أخرى تكون أنفع لهم وللأمة وبالله التوفيق.