بيَّنا في المقدمة الإجمالية لهذا البحث عشر مسائل أساسية لا مجال للمراء والجدل فيها، يعلم منها جملة ما أصاب فيه الكاتبون الكثيرون في مسألة الترجمة وما أخطأوا؛ ولكن ذلك الإجمال لا يغني عن البيان والتفصيل الذي تقوم به الحجج على الصواب، وتدحض الشبهات التي لبست على المخطئين الحق بالباطل وهو ما أعقد له الفصول الآتية، مبتدئًا إياها بما أعلم من سبب إثارة هذا البحث وحقيقة الأمر فيه. غرض حكومة الترك الجمهورية اللادينية من ترجمة القرآن وكتابته بالحروف اللاتينية وما قيل في حظ الشعب التركي من هذه البدعة لقد كان عمل الترك الذي أعلنوا تنفيذه في شهر رمضان، هو الذي فتح باب البحث في ترجمة القرآن، وكان أول ما كتب في تخطئتهم بحجج الإسلام، والدفاع عنهم وتصويب عملهم بحجة التجديد وتطور الزمان، الذي خلاصته أن الشعب التركي قد ارتقى في مدارج المدنية الأوربية ارتقاء ما عاد يليق به اتباع الشريعة الإسلامية العربية، ولا الكتابة بحروفها، وأن الغرض الديني من القرآن معانيه لا عبارته وألفاظه، ولا نظمه وإعجازه، وأنه مهما تكن الحال فلا يليق بالشعب التركي الراقي أن يترك لغته لأجل القرآن، ولا أن يحافظ على الكتابة العربية لأجل المحافظة على القرآن المنزل باللسان العربي، ومثل هذه الحجج الداحضة لا يقول بها أحد يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وبكتاب الله المنزل عليه؛ وإنما يقول بها من يفضل عليهما سياسة الحكومة التركية الحاضرة التي أحدثت هذا الأمر، ومن عجب أن كان فارس ميدانها كاتب كان قد اشتهر بالدفاع عن الإسلام والتنويه بمزاياه، ثم تذبذب فيه ثم صرح بنصر التجديد الأوربي وتفضيله عليه. فعلت هذه الحكومة فعلتها هذه متبعة ما سماه رئيسها (سياسة المراحل) التي كان أولها إلغاء الخلافة السياسية، فإلغاء الخلافة الروحية التي استبدلوها بها، فحذف مادة (دين الدولة التركية الإسلام) من القانون الأساسي، وإبطال المحاكم الشرعية والمدارس الدينية الإسلامية والأوقاف، فإلغاء اللغة العربية وكتبها الدينية والعلمية، فإلغاء حروفها، ثم وصلوا أخيرًا إلى مرحلة القرآن، وما أدراك ما القرآن، هو كلام الله المنزل المتعبد بلفظه العربي وتلاوته، كالتعبد بعقائده وأحكامه، هو كلام الله الذي يعتقد كل مسلم أن تغيير شيء منه أو تبديله كفر يخلد فاعله في جهنم فماذا يفعلون؟ تبديل الحكومة التركية القرآن لغة وكتابة وأنصارها بمصر إن الحكومة العسكرية التي قهرت الشعب على الخضوع لها في قطع تلك المراحل كلها، وقمع كل مقاومة بدرت منه بحكم الإرهاب والتنكيل - لا تهاب قطع هذه المرحلة وهي العقبة الكئود: أمرت بترجمة حرفية جديدة للقرآن على أن تسمى قرآنًا يتعبد به من يختار أن يبقى مسلمًا من الترك، بشرط أن يكتب بالحروف اللاتينية كغيره من كتب الدولة وشعبها، وبدأت بإعلان ذلك في ليلة القدر من شهر رمضان (٢٧ منه) فلقن قارئ حسن الصوت آيات منه فقرأها في جامع أيا صوفيا المشهور، ووضعت بجانبه آلة الراديو الناقلة للصوت الموزعة له فنقلتها إلى مواضع وبلاد كثيرة. إن هذا لحنث عظيم، وإنه لخطب في الإسلام خطير، وإن كربه على المسلمين لكبير، وقد توقعناه قبل وقوعه ببضع سنين، فصرَّحنا به وبيَّنا مفاسده في المنار وفي تفسيره من خمسة عشر وجهًا، فهو لم يكن عندنا شيئًا جديدًا، وكنا نرجو من هذا الشعب العريق في الإسلام أن يوقظ هذا الاعتداءُ على دينه شعورَه النائم، ويُحيي ما أماته الجهل وإلفة البدع ونزغات الإلحاد المادية من عزة نفسه، ونرى أنه سيصبر إلى أن تتيح له الفرص محو هذه البدع