دين الله على ألسنة رسله واحد , وما الإسلام إلا إصلاح وتكميل للشريعة الموسوية الشديدة الوطأة , الخاصة بشعب واحد في تاريخ خاص، وتكميل للآداب المسيحية الشديدة المبالغة في الفضيلة , لما كان عليه الروم واليهود من المبالغة في الطمع والشهوات، فأجدر بأهل الكتاب إذا عرفوا الإسلام حق المعرفة بمعاملته إياهم بالعدل والحرية والألفة، أن يعرفوا بفهمهم له أنه هو دين أنبيائهم الذي نسوا حظًّا منه وحرّفوا شيئًا منه، وأن الله تعالى أكمله لهم بحسب سنته تعالى في الترقي الإنساني كما بشّروهم به. ففي الإنجيل أن المسيح عليه السلام صرح بأنه لا يستطيع أن يقول لهم كل شيء لعدم استعدادهم وعدم حرية حكومتهم، ولكن سيأتي بعده روح الحق الذي يقول لهم كل شيء؛ أي: لظهوره في أمة حرة ولإعداد الله الأمم كلها لاستقلال الفكر. وكذلك فعل غير المتعصبين الموثقين بالتقليد، وقد آمن بهذه المعاملة ألوف الألوف من المستقلين الذين قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: ١٥٧) الآية , ولو أن المسلمين يدعون إليه في شعوب الإفرنج دعوة صحيحة تؤيدها أفعالهم وأخلاقهم - لدخل الناس فيه أفواجًا لشدة الحاجة إلى الدين المعقول الذي يتفق مع العمران في هذا العصر , بعد ظهور مفاسد التعاليم المادية، ولقوة استقلال أفكار تلك الشعوب الغربية. ولو أعطي مشركو العرب هذه الحرية , وعوملوا هذه المعاملة؛ لبقيت عبادة الأصنام سائدة في جزيرة العرب كلها، وفي مكة نفسها. ونتيجة ما شرحناه أن التسوية بين المشركين وأهل الكتاب باطلة لا تصح بحال، ويترتب عليه أن ما ورد في المشركين من النصوص لا يجري على أهل الكتاب بذلك النص بل يحتاج إجراؤه عليهم إلى دليل آخر. وما نقل مخالفًا لهذا التحقيق من بعض الآثار أو أقوال العلماء؛ فهو إما خاص بأناس بأعيانهم، أو تساهل في إطلاق الخاص على العام فيما يرى المطلق له أن الحكم في العام والخاص واحد، وقد يكون مخطئًا في ذلك وقد يكون مصيبًا. *** حكم الزوجية مع اختلاف الدار والدين بقي ادعاء المنتقد أن آية الممتحنة {فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ} (الممتحنة: ١٠) نص أصولي في المسألة , وهي قد نزلت عقب صلح الحديبية في النساء المؤمنات اللاتي هاجرن من بلاد الشرك إلى دار الإسلام والهجرة , وطلبهن أزواجهن، نهى الله تعالى عن إرجاعهن إلى الكفار في دار الشرك , عملاً بما اشترطوه في الصلح من إرجاع من يجيء النبي صلى الله عليه وسلم منهم مسلمًا. تخصيصًا لعموم الشرط بجعله للرجال المحاربين، وسورة الممتحنة نزلت بعد سورة البقرة التي حرمت المؤمنات على المشركين , فهي في واقعة معينة مع المشركين سبق فيها نص قطعي , فبنيت عليه. فالمراد بالكفار فيها المشركون بدليل نزولها في واقعة معهم , وسبق بيان حكم الله تعالى في تحريم مناكحتهم , بعد أن كانت مباحة قبل نزول التحريم في المدينة. والأصل في وقائع الأعيان أنها لا عموم لها , فإن تسامحنا وقلنا بجواز عمومها، فلا يمكن أن نقول: إنه نص أصولي قطعي , والاحتمال قائم وقد صرح المفسرون بنزولها في المشركين خاصة , وهو مروي عن مجاهد كما في صحيح البخاري , وقد اختلف الفقهاء في الموجب لفرقة المرأة من زوجها في مثل هذه الحالة , هل هو إسلامها أو هجرتها؟ فقال أبو حنيفة ومن وافقه: هو اختلاف الدارين؛ إذ لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يفرق بين المرأة التي تسلم وبين زوجها المشرك في الدار الواحدة كمكة , وقد أطال الإمام الجصاص الحنفي في ترجيح هذا القول في تفسير الآية من كتابه (أحكام القرآن) , وقال الجمهور: إن الموجب لذلك الإيمان، قال ابن العربي بعد ذكر هذا الحكم في كتابه أحكام القرآن: (المسألة التاسعة) {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (الممتحنة: ١٠) يعني إذا أسلمن وانقضت عدتهن , لما ثبت من تحريم نكاح المشركة والمعتدة , فعاد