تتمة المقال الرابع لذلك الإمام الحكيم (الجواب) أقول هذا كلام فيه شِيَة من الحق، ولمعة من الصدق، أما ما نسمعة حولنا من سَجن مَن قال بقول السلف فليس الحامل عليه التمسك بالدين فإنَّ حملة العمائم إنما حركهم الحسد لا الغَيْرة. وأما صدور الأمر بالسجن فهو من مقتضيات السياسة والخوف من خروج فكر واحد من حبس التقليد فتنتشر عدواه فينتبه غافل آخر ويتبعه ثالث، ثم ربما تسري العدوى من الدين إلى غير الدين - إلى آخر ما يكون من حرّية الفكر يعوذون بالله منها. فإن شئت أن تقول: إن السياسة تضطهد الفكر أو الدين أو العلم فإنا معك من الشاهدين. أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يُلفظ من كلمة السياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن كل شخص يتكلم أو يتعلم أو يُجَنُّ أو يعقل في السياسة، ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس، يدلك على أن العقوبة سياسة أن الرجل كان يقول بقول السلف من أهل الدين. لا تقل: إن هذه السياسة من الدين، فإني أُشْهِدُ الله ورسله وملائكته وسلفنا أجمعين، أن هذه السياسة من أبعد الأمور عن الدين، كأنها الشجرة التي تخرج في أصل الجحيم، {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ، فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ، ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ، ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإَلَى الْجَحِيمِ، إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالَّينَ، فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} (الصافات: ٦٥ - ٧٠) . * * * (جمود المسلمين وأسبابه) وأما ما وصفت بعد ذلك من الجمود فهو مما لا يصح أن ينسب إلى الإسلام وقد رأيت صورة الإسلام في صفائها ونصوع بياضها ليس فيها ما يصح أن يكون أصلاً يرجع إليه شيء مما ذكرت ولا مما تنبأ بسوء عاقبته (رينان) وغيره. وإنما هي علة عرضت على المسلمين عندما دخل على قلوبهم عقائد أخرى ساكنت عقيدة الإسلام في أفئدتهم. وكان السبب في تمكنها من نفوسهم وإطفائها لنور الإسلام من عقولهم هو السياسة، كذلك هو تلك الشجرة الملعونة في القرآن عبادة الهوى واتباع خُطُوات الشيطان هو السياسة. لم أرَ كالإسلام دينًا حفظ أصله، وخلط فيه أهله، ولا مثله سلطانًا تفرق عنه جنده، وخُفِر عهده، وكُفِر وعيده ووعده؛ وخَفِيَِ على الغافلين قصده، وإن وضح للناظرين رشده، أكل الزمان أهله الأولين، وأدال منهم خُشَارة من الآخرين، لا هم فهموه فأقاموه، ولا هم رحموه فتركوه، سواسية من الناس اتصلوا به، ووصلوا نسبهم بسببه، وقالوا نحن أهله وعشيرته، وحماته وعصبته، وهم ليسوا منه في شيء إلا كما يكون الجهل من العلم، والطيش من الحلم، وأفَنُ الرأي من صحة الحكم. انظر كيف صارت مزية من مزايا الإسلام سببًا فيما صار إليه أهله. كان الإسلام دينًا عربيٍّا ثم لحقه العلم فصار علمًا عربيٍّا بعد أن كان يونانيًّا، ثم أخطأ خليفة في السياسة فاتخذ من سعة الإسلام سبيلاً إلى ما كان يظنه خيرًا له. ظن أن الجيش العربي قد يكون عونًا لخليفة علوي؛ لأن العلويين كانوا ألصق ببيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فأراد أن يتخذ له جيشًا أجنبيًّا من الترك والديلم وغيرهم من الأمم التي ظن أنه يستعبدها بسلطانه، ويصطنعها بإحسانه، فلا تساعد الخارج عليه ولا تعين طالب مكانه من الملك. وفي سعة أحكام الإسلام وسهولته ما يبيح له ذلك. هنالك استعجم الإسلام وانقلب عجميًّا. خليفة عباسي أراد أن يصنع لنفسه ولخلفه وبئس ما صنع بأمته ودينه: أكثَرَ من ذلك الجند الأجنبي وأقام عليه الرؤساء منه، فلم تكن إلا عشية أو ضحاها حتى تغلب رؤساء الجند على الخلفاء واستبدوا بالسلطان دونهم وصارت الدولة في قبضتهم ولم يكن لهم ذلك العقل الذي يرضاه الإسلام والقلب الذي هذبه الدين. بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل يحملون ألوية الظلم. لبسوا الإسلام على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم، وكثير منهم كان يحمل إلهه معه يعبده في خلوته، ويصلي مع الجماعات لتمكين سلطته، ثم عدا على الإسلام آخرون كالتتار وغيرهم. ومنهم من تولى أمره، أيّ عدو لهؤلاء أشد من العلم الذي يعرّف الناس منزلتهم ويكشف لهم قبح سيرهم؟ فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم. أما العلم فلم يحفلوا بأهله، وقبضوا عنه يد المعونة وحملوا كثيرًا من أعوانهم أن يندرجوا في سلك العلماء وأن يتسربلوا بسرابيله ليُعدُّوا من قبيلة، ثم يضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه. ودخُلوا عليهم وهم أَغرار من باب التقوى وحماية الدين. زعموا الدين ناقصًا ليكملوه، أو مريضًا ليعلِِّلوه، أو متداعيًا ليدعموه؛ أو يكاد أن ينفضّ ليقيموه. نظروا إلى ما كانوا عليه من فخفخة الوثنية، وفي عادات من كان حولهم من الأمم النصرانية، فاستعاروا من ذلك للإسلام ما هو بَرَاءٌ منه لكنهم نجحوا في إقناع العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره، والغوغاء عون الغاشم، وهم يد الظالم، فخلقوا لنا هذه الاحتفالات وتلك الاجتماعات، وَسَنّوا لنا من عبادة الأولياء والعلماء والمتشبهين بهم ما فرق الجماعة وأركس الناس في الضلالة، وقرروا أن المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم، وجعلوا ذلك عقيدة حتى يقف الفكر وتجمد العقول. ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأنه لا نظر لهم في الشئون العامة، وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة فهو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعينه، وأن ما يظهر من فساد الأعمال واختلال الأحوال، ليس من صنع الحكام وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان. وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل، وأن الأسلم تفويض ذلك لله، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه. ووجدوا في ظواهر الألفاظ لبعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك وفي الموضوعات والضعاف ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام. وقد انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضلين وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف، واتخذوا من عقيدة القدر مثبطًا للعزائم وغلاًّ للأيدي عن العمل. والعامل الأقوى في حمل النفوس على قبول هذه الخرافات إنما هو السذاجة وضعف البصيرة في الدين وموافقة الهوى. أمور إذا اجتمعت أهلكت؛ فاستتر الحق تحت ظلام الباطل ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يضارب أصول دينهم ويباينها على خط مستقيم كما يقال. هذه السياسة سياسة الظلمة وأهل الأثرة هي التي روجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه وسلبت من المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السماوات، وأخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات، فجلُّ ما تراه الآن مما تسميه إسلامًا فهو ليس بإسلام وإنما حفظ من أعمال الإسلام صورة الصلاة والصوم والحج وقليل من الأقوال التي حرفت عن معانيها. ووصل الناس بما عرض على دينهم من البدع والخرافات إلى الجمود الذي ذكرته وعدوه دينا. نعوذ بالله منهم ومما يفترون على الله ودينه. فكل ما يعاب الآن على المسلمين ليس من الإسلام وإنما هو شيء آخر سموه إسلامًا. والقرآن شاهد صادق {لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: ٤٢) يشهد بأنهم كاذبون، وأَنهم عنه لاهون، وعما جاء به معرضون، وسنوفي لك الكلام في مفاسد هذا الجمود نثبت أنه علة لا بد أن تزول. * * * (مفاسد هذا الجمود ونتائجه) طال أمد هذا الجمود لاستمرار عمل العاملين في المحافظة عليه، وولوع شهواتهم بالدفاع عنه، وقد حدثت عنه مفاسد يطول بيانها وإنما يحسن إجمال القول فيها. كان الدين هو الذي ينطلق بالعقل في سعة العلم ويسيح به في الأرض ويصعد به إلى أطباق السماء ليقف به على أثر من آثار الله أو يكشف به سرًّا من أسراره في خليقته، أو يستنبط حكمًا من أحكام شريعته، فكانت جميع الفنون مسارح للعقول تقتطف من ثمارها ما تشاء وتبلغ من التَّمَتُّع بها ما تريد، فلما وقف الدين، وقعد طلاب اليقين، وقف العلم وسكنت ريحه، ولم يكن ذلك دفعة واحدة ولكنه سار سير التدريج. إفساد الجمود للغة: أول جناية لهذا الجمود كانت على اللغة العربية وأساليبها وآدابها فإن القوم كانوا يُعنون بها لحاجة دينهم إليها - أريد حاجتهم في فهم كتابهم إلى معرفة دقائق أساليبها - وما تشير إليه هيئة تركيبها، وكانوا يجدون أنهم لن يبلغوا ذلك حتى يكونوا عربًا بملكاتهم، يساوون من كانوا عربًا بسلائقهم، فلما لم يبق للمتأخر إلا الأخذ بما قال المتقدم قصر المحصلون تحصيلهم على فهم كلام مَنْ قبلهم واكتفوا بأخذ حكم الله منه بدون أن يرجعوا إلى دليله، ولو نظروا في الدليل فرأوه غير دالّ له بل دالاًّ لخصمه بأن كان عرض له في فهمه ما يعرض للبشر الذين لم يقرر الدين عصمتهم لَخَطَّأُُوا نظرهم وأعموا أبصارهم وقالوا: نعوذ بالله أن تذهب عقولنا إلى غيب ما ذهب إليه متقدمنا وأرغموا عقلهم على الوقفة فيصيبه الشلل من تلك الناحية. فأي حاجة له بعد ذلك إلى اللغة العربية نفسها وقد يكفيه منها ما يفهم به أسلوب كلام المتقدم وهو ليس من أولئك العرب الذين كان ينظر الأولون في كلامهم. وهكذا كل متأخر يقصر فهمه على النظر في كلام من يليه هو غير مبال بسلفه الأول، بل