الإلحادية والرجوع بالإسلام إلى أصله، وقد جاءتنا الأنباء من مصادر كثيرة مؤيدة لرأينا هذا. نقلت لنا الصحف خبر تنفيذ هذه البدعة الجديدة فلم نجدد في إنكارها قولاً غير الذي قلناه ونشرناه من قبل؛ ولكن ذكرها أحد إخواننا المسلمين في مقال له بالعرض مستنكرًا لها، ولم يستنكر فيه ما عرفه من التراجم قبلها، فحرك من أنصار هذه الحكومة بمصر ما كان ساكنًا، وهاج من شيعتها ما كان كامنًا، فسددت إلى طعنه أسنة الأقلام مقدسة لهذه الحكومة ومنزهة لها عن الملام، بأنها جاءت بالمعجزات، وفاقت جميع البشر في التجديد الذي تقتضيه حال الزمان والقضاء على ذلك البالي القديم من دين الإسلام؛ وإنما هو دين الله العام الباقي إلى آخر الزمان. ومن التجديد الذي يليق بالقرن العشرين عندهم أن تترك الشريعة الإسلامية، وينقل القرآن من حروف العربية التي وصفها نصيرهم في مصر بالوثنية، وزعم أن الغرض من ترجمته فهم الترك له واهتداؤهم به، واستفادتهم من عقائده وقواعده ومواعظه وأحكامه، وأن من الجهل والعبث تكليفهم التعبد بكلام لا يفهمونه، فمن فضائل حكومة الترك اللادينية الجديدة أنها جددت الإسلام لأهله من شعبها، بما جهله أو ضل عنه جميع المسلمين من قبلها، من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذا القرن الرابع عشر للإسلام، والعشرين للمسيح عليه السلام، فهو من معجزاتها ومننها على رعيتها الإسلامية. وربما كان هذا الذي فعلته هذه الحكومة أجدر بوصفه بالمعجزات (بالمعنى اللغوي) من الانتصار على اليونان وإخراجهم من عقر دار الترك؛ فإن هذا على حسنه وحمدنا له في وقته، دون انتصار الحكومة الحميدية بقيادة أدهم باشا على اليونان في بلاد اليونان نفسها، ودون انتصار فرنسة والولايات المتحدة في أمريكا على المتغلبين على بلادهم، ودون انتصار صلاح الدين الأيوبي وغيره على الدول الصليبية كلها، وإخراجها من البلاد المقدسة وغيرها، وما وصف شيء من ذلك بالمعجزات، وأما هذا الانقلاب الديني الجديد فقد عجزت عن مثله كل دولة تولت السياسة والحكم في الشعوب الإسلامية؛ ولكن فعل أكبر منه بطرس الأكبر ثم البلشفك في روسية. دافع المنكر الأول لهذه الفعلة عن نفسه، وكتب المقال في إثر المقال في تأييد رأيه، وانتصر له آخرون، وحمي وطيس الجدال بين الفريقين، وكثر اعتراض كل كاتب على مناظره حتى فيما هو خارج عن موضوع المناظرة من مسائل تاريخية أو كلامية، حتى طرق بعضهم باب البحث في كلام الله تعالى الذي هو صفة ذاتية له، وكُتبه المنزَّلة على رسله بألسنة أقوامهم، وفي هذه المباحث من الفلسفة القديمة والنظريات الغريبة من المتكلمين ما كان من مصائب المسلمين في عصر رواج تلك الفلسفة. ورجع بعض المدافعين عن الحكومة التركية إلى كتب الفقه لعلهم يجدون في آرائها الشاذة ما ينصبونه حجة على جعل القرآن العربي المنزل خاصًّا بالعرب، وجواز إيجاد قرآن تركي للترك، وقرآن فارسي للفرس، وقرآن هندي للهنود، وقرآن صيني للصينيين ... إلخ، فوجدوا فيها رأيًا لأبي حنيفة في جواز الترجمة؛ ولكن نقل فقهاء مذهبه أنه رجع عنه، وأن المعتمد في المذهب رأي أصحابه في حكم من يعجز عن أداء ما فرض الله عليه في الصلاة من قرآن بالنطق به كما أنزله الله عربيًّا غير ذي عوج، وهو أنه يترجم له بلسانه، وهي ضرورة تقدر بقدرها فلا تباح لغير العاجز عن النطق ما دام عاجزًا، وسواء أصح هذا الرأي أم لم يصح فرأي المجتهد ليس حجة في الإسلام على غيره؛ ولكنه هو يعذر به، وكذا من قلده فيه لثقته به، وسواء أصح دليله أم لا فهو لا يتضمن جواز ترجمة القرآن كله