الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وخاتم النبيين، محمد وآله وصحبه الهادين المهديين. (وبعد) فإني أقدم هذا الكتاب الصغير في حجمه، الكبير في معناه، إلى الأمة العربية في لغتها الشريفة التي لها فضل كبير علي وعلى العالمين، وقد خصصت مجلة (المنار) الغراء بنشر هذه الترجمة لما لها من الأيادي البيضاء في الإصلاح الاجتماعي والديني، وما لصاحبها من المنة الكبيرة علي بتثقيفي وتربيتي، إذ أنا تلميذه ومريده، وتشرفت بالمثول بين يديه سنين عديدة. ترجمت الكتاب إلى العربية بعد أن استأذنت مصنفه مهاتما غاندي [١] فاستحسن فكرتي، وأذن لي , بل ألح علي بذلك قائلاً: (إني أحب العرب وأحترمهم، وأنتظر منهم أعمالاً عظيمة لخير الشرق والإنسانية، وأرغب في عرض أفكاري عليهم) . فقلت له: (ولكن العرب فطروا على عيشة تصدهم أن يأخذوا ببعض أفكارك التي بسطتها في الكتاب، بل ربما يستهزئون بها) . فقال: (لا عجب إن فعلوا ذلك , إني لا أنتظر من جميع الناس أن يقبلوا كل ما أقول , وظيفتي أن أقول، لا أن أكره الناس على اتباعي) . ألف مهاتما غاندي كتابه هذا وهو ليس بطبيب، وترجمته أنا ولست بطبيب. أراد غاندي بتأليفه أن يخدم الناس بما جربه بنفسه من قواعد الصحة , وأردت أنا بترجمته أن أخدم الناطقين بالضاد بما قرأته , ولم أجربه بنفسي قط. فغرضي من هذه الترجمة ليس دعوة الناس إلى العمل بكل ما جاء في هذا الكتاب، لأني لا أجزم بصحة كل ما جاء فيه , بل إنما غرضي الإخبار بما قاله في مسألة الصحة هذا الزعيم السياسي والمصلح الاجتماعي والقائد الديني في القارة الهندية، والذي يحسب كثير من الأوربيين والأمريكان - وفيهم عدد من القسيسين أنه مسيح جديد، جاء ليجدد تعاليم المسيح القديم! وأقواله مهما تبدو غريبة، وأفكاره مهما تظهر شاذة، تستحق الاعتبار والتأمل على كل حال. إن من سوء حظ الشرق أنه لم يفقد استقلاله السياسي فحسب؛ بل قد فقد استقلاله الفكري أيضًا، ولذلك تراه يقلد الغرب في كل شيء، حتى إنه أصبح لا يتفكر في نفسه، ولا يقيم للأشياء وزنًا ولا يميز بين الحق والباطل، بل لا يزال نظره إلى الغرب فإن رآه يقول لشيء إنه حق، قال هذا أيضًا: إنه حق وبالعكس. وأنا لا أكره الغرب ولا أنكر فضله في العلم والمدنية , ولا أحرم الاقتباس والاستفادة منه، ولكن الذي أقبحه وأشئمز منه هو الاستعباد الفكري للغرب، لأن هذا الاستعباد إذا تمكن من نفوسنا لن نسترد حريتنا السياسية المغصوبة، ولن نجدد أسس قوميتنا المتهدمة. أقول هذا لأني أخشى أن ينبذ فريق من القراء هذا الكتاب قبل أن يطلع عليه لا لأنه يستحق النبذ، بل لأنه جاء من مصدر شرقي بحت، فيحسبه سخافة شرقية , فلذلك أرجو من هو على هذه الشاكلة أن يتمهل في الحكم عليه ليقرأه بإمعان، فإن لم يعجبه فليرمه إن شاء. وإني تطمينًا لهؤلاء أقول: إن هذه الآراء ليست خاصة بغاندي وحده، بل هناك في أوربا وأمريكا أيضًا ثورة كبيرة على الطب وأساليبه وأدويته , بل إن تقدم العلوم قد أخذ يهدم أركان هذا الطب الذي نسميه (الحديث) ويسمونه هنالك (القديم) . إن مهاتما غاندي - وإن لم يكن طبيبًا - مهتم بمسألة الصحة اهتمامًا كبيرًا، ذلك دأبه من نعومة أظفاره , وكتب ما كتب بعد أن جربه بنفسه على نفسه سنين طويلة، وهو لا يزال متمسكًا بكل ما قاله , وعاملاً به بكل دقة وشدة. يعلم اهتمام غاندي بمسألة الصحة من كتاباته , وخطبه الكثيرة فيها , وقد صرح مرارًا بأنه لو لم يقدر له أن يكون سياسيًّا ومصلحًا اجتماعيًّا، لكان كناسًا في بلدته، ينظف المراحيض , ويزيل القاذورات من البيوت، ليعيش الناس بالصحة والعافية! وقد سمعت ممن شهد المؤتمر الوطني سنة ١٩٢١ في بلدة أحمد آباد مقر غاندي - ولم أستطع الاشتراك فيه لأني كنت يومئذ مسجونًا - أن مهاتما غاندي كان ينظف المباول وبيوت الخلاء بنفسه ومعه تلاميذ مدرسته , مع أنا نعلم أن هذا المؤتمر كان عظيمًا جدًّا اجتمع فيه أكثر من نصف مليون نفس. وقد يتعجب الذين بهرتهم المدنية الغربية، وغرتهم أبهة الزعامة الوطنية، كيف يقوم هذا الزعيم الجليل بهذا العمل القذر؟ هؤلاء يتعجبون لأنهم لم يعرفوا هذه الشخصية العجيبة النادرة: شخصية مهاتما غاندي. إن هذا الرجل - وإن ظهر ونبغ في القرن العشرين - يضرب لأبناء هذا العصر في نفسه مثل بوذا وكونفوشيوس وغيرهما من المصلحين وقادة البشر في العصور الغابرة الذين أسسوا دعوتهم على مكارم الأخلاق وحب الإنسانية والعيشة الساذجة والروحانية النقية , والثقة التامة بذات الله العلي الكبير والتوكل عليه. إن هذا الزعيم كذلك يدعو الناس إلى المعيشة الفطرية الساذجة ونبذ البذخ والترف، وإلى التخلق بالأخلاق الفاضلة، والمحبة الشاملة العامة، والتمسك بجميع ما في الأديان من الخير والتقوى وخشية الله والرأفة بالبشر. ليت شعري كيف كان يكون عجب المغترين بالمدنية الغربية إذا رأوا هذا الزعيم الهندي بأعينهم؟ إنهم ليرونه عاريًا، حافيًا، حاسرًا قد تجرد من الملابس قائلاً: (لا يصلح لي أن أتجمل بالملابس , والملايين الكثيرة من بني جلدتي لا يجدون ما يسترون به عوراتهم ويقون به أجسادهم من الحر والبرد) فتراه الآن متجردًا ليس على جسده لباس , اللهم إلا إزار صغير يستر به عورته! وكذلك شأنه في مأكله: لا يأكل الملح ولا اللحم ولا العدس ولا الحبوب ما عدا خبز القمح نادرًا , وقد حصر غذاءه في الفواكه , وهو يكثر من أكل البرتقال والموز , ويفضلهما على غيرهما من الفواكه. وقد أخبرني عن سبب تركه الملح فقال: مرضت زوجتي في إفريقية الجنوبية (وكان يشتغل هنالك بالمحاماة) مرضًا شديدًا فداويتها أولاً بنفسي فلم ينفعها شيء فراجعت أحد الأطباء , وأدخلتها في مستشفاه الخصوصي فأمرها أن تترك أكل الملح والعدس , فغضبت من نصحه , وأبت امتثاله فغضب الطبيب أيضًا، وكان حديد المزاج قاسيًا فدعاني في نصف الليل , وقال: إن زوجتك عصت أمري، فأنا لا أعالجها بل لا أسمح لها بالبقاء عندي دقيقة واحدة، فاذهب بها حيث تشاء حالاً بدون أدنى تأخير! قال مهاتما غاندي: فتحيرت في أمري , ورجوت الطبيب أن يسمح لها بالبقاء إلى الصباح , ولكنه أبى ذلك , وأصر على أمره، فاضطررت أن أخرج زوجي في تلك الساعة من الليل البهيم البارد , وأحملها على ظهري مسافة ١٥ ميلاً حيث كان مقامي! فلما وصلت بها إلى البيت، قلت لها: بئس ما فعلت , إنك لا تشفين إلا باتباع نصح الطبيب , يجب أن تتركي أكل العدس والملح , وإلا تموتين , فقالت: إن الامتناع عن العدس سهل، ولكن الملح لا أستطيع تركه , وإن مت بسببه، ولو كنت أنت في مكاني لما وسعك تركه! فقلت: تقولين ذلك! فها أنا ذا أترك الملح سنة كاملة مختارًا! فلما سمعت ذلك أخذت تبكي وتعتذر من قولها. ولكني هدأت روعها , وقلت لها: لا بأس عليك , لم أقل ذلك لأني غضبت من قولك، بل إنما أفعل ذلك لتتشجعي أنت في مكانك فيسهل عليك ترك الملح. قال: (فلما مضت السنة , ورأيت فوائد ترك الملح، ما عدت إليه إلى الآن) أما صحته - فجسمه نحيف جدًّا، لا يجاوز ثقله أكثر من ١٠٤ أرطال (Pound) ولكنه يرى نفسه أصح الناس جسدًا , ويقول: إن الرطوبات والشحم الزائد والفضلات التي لا احتياج إليها قد خرجت من جسمي , وأصبحت قويًّا بكل معنى الكلمة. وكلامه هذا ليس جزافًا لأنه يقوم بأعمال قد يعجز عنها الرجال الأشداء , فهو يحرر ثلاث جرائد أسبوعية , وهي