ولا بما كان يحفّ بالقول من أحوال الزمان فهو لا ينظر إلا اللفظ وما يعطيه فتسقط منزلته في تحصيل اللغة بمقدار بعده عن أهلها حتى وصل حال الناس إلى ما نراهم عليه اليوم. جعلوا دروس اللغة لفهم عبارة بعض المؤلفين في النحو وفنون البلاغة - وإن لم يصلوا منها إلى غاية في فهم ما وراءها - فَدَرَسَتْ علوم الأولين وبادت صناعاتهم، بل فقدت كتب السلف الأولين رضي الله عنهم، وأصبح الباحث عن كتاب المدونة لمالك - رحمه الله تعالى - أو كتاب الأم للشافعي - رحمه الله تعالى - أو بعض كتب الأمهات في فقه الحنفية كطالب المصحف في بيت الزنديق. تجد جزءًا من الكتاب في قُطْر، وجزءه الآخر في قُطْر آخر فإذا اجتمعت لك أجزاء الكتاب وجدت ما عرض عليها من مسخ النساخ حائلاً بينك وبين الاستفادة منها. هذا كله من أثر الجمود وسوء الظن بالله وتوهم أن أبواب فضل الله قد أغلقت في وجوه المتأخرين، ليرفع بذلك منازل المتقدمين، وعدم الاعتبار بما ورد في الأخبار من أن المبلَّغ ربما كان أوعى من السامع [١] وأن هذه الأمة كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره [٢] وقلة الالتفات إلى أن ذلك قد أضاع آثار المتقدمين أنفسهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. لا ريب أن القارئ يحيط بمقدار ضرر هذه الجناية على اللغة ثم يكفيه من ذلك أنه إذا تكلم بلغته لغة دينه وكتابه وقومه لا يجد من يفهم ما يقول، وأي ضرر أعظم من عجز القائل عن أن يصل بمعناه إلى العقول. إفساد النظام والاجتماع: وأعظم من هذه الجناية جناية التفريق وتمزيق نظام الأمة وإيقاعها فيما وقع فيه من سبقها من الاختلاف وتفرق المذاهب والشيع في الدين. كان اختلاف السلف في الفُتْيَا يرجع إلى اختلاف أفهام الأفراد، والكل يرجع إلى أصل واحد لا يختلفون فيه وهو كتاب الله وما صح من السنة فلا مذهب ولا شيعة ولا عصبية. ولو عرف بعضهم صحة ما يقول الآخر لأسرع إلى موافقته كما صرح به جميعهم. ثم جاء أنصار الجمود فقالوا: يولد مولود في بيت رجل من مذهب إمام فلا يجوز له أن ينتقل من مذهب أبيه إلى مذهب إمام آخر. وإذا سألتهم قالوا: (وكلهم من رسول الله ملتمس) ولكنه قول باللسان، لا أصل له في الجنان، ثم كانت حروب جدال بين أئمة كل مذهب لو صرفت آلاتها وقواها في تبيين أصول الدين ونشر آدابه وعقائده الصحيحة بين العامة لَكُنَّا اليوم في شأن غير ما نحن فيه. يجد المطَّلع على كتب المختلفين من مطاعن بعضهم في بعض ما لا يسمح به أصل من أصول الدين الذي ينتسبون إليه. يضلل بعضهم بعضًا ويرمي بعضهم بعضًا بالبعد عن الدين وما المطعون فيه بأبعد عن الدين من الطاعن ولكنه الجمود، قد يؤدي إلى الجحود. كان الاختلاف في العقائد على نحو الاختلاف في الفُتْيَا تخالف أشخاص في النظر والرأي. وكان كل فريق يأخذ عن الآخر ولا يبالي بمخالفته له في رأيه. مسجدهم واحد وإمامهم واحد وخطيبهم واحد. فلما جاء دور الجمود - دور السياسة - أخذ المتخالفون في التنطع، وأخذت الصلات تتقطع، وامتازت فِرَقٌ وتألفت شيع. كل ذلك على خلاف ما يدعو إليه الدين. وقد بذل قوم وسعهم في تمييز الفرق تمييزًا حقيقيًّا فما استطاعوا وإنما هو تمييز وهميّ، وخلف في أكثر المسائل لفظي، وإنما هي الشهوات وضرب السياسات أشعلت نيران الحرب بين المنتسبين إلى تلك الشيع حتى آل الأمر إلى هذه الفُرقة التي يظن الناظر فيها أنها لا دواء لها. قال قائل من عدة سنين: إنه ينبغي أن يعين القضاة في مصر من أهل المذاهب الأربعة؛ لأن أصول هذه المذاهب متقاربة وعبارات كتبها مما يسهل على الناظر فيها أن يفهمها. وقال: إن الضرورة قاضية بأن يؤخذ في الأحكام ببعض أقوال من مذهب مالك أو مذهب الشافعي تيسيرًا على الناس ودفعًا للضرر والفساد. فقام كثير من المتورعين يحوقلون ويندبون حظ الدين، كأن الطالب يطلب شيئًا ليس من الدين، مع أنه لم يطلب إلا الدين، ولم يأت إلا بما يوافق الدين، وبما كان عليه العمل في أقطار العالم إلى ما قبل عدة سنين. فأين قول هؤلاء (وكلهم من رسول الله ملتمس) ؟ لكن هو جمود المتأخر على رأي من سبقه مباشرة وقصر نظره عليه دون التطلع إلى ما وراءه، أو هي السياسة تحلّ ما تشاء، وتحرم ما تشاء وتصحح ما تشاء، وتبطل ما تشاء، والناس منقادون إليها بأزمة الأهواء. جناية الجمود على الشريعة: هذا الجمود في أحكام الشريعة جرّ إلى عسر حمل الناس على إهمالها. كانت الشريعة الإسلامية أيام كان الإسلام إسلامًا سمحة تسع العالم بأسره وهي اليوم تضيق عن أهلها حتى يضطروا إلى أن يتناولوا غيرها وأن يلتمسوا حماية حقوقهم فيما لا يرتقي إليها. وأصبح الأتقياء من حملتها يتخاصمون إلى سواها. صعب تناول الشريعة على الناس حتى رضوا بجهلها عجزًا عن الوصول إلى علمها فلا ترى العارف بها من الناس إلا قليلاً لا يعدّ شيئًا إذا نسب إلى من لا يعرفها. وهل يتصوَّر من جاهل بشريعة أن يعمل بأحكامها؟ فوقع أغلب العامة في مخالفة شريعتهم بل سقط احترامها من أنفسهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يطبقوا أعمالهم على مقتضى نصوصها. وأول مانع لهم ضيق الطاقة عن فهمها لصعوبة العبارات وكثرة الاختلاف. سألت يومًا أحد المدرسين في بعض المذاهب: هل تبيع وتشتري وتصرف النقود على مقتضى ما تجد في كتب مذهبك؟ فأجاب أن تلك الأحكام قلما تخطر بباله عند المعاملة بالفعل وإنما يفعل ما يفعل الناس. هكذا فعل الجمود بأهله ولو أرادوا أن تكون للشريعة حياة تحيي بها الناس لفعلوا ولسهل عليهم وعلى الناس أن يكونوا بها أحياء. تعلم ما وصل إليه الناس من فساد الأخلاق والانحراف عن الشريعة. لو سألت عن سببه في القرى وصغار المدن لوجدته أحد أمرين: إما فقد العارف بالشريعة والدين، وسقوط القرية أو المدينة في جاهلية جهلاء يرجع بعض أهلها إلى بعض في معرفة الحلال والحرام وليس المسئول بأعلم من السائل والكل جاهلون. وإما عجز العارف عن تفهيم من يسأله لاعتقال لسانه عن حسن التعبير بطريقة تفهمها العامة وعلى المتكلم إفهامها. وذلك للحرج الذي وضع فيه نفسه فلا يستطيع التصرف فيما يسمع ولا فيما يعلم. فإذا قلت للعارف تعلّمْ من وسائل التعبير ما يقدرك على مخاطبة الطبقات المختلفة من الناس حتى تنفع بعلمك واعلُ بنفسك إلى أن تفهم الغرض من قول إمامك فتجد لأصله انطباقًا على هذه الحادثة مثلاً وإن لم يأت ذكرها بنفسها في قوله أو قول من جاء بعده من أتباعه. قال: سبحان الله: هل فعل ذلك أحد من المشايخ؟ يرى أن لا يأتي شيئًا إلا ما أتى به شيخه الذي أخذ عنه يدًا بيد ولو أبعد بنظره لوجد قدماء المشايخ قد فعلوه وبالغوا فيه حتى خالفوا من أخذوا عنه في بعض رأيه. ثم إذا حاججته في ذلك لم يبعد من رأيه أن يعدك زنديقًا وأنك تدعوه إلى الخروج من دينه ولا يدري المسكين أنه بذلك يخالف نصوص دينه، وأنه يتهيأ للخروج منه نعوذ بالله تعالى. كان كلام بيني وبين أحد المدرسين في أخذ الطلبة بالنصيحة وتذكيرهم بفضائل الأخلاق وصالح الأعمال خصوصًا عند إلقاء الدروس الفقهية ودروس الحديث والتوحيد. فقال لي: إنه لا فائدة في ذلك قطعًا وهو تعب في غير طائل. فقلت له: ذلك حق عليك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وليس عليك أن يأتمر المأمور ولا أن ينتهي المنهيّ. فقال: إذا تحققت استحالة المنفعة كان الأمر والنهي لغوًا. فانظر كيف اعتقد استحالة الانتفاع بنصحه لبلوغ الفساد من النفوس غايته كما يزعم. ولم ينظر في الوسيلة لاقتلاع هذا الفساد مع أن الدين يدعوه إلى ذلك وهو يعمل كل يوم عمله لتعليم من لا سبيل إلى إصلاحه. هذا كله لأنه لم ير نفسه أهلاً لأن يتخذ وسيلة لم يتخذها من أخذ عنه، أو لم يرشده إليها من تعلم هو بين يديه ولم يتذكر عند ذلك شيئًا من الأوامر الإلهية التي وردت في النصيحة والتآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، وأن اليأس من روح الله إنما يكون من القوم الكافرين أو الضالين. لا بل إذا قلت له: إن هذا الضرب من ضروب التعليم عقيم لا ينتج المطلوب منه، أو إن هذا الكتاب الذي تعوّد الطلاب قراءته قد يضر بقارئيه وغيرُه أفضل منه. كاد يظن أن قولك هذا مخالفٌ للدين ورأى العدول عمّا تعوّده نوعًا من الإخلال بالدين. وقد يقيم عليك حربًا يعتقد نفسه فيها مجاهدًا في سبيل الله إذا قلت له: إن دروس السلف كانت تقريرًا للمسائل وإملاءً للحقائق على الطلاب ولم يكن لأحد منهم كتاب يأخذه بيده ويقرئه تلامذته ولم يكن بأيدي الطلبة إلا الأقلام والقراطيس يكتبون ما يسمعونه من أفواه أساتذتهم. وقد يعترف لك بصحة ما تقول ولكنه يستمر في عمله اعتمادًا على أنه وجد الناس هكذا يعملون. فهل يخطر ببال عاقل أن هذا الجمود من الدين؟ وهل يرتاب من له أدنى إدراك في سوء عقباه على الدين وأهل الدين؟ جناية الجمود على العقيدة: ذلك جمودهم في العمل وأشد ضررًا منه الجمود في العقيدة. نسوا ما جاء في الكتاب وأيدته السنة من أن الإيمان يعتمد اليقين ولا يجوز الأخذ فيه بالظن، وأن العقل هو ينبوع اليقين في الإيمان بالله وعلمه وقدرته والتصديق بالرسالة، وأن النقل ينبوع له فيما بعد ذلك من علم الغيب كأحوال الآخرة وفروض العبادات وهيآتها، وأن العقل إن لم يستقل وحده في إدراك ما لا بد فيه من النقل فهو مستقل لا محالة في الاعتقاد بوجود الله وبأنه يجوز أن يرسل الرسل فتأتينا عنه بالمنقول. نسوا ذلك كله وقالوا: لا بد من اتباع مذهب خاص في العقيدة وافترقوا فِرقًا وتمزقوا شيعًا كما قلنا، ولم يكفهم الإلزام باتباع مذهب خاص في نفس المعتقد بل ذهب بعضهم إلى أنه لا بد من الأخذ بدلائل خاصة للوصول