جواز النكاح إلى حالة الإيمان ضرورة. (المسألة العاشرة) قوله: {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} (الممتحنة: ١٠) هذا بيان لامتناع نكاح المشركة من جملة الكوافر , وهو تفسيره والمراد به. قال أهل التفسير: أمر الله تعالى من كان له زوجة مشركة أن يطلقها , وقد كان الكفار يتزوجون المسلمات والمسلمون يتزوجون الكافرات , ثم نسخ الله ذلك في هذه الآية وغيرها اهـ المراد منه. فهذا المفسر المحقق القائل بأن علة التحريم إيمان المرأة يقول: إن الآية خاصة بنكاح المشركة من جملة الكوافر , ومثله قول البيضاوي في تفسير {وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} (الممتحنة: ١٠) قال: (والمراد نهي المؤمنين عن المقام على نكاح المشركات) والأول أصرح في التخصيص , وكل منهما يؤيد قولنا: إن كلمة الكفار والكوافر لا عموم لها هنا , وإنما هي خاصة بأهل الشرك من الكفار. فإن ساغ لنا أن نرد هذا القول فلا يمكن أن نعلل الرد بأن العموم فيها نص أصولي لا يحتمل غير هذا المعنى , ويؤيد هذا ما أقره المنتقد من الروايات في الاستدلال على تحريم المسلمة على الكتابي بالسنة , فكانت حجة عليه لا له وهي: (١) ما رواه البخاري عن ابن عمر من تحريم النصرانية وتعليله بأنها مشركة , وقد تقدم أنه أثر شاذ مخالف لإجماع الصحابة ونص آية المائدة، وقد صرح بهذا القسطلاني وغيره من شراح البخاري , وذكروا في رده أيضًا أن بعض السلف قالوا: إن المراد بالمشركات في آية البقرة عبدة الأوثان , وقول من قال من العلماء: إن الذين قالوا من اليهود والنصارى: العزير ابن الله والمسيح ابن الله طائفتان منهما لا كلهم. فهل يدخل عند المنتقد في مفهوم السنة رأي شاذ لصحابي أجمع السلف والخلف من أهل السنة على رفضه وغلطه في تأوله الآية له؟ ؟ (٢) ما رواه البخاري في باب: (نكاح من أسلم من المشركات وعدتهن) عن ابن عباس قال: كان المشركون على منزلتين من رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين - كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه.. (قال المنتقد) : فلم يذكر ابن عباس قسمًا ثالثًا للمشركين فدل على أن أهل الكتاب منهم. ونقول: إن ابن عباس لم يذكر قسمًا ثالثًا؛ لأن أهل الكتاب ليسوا من صنف المشركين وإلا لجعلهم ثلاثة أقسام , الثالث: أهل الذمة الذين أقرهم صلى الله عليه وسلم على دينهم , وعقد بينه وبين من يجاوره منهم اتفاقًا معروفًا في كتب الحديث والسير , فليراجعه في الهدي النبوي؛ ليعلم الفرق بين معاملته لهم ومعاملته للمشركين. (٣) ما ذكره البخاري عن ابن عباس تعليقًا لا مسندًا , كما توهم المنتقد في (باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي أو الحربي) وهو حجة عليه بعطف النصرانية على المشركة , فإن العطف يقتضي المغايرة. وأما المسألة أو المسائل التي أورد البخاري هذه الآثار فيها فهي ما تقدم آنفًا في الكلام على آية الممتحنة من الخلاف في المسلمة إذا هاجرت من دار الحرب إلى دار الإسلام , هل ينقطع نكاحها إذا كانت متزوجة حالاً أو بعد انقضاء العدة , أو يستمر إلى ما بعد ذلك بحيث إذا أسلم زوجها وهاجر تحل له بالنكاح الأول؟ وهل الانقطاع باختلاف دار الحرب أم باختلاف الدين؟ ويتبعها ما هو أعم منها وهو الحكم في إسلام المرأة قبل زوجها ولو في دار الإسلام. ومذهب البخاري في هذا الباب موافق لما نقله عن عطاء ومجاهد من كون انقطاع النكاح باختلاف الدين , وهو قد نقل في هذا الباب عن مجاهد , أن آية الممتحنة نزلت في العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم ومشركي مكة. ولم ينقل المنتقد هذه الجملة عنه (! !) , ومن أهم ما ورد في السنة في أصل المسألة ما رواه أحمد وأبو داود والحاكم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول بعد سنتين , وفي رواية ست سنين من إسلامها , ولم يحدث عقدًا