تصدر في أوقاتها المعينة بدون أن يحدث فيها أي خلل , ونحن نعلم أنه يشتغل بالأشغال العقلية ١٦ ساعة كل يوم , ومع ذلك لا يشعر بالتعب. وكذلك نراه من سنين كثيرة في السفر، لا يستقر في مكان، يدور من بلد إلى بلد، يخطب مرات عديدة في يوم واحد , ويقابل ألوفًا من الناس. وأكبر دليل على قوته أنه صام أربعين يومًا متتابعة لم يذق فيها أي شيء , ومع ذلك لا أغمي عليه ولا أحس بضعف، بل ما زال يكتب لجرائده المقالات , ويغزل كل يوم من القطن المقدار الذي قرره لنفسه , ومن أعجب ما رأيناه أنه بينما كان ثقله قد قل كثيرًا في الأسبوع الأول من الصوم حتى خافوا على نفسه، أخذ يزداد وزنًا بعد ذلك , وقد تحير الأطباء في تعليل ذلك! ثم إنه فوق ذلك قد ملك زمام نفسه، فيعيش كما قرر لنفسه أن يعيش فلا ينام إلا القدر الذي قرر أن ينام، ويقوم بجميع أعماله بنظام تام، بدون أن يطرأ عليه أي خلل. ثم إنه لا يغضب أبدًا , ولا يستعجل ولا يفزع، بل يبقى دائمًا هادئًا مطمئنًا كأنه مالك نفسه , سخرها؛ فأصبحت له أطوع من بنانه. ومن عجيب أمره أنه يعيش مع زوجته , ولكنه يحسبها كأخته أو أمه كما أشار في هذا الكتاب، وكما صرح في إحدى خطبه هذه الأيام فقال: (أنا وزوجتي قد اتفقنا على أن نعيش كالأخ والأخت , أو كالابن والأب , أو البنت والأم , فأنا لها كأب وهي لي كأم) . وكلامه هذا لا يرتاب فيه , لأن عيشته مفتوحة , وليست بسر , وهو لا يكذب أبدًا مهما اضطرته الأحوال. فيعلم من كل هذا أن صاحب هذا الكتاب، وإن لم يكن طبيبًا قد عرف أسرار الصحة وجربها في نفسه فأصبح رجلاً غير عادي في صحته الجسدية وصحته العقلية , وقد قدم في نفسه نموذجًا للرجل الصحيح تمام الصحة , وأودع تلك الأسرار في هذا الكتيب ليجربها الآخرون فإن وجدوها خيرًا؛ تمسكوا بها , وإلا ضربوا بها عرض الحائط. هذا ما أردت أن أقوله للقراء قبل أن يطلعوا على الصفحات الآتية. إلا أنه بقي علي أن أشكر صديقي ورفيقي في الدرس حضرة الأستاذ الشيخ عبد العزيز العتيقي من أهل نجد الذي ساعدني في تقويم عبارة الترجمة , فأشكره شكرًا جزيلاً , وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يأخذ بيده ويمهد له السبيل لخدمة شعبه، الذي كنت أعهده متفانيًا في حبه. والحمد لله أولاً وآخرًا؛ ... ... ... ... ... ... ... ... عبد الرازق المليح آبادي (المنار) لما عرض علينا ولدنا الروحي الفاضل الخادم لملته وأمته الإسلامية ترجمته لهذا الكتاب النفيس؛ استحسناه , وقبلنا أن ننشره في أجزاء المنار ليستفيد منه قراؤه الاهتمام بصحة أجسادهم وسلامة أرواحهم , فهو يَفْضُل جميع ما ألفه الأطباء أنه يعنى بالأمرين معًا، ولعمري إن حاجة البشر إلى صحة أرواحهم أشد كما أن تفريطهم فيها أعم، ولنا على قول المترجم إن المؤلف غير طبيب أن الطب الصحيح ما صدقته التجارب , وكان مستنبطًا منها , وهو صادق في خبره عن تجاربه إلا أنه لا بد من تكرار التجربة، وأن يراعى فيها اختلاف الأحوال والأمزجة، وكذلك صفات الأنفس وقواها فإن المؤلف ذو إرادة قوية هي الركن الأعظم لعظمته التي ساد فيها قومه , وأصبح زعيمهم الأكبر في دينهم ودنياهم باستحقاق , وهي مع الذكاء والبصيرة ركن لصحته الجسدية أيضًا. ومثله في استقلال عقله وكبر همته وعقائد ملته لا يخلو من شذوذ ذاتي , ومخالفة دينية لكثير من الناس. وقد علقنا في حواشي الكتاب على أهم ما شذ به في نظرنا , وإننا نشكر له بلسان أمتنا الإسلامية عنايته بالتأليف بين مسلمي الهند وهندوسها وفاقًا لرأينا ونشكر له أيضًا ثناءه على أمتنا العربية وحسن أمله فيها , وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل) .