إلى ذلك المعتقد فيكون التقليد في الدليل كالتقليد في المدلول. وكأنهم لذلك جعلوا النقل عمادًا لكل اعتقاد ويا ليته النقل عن المعصوم بل النقل ولو عن غير المعروف، فتقررت لديهم قاعدة أن عقيدة كذا صحيحة؛ لأن كتاب كذا للمصنف فلان يقول ذلك. ولما كانت الكتب قد تختلف أقوالها صار من الصعب أن يجد الواحد منهم لنفسه عقيدة قارة صافية غير كدرة ولا متزعزعة. وقد سرى ذلك من قراء المقلدين إلى أمييهم فتراهم يعتقدون بكل ما يقال وينقل عن معروف الاسم وإن لم يكن في حق الأمر من أهل العلم وتتناقض عقائدهم على حسب تناقض مسموعاتهم. انجرَّ التساهل في الاعتماد على النقل إلى الخروج عما اختطه لنا السلف - رضي الله عنهم - فقد كانوا ينقبون عن صفات من ينقلون عنه ويمتحنون قوله حتى يكونوا على شبه اليقين من أنه موضع الثقة. ولكن جمود المتأخر على ما يصل إليه من المتقدم صير النقل فوضى فتجد كل شخص يأخذ عمن عرفه وظن أنه أهل للأخذ عنه بدون بحث ولا تنقيب حتى شاع بين الناس من الأقوال وموضوعات الأحاديث ما ترتفع الأصوات بالشكاية منه من حين إلى حين. وكل ما نراه من البدع المتجددة فمنشأه سوء الاعتقاد الذي نشأ من رداءة التقليد والجمود عند حد ما قال الولي بدون بحث في دليله ولا تحقيق في معرفة حاله وإهمال العقل في العقائد على خلاف ما يدعو إليه الكتاب المبين والسنة الطاهرة. دخلت على الناس لذلك عقائد يحتاج صاحب الغيرة على الدين في اقتلاعها من أنفسهم إلى عناء طويل وجهاد شديد، وسلاحه الكتاب وسلاح أعدائه أقوال بعض من تقدم ممن يعرف ومن لا يعرف. وما أكثر عدد من ينصر أعداءه اليوم، وما أقلهم غدًا إن شاء الله. سأل سائل الأستاذ شيخ الجامع الأزهر عن حكم عمل من الأعمال الجارية في المساجد يوم الجمعة - ومنزلة الشيخ من الرياسة في أهل العلم بالدين منزلته - فأفتى بما ينطبق على السنة وما يعرفه العارفون بالدين، وقال: إن العمل بدعة من البدع يجب التنزه عنها. أتظن أن المستفتي أمكنه العمل بمقتضى الفتيا؟ كلا. حدث قيل وقال وكثرة تسآل، ودخلت السياسة ثم قيل: إن الزمان ناصر الحقيقة وقد وجدنا الأمر كذلك من قبلنا وسكت السائل وماذا يصنع المجيب. نعم هذا من شؤم ذلك الجمود فقد فصل بين العامة ومن يرجى فيهم تقويم ما اعوجّ منها ووكلها إلى أناس منها لا علم لهم بالدين ولا بالأدب وقد غرسوا في أذهان الدهماء شر الغرس ولا تجني الأمم منه إلا أخبث الثمر. فلو قام العالم بالدين وأراد أن يبيّن حكم الله المصرح به في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم المجمع عليه عند السلف قاطبة انتصب له ناعر من العامة يصيح في وجهه {مَّا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} (المؤمنون: ٢٤) ويريد من آبائه الأولين من رآهم بعد ولادته أو ذكرت له أسماؤهم بلسان مضلّيِه حتى صار إرشاد العامة اليوم من أصعب الأمور وأشقها على طالبه. ماذا يمكن أن أقول؟ أصبح الرجل يرتكب في وسائل العبادة أقبح المنكرات في الدين وإذا دعي إلى ترك المنكر نفر وزمجر، وأبى واستكبر، انظر ماذا يصنع الموسوسون ومن يقرب منهم في الاستبراء من البول على مرأى من المارَّة وفيهم النساء والأطفال وهم يظنون أنهم يتقربون إلى الله بما يفعلون. هذا هو شأن العامة يرون ما ليس بدين دينًا ويصعب على حفاظ الدين إرشادهم بفضل جمودهم على ما ورثوا من ملقنيهم بدون تعقل. فهذا معظم الأمة تراه قد تملص من أيدي منذريه ولو شاءوا لأقبل كل منهم على صاحبه وهو أيسر شيء على حمله الشريعة وما هو إلا أن يرجعوا إلى ما كان النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من سعة الدين وسماحته، ثم العمل على حفظه وحياطته. * * * (الجمود ومتعلمو المدارس النظامية) ثم إن الجمود قد أحدث لنا فريقًا آخر وهو فريق المتعلمين على الطرق الجديدة، إما في مدارس الحكومات الإسلامية وإما في المدارس الأجنبية داخل بلادهن أو خارجا عنها. لا أتكلم عن هذا الفريق في بلاد القرم أو القوقاس أو سمرقند وبخارى أو الهند فإني لا أعرف كثيرًا من أحوالهم، ومن رأيته منهم رأيت فيه خيرًا وأرجو أن يكون منهم لقومهم ما ينتظره الإسلام من العارفين به فقد رأيت أفرادًا قليلين من هؤلاء تعلموا في البلاد الأوربية ودرسوا العلوم فيها درسًا دقيقًا وهم أشد تمسكًا بلُب الدين الإسلامي وروحه من كثير ممن يدعي الورع والتقوى ولا يسمحون لأنفسهم بترك عادة صحيحة من العادات التي أورثها دينهم لقومهم، فنعم المتعلمون هؤلاء، أكثر الله منهم. وإنما أتكلم عن هذا الفريق من المتعلمين في مصر وسوريا وسائر بلاد الدولة العثمانية. سماحة الإسلام وسعة حلمه للعلم أباحت للمسلمين أن يرسلوا أولادهم ليأخذوا العلم في المدارس الرسمية وغير الرسمية عن أساتذة فيهم المسلم وغير