جديدًا ولا صداقًا - قيل: إن رواية ست سنين هي ما بين إسلامها وإسلامه , ورواية سنتين ما بين نزول آية التحريم وإسلامه، ويحتمل أن يكون مرادهم بآية التحريم آية البقرة , وهي لا تنافي قول أهل السير: إنه أسلم قبل صلح الحديبية. والتحقيق في حكم المسألة - كما قال ابن القيم - أن الكافرة إذا أسلمت وبقي زوجها كافرًا , يكون نكاحها موقوفًا إلى انقضاء العدة , فإن انقضت العدة ولم يسلم كان لها أن تتزوج , فإن أحبت انتظاره وأسلم بعد انقضائها كانت زوجته بالعقد الأول. وأما ما ذكر في هذه الآثار من تحريم المسلمة على الكتابي فليس من نصوص الكتاب ولا من نصوص السنة، فهو ليس من موضوع انتقاده علينا؛ إذ لسنا نحل المسلمة للكتابي، ولو كان إثبات تحريمها عليه مقصورًا على هذه الآثار لكان في غاية الضعف. *** أدلة تحريم المسلمة على الكتابي قلنا في تفسيرنا لقوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنّ} (البقرة: ٢٢١) ما نصه: وأما الكتابيات فقد جاء في سورة المائدة أنهن حل لنا , وسكت هناك عن تزويج الكتابي بالمسلمة وقالوا - ورضيه الأستاذ الإمام -: إنه على أصل المنع وأيدوه بالسنة والإجماع. ولكن قد يقال: إن الأصل الإباحة في الجميع , فجاء النص بتحريم المشركين والمشركات تغليظًا لأمر الشرك، وبحل الكتابيات تألفًا لأهل الكتاب ليروا حسن معاملتنا وسهولة شريعتنا، وهذا إنما يظهر بالتزوج منهم؛ لأن الرجل هو صاحب الولاية والسلطة على المرأة , فإذا هو أحسن معاملتها كان ذلك دليلاً على أن ما هو عليه من الدين يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وأما تزويجهم بالمؤمنات فلا تظهر فيه هذه الفائدة؛ لأن المرأة أسيرة الرجل ولا سيما في ملل ليس للنساء فيها من الحقوق مثل ما أعطاهن الإسلام , فقد يصح أن يكون هذا هو المراد من النصين في السورتين. وإذا قامت بعد ذلك أدلة - من السنة أو الإجماع أو من التعليل الآتي لمنع مناكحة أهل الشرك - على تحريم تزويج الكتابي بالمسلمة؛ فلها حكمها، لا عملاً بالأصل أو نص الكتاب , بل عملاً بهذه الأدلة اهـ (ص ٣٥٥ ج٢ تفسير) . ونقول الآن: أما كونه غير عمل بالأصل، فلأن المسلمين كانوا يتزوجون بالمشركات قبل نزول الآية، وأما كونه غير عمل بالنص، فالمراد به القطعي وهو موضع الخلاف , وقد بينا وجهه ودفعنا الشبهات عنه , وأما التعليل الذي قلنا إنه يؤيد السنة والإجماع في تحريم المسلمة على الكتابي فهو قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (البقرة: ٢٢١) وقد بينا في تفسير الآية أنه يتحقق في تزوج الكتابي بالمسلمة دون تزوج المسلم بالكتابية، فراجعه في محله (ص٣٥٩ منه) . ويجوز أن يستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلا} (النساء: ١٤١) وهو ليس نصًّا قطعيًّا في المسألة لا ظاهرًا فيها , ولكنه دليل صحيح يثبت الحكم مع عدم معارضته بنص أقوى منه. وإذا كان المنتقد لا يرضيه من الأدلة على حظر تزويج المسلمة للكتابي السنة المتبعة وإجماع الأمة , والقياس الجلي المأخوذ من العلة المنصوصة في القرآن، وإن شئت قلت: وفحوى القرآن وبعض الظواهر العامة. بل يطلب عليه نصًّا أصوليًّا لا يحتمل التأويل , فهذا التزام لم يلتزمه أحد من السلف ولا من الخلف في شيء من أحكام الدين العملية , فهذه هيئة الصلاة التي هي عماد الدين , لم ترد في نصوص القرآن القطعية ولا غير القطعية , فأين النص فيه على أن الصلوات خمس: واحدة منها ركعتان , وواحدة ثلاث ركعات , والبواقي رباعيات؟ وأين النص فيه على توحيد الركوع وتثنية السجود؟ وإنما ثبتت هذه الأركان بالسنة والإجماع. والفقهاء متفقون على أن أحكام الفروع تثبت بالأدلة الظنية , ومرادهم بالفروع ما يتعلق بالعمل من عبادات ومعاملات لا ما فهمه المنتقد. وقد زاد هذا الرد على ما قدرنا فعسى أن يكون مقنًعا له , ووفقنا الله تعالى وإياه لاتباع الحق في كل حال.