المسلم، أو عن أساتذة كلهم غير مسلمين بل في مدارس لم تُبنَ إلا لترويج دين غير الدين الإسلامي. وأباحت لغير آباء هؤلاء التلامذة أن يسكتوا وأن لا ينكروا عليهم عملهم ما دامت العقيدة سالمة من الهدم والضعضعة. جمود تلامذة المدارس الأجنبية: هؤلاء التلامذة إن كانوا في مدارس أجنبية لا أثر لتعليم الدين الإسلامي فيها بل ربما يتعلم فيها دين آخر فقد يسري إلى عقائدهم شيء من الضعف، وقد تذهب عقائدهم بالمرة وتحتلُّ مكانها عقائد أخرى تناقضها كما شوهد ذلك مرارًا. ولو كان آباؤهم على علم بطرق الاستدلال الإقناعية لعقائد دينهم لدعموا من عقائد أبنائهم وحفظوها من التزلزل أو الزوال. وكيف يكون لأولئك الآباء شيء من هذا العلم مع الجمود على طرق قديمة لا يصل إلى فهمها من ينقطع لتعلمها فضلاً عن أولئك المساكين. بل لو كان هناك مرشدون على طريقة يسهل فهمها لتيسر لهؤلاء التلامذة أن يهتدوا بهديهم ولكن الجمود صير كل شيء صعبًا وكل أمر غير مستطاع. فهذه جناية من جنايات الجمود على أبناء المسلمين الذين يتعلمون في مدارس أجنبية يخرجهم من دينهم من حيث لا يشعرون. ويا ليتهم يستبدلون بالدين رادعًا آخر من الأدب والحكمة كما يرجو بعض المغرورين الذين لا يعلمون طبائع هذه الأمم أو كما يروّجه بعض من لا يريد الخير بها، ولكنه ترك أفئدتهم هواء خالية من كل زاجر أو دافع اللهم إلا زاجرًا عن خير أو دافعًا إلى شر فاتخذوا إلههم هواهم وإمامهم شهوتهم فهلكوا وأهلكوا. ومن هؤلاء ورثة الأغنياء الذين تصيح من شرور أعمالهم الجرائد كل يوم. فالجهل خير مما يتعلم هؤلاء بدون ريبة وليت الإسلام لم يرحب صدره لمثل هذا الضر من التعليم والتعلم. * * * (جمود تلامذة المدارس الرسمية والأهلية) أما المتعلمون في مدارس رسمية أو غير رسمية للتعليم الديني فيها شيء من البقية. فهؤلاء يُنَشًّأُون على شيء من المعارف في الفنون المختلفة وتقرر لهم حقائق في الكون السماوي أو الأرضي أو في الاجتماع الإنساني ومن عرف شيئًا انطلق لسانه بالخوض فيه وقد يسمعه متنطع ممن يلبس لباس أهل الدين وهو جامد على ألفاظ سمعها، فلو سمع غيرها أنكره وظنه مخالفًا للعقيدة الصحيحة فيأخذ يلوم المتعلم ويوبخه ويرميه بالمروق من الدين. هذا والمتعلم لا يشك في قوة دليله ولجهله بالدين يعتقد أن ما يقوله خصمه منه فينفر من دينه نفرته من الجهل. ولو قال له قائل: ارجع إلى كتب الدين تجد فيها ما يسرك وينصرك على نفسك وخصمك. حار لا يدري إلى أي كتاب يرجع ولم يسهل عليه فهم تلك العبارات التي ورثها القوم على ما فيها من تشتيت وتعقيد وأبقوها ما ورثوها. فيعود إلى النفور من الدين نفور طالب الفهم مما لا يمكنه فهمه. لهذا يعتقد أكثر هؤلاء أن الدين شيء غير مفهوم بل قد يعده بعضهم خرافة (نعوذ بالله) فيأخذون عنه جانبًا ويتركون عقائده وفضائله وآدابه ويلتمسون لهم آدابًا في غيره وقلما يجدونها فتراهم وقد فترت قلوبهم وقصرت هممهم فلا يطلبون إلا ما تطلبه العامة من كسب معيشة أو علوّ جاه ويسلكون إلى ذلك أي طريق ولو أضروا بالعامة أو الخاصة (ما دام الشرف محفوظًا) فإذا وجد بينهم من يدعي الوطنية أو الغيرة الملية أو نحو ذلك فإنما ينثر الألفاظ نثرًا لا يرجع فيها إلى أصل ثابت، ولا إلى علم صحيح ولهذا يطلب المصلحة لبلاده من الوجه الذي يؤدي إلى المفسدة وهو يشعر أو لا يشعر على حسب حاله. ومنهم من يصيح باسم الدين ولا تتحرك نفسه لمعرفة حكم من أحكامه، أو درس عقيدة من عقائده فشأنهم كلام في كلام ولبئس ما يصنعون. ولولا هذا الجمود لوجدوا في كتب دينهم وفي أقوال حَمَلَتهِ ما تبتهج به قلوبهم؛ وتطمئن إليه نفوسهم؛ ولذاقوا طعم العلم مأدومًا بالدين وتمكنوا من نفع أنفسهم وقومهم ولوجدت منهم طبقة معروفة يرجع إليها في سير الأمة وسياسة أفكارها وأعمالها الاجتماعية. *** (الجمود علة تزول) (المقال الخامس لذلك الإمام الحكيم وفيه بيان علاج الداء) تفصيل مضرات هذا الجمود وسيئاته يحتاج إلى كتاب طويل فنكتفي بما أوجزناه في الصفحات السابقة. ولكن يبقى الكلام في أنه عارض يمكن زواله إن شاء الله تعالى. قد عرفت من طبيعة الدين الإسلامي بعد عرضها عليك فيما سبق أنها تسمو عن أن ينسب إليها هذا المرض الخبيث - مرض الجمود على الموجود - وكم في الكتاب من آية تُنَفِّر من اتباع الآباء مهما عظم أمرهم بدون استعمال العقل فيما كانوا عليه ولا حاجة إلى إعادة ذلك. ثم إننا أشرنا أيضًا إلى بعض الأسباب التي جلبت هذا الجمود على المسلمين لا على الإسلام، وأن محدثها إما عدوُّ للمسلمين طالب لخفض شأنهم أو لاستعبادهم ولاستغلال أيديهم لخاصة نفسه. وإما محب جاهل يظن خيرًا ويعمل شرًا وهذا الثاني كان أشد نكاية، وأعون على الغواية، وهل تزول هذه العلة ويرجع الإسلام إلى سعته الأولى وكرمه الفياض وينهض بأهله إلى ما ذخر لهم فيه؟ ؟ جاء في الكتاب المبين {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: ٩) ذلك الذكر هو الذكر الحكيم وهو القرآن الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. وهو كما قال: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (فصلت: ٣) وعد الله بحفظ هذا الكتاب وقد أنجز وعده فلم تطل إليه يد عدو مقاتل ولا يد محب فبقي كما نزل، ولا يضره عمل الفريقين في تفسيره وتأويله، فذلك مما لا يلتصق به فهو لا يزال بين دَفَّات المصاحف طاهرًا نقيًّا بريئًا من الاختلاف والاضطراب. وهو إمام المتقين، ومستودع الدين، وإليه المرجع إذا اشتد الأمر وعظم الخطب وسلمت النفوس من التخبط في الضلالات. ولا يزال لأشعة نوره نفوذ من تلك الحجب التي أقاموها دونه ولا بد أن تتمزق كلها بأيدي أنصاره فيتبلج ضياؤه لأعيُن أوليائه إن شاء الله تعالى. هذا الضياء كان ولا يزال يلوح لامعه في حنادس الظلم لأفراد اختصهم الله بسلامة البصيرة فيهتدون به إليه ويحمدون سراهم، بما عرفوا من نجاح مسعاهم، ولكن الذين أطبقت عليهم ظُلَمُ البدع، وران على قلوبهم ما كسبوا من التحزب للشيع، وطَمَسَتْ بصائرهم، وفسدت عقولهم، بما حشوها من الأباطيل، وبما عطلوها عن النظر في الدليل، هؤلاء في عمى عن نوره وقلوبهم في أكنَّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقر. يصيحون بأنهم عُمْيُ صمُّ فلا يرون له سناء، ولا يسمعون له نداء، ويعدون ذلك من كمال الإيمان به ولبئس ما رضوا لأنفسهم من السفه وطيش الحلم وهم يعلمون. هذا حال الجمهور الأعظم ممن يوصفون بأنهم مسلمون ويجلبون العار على الإسلام بدخولهم تحت عنوانه، ويقوُّون حجج أعدائه في حربه بزعمهم الاجتماع تحت لوائه، وما هم منه في شيء كما قدمنا. هؤلاء لا بد أن يصيبهم ما أصاب الأمم قبلهم فقد اتبعوا سننهم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع وضيقوا على أنفسهم بدخولهم في جحر الضب الذي دخلوه [٣] ومن اتبع سنن قوم استحق الوقوع تحت أحكام سُنن الله فيهم فلن يخلص مما قضى الله في عذابهم. فقد قص عليهم سير الأولين وبَيَّنَ لهم ما نزل بهم عندما انحرفوا عن سننه وحادوا عن شرعه ونبذوا كتابه وراءهم ظِهريًّا. أَحَلَّ بهم الذلَّ، وَضَرَبَ عليهم المسكنةَ، وأَوْرَثَ غَيْرَهم أَرْضَهم وديارهم. فهل ينتظر المتبعون سننهم، السائرون على أثرهم أن يصنع الله بهم غير الذي صنع بسابقيهم وقد قضى بأن تلك سنته لن تجد لسنته تبديلاً. لا تزال الشدائد تنزل بهولاء المنتسبين إلى الإسلام، ولا تزال القوارع تحل بديارهم حتى يفيقوا (وقد بدأوا يفيقون من سكراتهم) ويفزعوا إلى طلب النجاة ويغسلوا قَذَى المُحْدَثات عن بصائرهم، وعند ذلك يجدون هذا الكتاب الكريم في انتظارهم يُعِدُّ لَهُمْ وسائل الخلاص ويؤيدهم في سبيله بروح القدس ويسير بهم إلى منابع العلم، فيغترفون منها ما يشاءون فيعرفون أنفسهم ويشهدون ما كان قد كمن فيها من قوة فيأخذ بعضهم بيد بعض ويسيرون إلى المجد غير ناكلين ولا مخذولين. ولهذا أقول: إن الإسلام لن يقف عثرة في سبيل المدنية أبدًا ولكنه سيهذبها وينقيها من أوضارها، وستكون المدنية من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله. وهما الجمود سيزول وأقوى دليل على زواله بقاء الكتاب شاهدًا عليه بسوء حاله ولطف الله بتقييض أناس للكتاب ينصرونه، ويدعون إليه ويؤيدونه، والحوادث تساعدهم، وسوط عذاب الله النازل بالجامدين ينصرهم، هذا الكتاب المجيد الذي كان يتبعه العلم حيثما سار شرقًا وغربًا لا بد أن يعود نوره إلى الظهور ويمزق حجب هذه الضلالات، ويرجع إلى موطنه الأول من قلوب المسلمين ويأوي إليها. العلم يتبعه وهو خليله الذي لا يأنس إلا إليه ولا يعتمد إلا عليه. يقول أولئك الجامدون الخامدون كما يقول بعض أعداء القرآن: إن الزمان قد أقبل على آخره، وإن الساعة أوشكت أن تقوم، وإن ما وقع فيه الناس من الفساد، وما مُنِيَ به الدين من الكساد، وما عرض عليه من العلل، وما نراه فيه من الخلل، إنما هو أعراض الشيخوخة والهرم، فلا فائدة في السعي ولا ثمرة للعمل، فلا حركة إلا إلى العدم، ولا يصح أن يمتد بصرنا إلى العدم، ولا أن ننتظر من غاية لأعمالنا سوى العدم (نعوذ بالله) ، هؤلاء حَفدة الجهل وأعوان اليأس يهرفون بما لا يعرفون. ماذا عرفوا من الزمان حتى يعرفوا أنه كاد ينقطع عند نهايته؟ إن الذي مضى بيننا وبين مبدأ الإسلام ألف وثلاثمائة وعشرون عامًا، وإنما هي يوم وبعض يوم أو بعض يوم فقط من أيام الله تعالى. وأن آيات الله في الكون - وإن كانت تدل على ما مضى على الخليقة يقدر بالدهور الدهارير، - تشهد بأن ما بقي لهذا النظام العظيم يقصر عن تقديره كل تقدير {فَمَالِ هَؤُلاءِ القَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} (النساء: ٧٨) إن ما بيننا وبين مبدأ الإسلام لا يزيد عن عمر ستة وعشرين رجلاً كل رجل يعيش خمسين سنة. فهل يعد مثل ذلك دهرًا طويلاً بالنسبة إلى دين عام كدين الإسلام؟ إن زمنًا كهذا لا يكفي - وقد تبين أنه لم يكف - لاهتداء الناس كافة بهديه. ولِمَ تقوم القيامة على الدين ولم تقم على شرهم وطمعهم؟ قد وعد الله بأن يتم نوره وبأن يظهره على الدين كله فسار في سبيل التمام والظهور على العقائد الباطلة أعوامًا، ثم انحرف به أهله عن سبيله وصاروا به إلى ما يرون ونرى. ولن ينقضي العالم حتى يتم ذلك الوعد ويأخذ الدين بيد العلم ويتعاونا معًا على تقويم العقل والوجدان فيدرك العقل مبلغ قوته، ويعرف حدود سلطنته، فيتصرَّف فيما آتاه الله تصرُّف الراشدين، ويكشف ما مكنه فيه من أسرار العاملين، حتى إذا غشيته سبحات الجلال وقف خاشعًا، وقفل راجعًا، وأخذ أَخْذَ الراسخين في العلم الذين قال فيهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (كرم الله وجهه) فيما روي عنه: (هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علمًا، وسمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخًا واعتبر بعد ذلك بقوله: (فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين. هو القادر الذي إذا ارتمت الوهام لتدرك منقطع [٤] قدرته، وحاول الفكر المبرَّأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، وتولهت [٥] القلوب إليه لتجري في كيفية صفاته، وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته، ردعها وهي لحوب مهاوي سدف [٦] الغيوب متخلصة إليه سبحانه، فرجعت إذ جبهت [٧] معترفة بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، ولا تخطر ببال أولي الرَّويَات خاطرة من تقدير جلال عزته) . هنالك يلتقي (أي العقل) مع الوجدان الصادق (القلب) ولم يكن الوجدان ليدابر العقل في سيره داخل حدود مملكته متى كان الوجدان سليمًا، وكان ما استضاء به من نبراس الدين صحيحًا، إياك أن تعتقد ما يعتقده بعض السذج من أن فرقًا بين العقل والوجدان (القلب) في الوجهة بمقتضى الفطرة والغريزة. فإنما يقع التخالف بينهما عرضًا عند عروض العلل والأمراض الروحية على النفوس. وقد أجمع العقلاء على أَنَّ المشاهدات بالحس الباطني (الوجدان أو القلب) من مبادي البرهان العقلي كوجدانك أنك موجود ووجدانك لسرورك وحزنك وغضبك ولذتك وألمك ونحو ذلك. مُنحنا العقل للنظر في الغايات والأسباب المسببات، والفرق بين البسائط والمركبات، والوجدانَ لإدراك ما يحدث في النفس والذات من لذائذ وآلام، وهلع واطمئنان، وشماس وإذعان، ونحو ذلك مما يذوقه الإنسان ولا يحصيه البيان؛ فهما عينان للنفس تنظر بهما - عين تقع على القريب وأخرى تمتد إلى البعيد، وهى في حاجة إلى كل منهما ولا تنتفع بإحداهما حتى يتم لها الانتفاع بالأخرى. فالعلم الصحيح مقوم الوجدان، والوجدان السليم من أشد أعوان العلم، والدين الكامل علم وذوق، عقل وقلب، برهان وإذعان، فكر ووجدان، فإذا اقتصر دين على أحد الأمرين فقد سقطت إحدى قائمتيه وهيهات أن يقوم على الأخرى. ولن يتخالف العقل والوجدان حتى يكون الإنسان الواحد إنسانيين، والوجود الفرد وجودين. قد يدرك عقلك الضرر في عمل ولكنه تعمله طوعًا لوجدانك، وربما أيقنت المنفعة في أمر وأعرضت عنه إجابة لدافع من سريرتك، فتقول: إن هذا يدل على تخالف العقل والوجدان. ولكني أقول: إن هذه حجة من لا يعرف نفسه ولا غيره. عليك أن ترجع إلى نفسك فتتحقق من أحد الأمرين - إما أن يقينك ليس بيقين وأنه صورة عرضت عليك من قول غيرك فأنت تظنها علمًا وما هى به. وإما أن وجدانك وَهْم تمكن فيك، وعادة رسخت في مكان القوة منك، وليس بالوجدان الصحيح وإنما هو عادة ورثتها عمن حولك وظنتها شعورًا مَنْبَعُه الغريزة وما هي منه في شيء. (نتيجة) : لا بد أن ينتهي أمر العالم إلى تآخي العلم والدين؛ على سنة القرآن والذكر الحكيم، ويأخذ العالمون بمعنى الحديث الذي صح معناه [٨] (تفكروا في خلق الله ولا تَفَكَّروا في ذات الله) وعندها يكون الله قد أتم نوره ولو كره الكافرون [٩] وتبعهم الجامدون القانطون، وليس بينك وبين ما أَعِدكَ به إلا الزمان الذي لا بد منه في تنبيه الغافل وتعليم الجاهل وتوضيح المنهج، وتقويم الأعوج، وهو ما تقتضيه السنةِّ الإلهية في التدريج {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (الأحزاب: ٦٢) . {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (المعارج: ٦-٧) . {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: ٧) وهو خير الناصرين. ... ... ... ... (للكلام بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))