بلغة غير لغته يستغنى بها عن المنزل من عند الله تعالى، فهذا مما أجمع المسلمون كلهم على عدم جوازه، وعلى أن من يفعله متعمدًا فهو زنديق مارق من الإسلام. ووجدوا في بعض كتب الحنفية من الاحتجاج لأبي حنيفة في جواز الترجمة أن سلمان الفارسي رضي الله عنه ترجم سورة الفاتحة لمن طلبها من قومه، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم! ولم يرو هذا عنه أحد من حفاظ الحديث في الصحاح ولا في السنن ولا في المسانيد المعروفة، والفرس لم ينتشر فيهم الإسلام في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه علة في متن الحديث زائدة على كونه لا يعرف له سند يحتج به، ومن المعهود في بعض كتب الفقه ولا سيما كتب الحنفية ذكر بعض الأحاديث الضعيفة وكذا الموضوعة، ونقل النووي لهذا القول في كتابه المجموع في فقه الخلاف لا يعد دليلاً على أنه روي بسند صحيح ولا سقيم كما توهمه بعضهم، وهو لم يقل هذا والحكم مخالف لمذهبه، على أن النووي ليس من حفاظ الحديث الذين عنوا بروايته وتدوينه؛ وإنما هو فقيه عالم بالحديث يرجع في نقله والحكم عليه إلى مخرجيه من أصحاب دواوين السنة ويقل غلطه فيما يعتمده من تحقيقهم. أقوى الشبهات للقائلين بترجمة القرآن بيد أن الشبهة النظرية التي قَبِلها كثير من الناس الذين ليس لهم هوى في تأييد الحكومة التركية من عصبية جنسية، ولا نعرة إلحادية، هي أن الإسلام دين عام خاطب الله تعالى به جميع البشر المختلفي اللغات، ومن غير المعقول ولا الممكن عندهم أن يكلف الله تعالى كل أمة وكل شعب أعجمي أن يترك لغته ويتعلم العربية لأجل أن يمتثل ما أمره به من الاهتداء بكتابه وتدبره والاتعاظ به وامتثال ما فيه من الأوامر والنواهي؛ وإنما المعقول الممكن (بزعمهم) أن يترجم القرآن لكل قوم بلغتهم لأجل تبليغهم الدعوة إلى الإيمان به أولاً، ثم تعليم من آمن منهم ما أوجبه وما حرمه الله عليهم فيه، وتغذية الإيمان بتدبره والتعبد بتلاوته. ومن لا ينكر منهم أن تكليف الشعوب توحيد لغة دينها ممكن، ولا أنه وقع بالفعل يقول إن شعوب الأعاجم لم يمتثلوه بل حافظوا على لغاتهم، وحرموا من هداية القرآن نفسه اكتفاء بأحكام الإسلام التي دوَّنها لهم علماؤهم بلغاتهم، فالخير لهم أن يترجم لهم القرآن فيستفيدوا من أخباره وحكمه وأحكامه ومواعظه، وإن خلت الترجمة من تأثير بلاغته، وروعة أسلوبه ونظمه، وما تدل عليه عبارته العربية من إعجازه، على أنه لم يعد أحد يفهم هذا منه بزعمهم. هذه هي المسألة الوحيدة التي راجت شبهتها في سوق القائلين بجواز الترجمة أو وجوبها، ولم نر أحدًا اقتنع بما حاول خصومهم دحضها به، وقد التجأ بعضهم إلى علماء الأزهر فنشروا رأيهم؛ ولكن لم يوجد في كلام أحد منهم ما يشفي الغليل، ويقيم الحجة على أن الإسلام جعل العربية لغة المسلمين كافة وأوجبها عليهم. ولقد كثر علي المقترحون بأن أكتب في المسألة ما يُحق الحق ويُبطل الباطل بما يزيح الشبهة ويكشف الغمة، كما تعودوه مني في أمثال هذه المشكلة، فكنت أحيلهم على ما كتبته من قبل في المنار وفي الجزء التاسع من تفسير القرآن الحكيم، وقد جمع وطبع في رسالة مستقلة يسهل على غير مقتني مجلدات المنار والتفسير مراجعتها، بيد أنني رأيت بعضهم يقول إنه لا بد من كتابة مقال جديد في المسألة فاستجبت لهم. إنني لا أجادل ولا أماري أحدًا من أولئك الكاتبين، ولا أتوخى الرد على قول من أقوالهم بالمناقشة في لفظه؛ وإنما أتحرى بيان الحق الذي ينطبق على الواقع، فأبدأ بكلمة تختص بحظ الشعب التركي من هذه الترجمة، ثم أبين كيف كان تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن ودعوته إلى الإسلام، وكيف كانت سيرة خلفائه الراشدين ودول الإسلام وأئمته في نشر هذا الدين، وكيف اهتدى به العرب والعجم، وكيف يدعو النصارى إلى دينهم أيضًا، وهل تتوقف دعوة الإسلام على ترجمة القرآن، أو دعوة النصرانية على ترجمة كتب العهد القديم والعهد الجديد عند النصارى؟ ثم أبيِّن معنى كون اللغة العربية هي لغة الإسلام، التي لا يتم بدونها كون المسلمين من الشعوب المختلفة أمة واحدة كما قرر القرآن، وكون أفرادها إخوة في الدين كما وصفهم القرآن، وأقيم الحجة على إمكان هذا ووقوعه بالفعل، وعلى كونه من أعظم أركان الإصلاح البشري الذي كان به الإسلام دين السلام، والتوحيد الإنساني العام، الذي هو العلاج الترياقي لأدواء العداوة والبغضاء بين البشر التي شكا منها الحكماء الأولون، ويشكو منها الحكماء الحاضرون. حظ الترك من هذه الترجمة إن الاهتداء بالقرآن منه ما هو فرض عين على كل مسلم من ذكر وأنثى، كالقَدْر الذي لا تصح الصلاة بدونه، وما هو واجب أو مندوب (على ما بين الفقهاء من الخلاف في مفهوم الفرض والواجب) في الصلاة لأجل كمالها، وفي غير الصلاة من تدبره لتغذية الإيمان والعبرة والموعظة بما فيه من الترغيب والترهيب. ومنه ما هو فرض كفاية كالعلم بما فيه من أصول الإيمان، وقواعد الإسلام، وأنواع الأحكام، في العبادات والمعاملات والحظر والإباحة، والآيات البينات على تلك الأصول والقواعد ولا سيما إعجاز القرآن. ومنها ما هو من الفضائل والآداب، التي هي مزيد كمال في الدين. فأما القسم الأول: فقلما يوجد مسلم تركي يجهله، فالترك شعب مسلم يعلمون أولادهم متى دخلوا في سن التمييز فاتحة القرآن وبعض السور القصيرة بالعربية، وكذا سائر أذكار الصلاة ويعلمونهم الطهارة الشرعية ويعودونهم الصلاة، كما يفعل غيرهم من الشعوب الإسلامية عربها وعجمها، كما يعلمونهم معاني هذه التلاوة والأذكار في الجملة، والذين يقصرون في تعليمهم معانيها من جهلة عوام القرى والجبال لتعسره أو تعذره قد يسهل عليهم هذا التعليم في المكاتب والمدارس التي تعنى حكومتهم بتعميمها لنشر لغتها وآدابها ودينها إذا ظلت إسلامية، ويمكن أيضًا أن يستفيدوها من الوعاظ والمرشدين الطوافين إذا لم تمنعهم الحكومة اللادينية من ذلك، فإذا منعتهم كان منعها أظهر برهان على تعمدها إخراجهم من الإسلام. ولعله لا يكاد يوجد فيهم أحد يعجز عن النطق بالفاتحة والسورة الصغيرة بالعربية، فيأتي في حقه ما ذكره فقهاء الحنفية من القول بالصلاة بترجمتها وسقوط وجوبها مدة العجز، كما يسقط القيام في الصلاة عن العاجز عنه ما دام عاجزًا؛ وإنما يوجد هذا العجز عادة في الكبار الذين يدخلون في الإسلام وقد ملكت العجمة عليهم ألسنتهم، وكان هذا يكثر في القرون الأولى التي يدخل فيها الكبار في الإسلام أفواجًا، وهو قليل في هذا الزمان ولا سيما عند الترك التابعين للحكومة الجمهورية، على أن كثرتهم وقلتهم سواء في سهولة تعليمهم ما ذكر. وأما إخوانهم في تركستان الصينية - وهم الترك الخلص - فكل التعليم عندهم باللغة العربية؛ وإنما التركية هنالك لسان العامة لا لسان القراءة والكتابة. وليعلم القارئ العربي في مصر وغيرها أن المسلم التركي - وكذا الهندي والفارسي والأفغاني وغيرهم - يجد من الخشوع ولذة وجدان الإيمان في قلبه كلما قرأ أو سمع شيئًا من القرآن المنزل ما لا يجد مثله أكثر العوام من مسلمي العرب، وإن لم يفهم شيئًا مما قرأ أو سمع؛ وإنما سبب هذا الخشوع والوجدان ما يستولي على قلبه من تصور سماع كلام الله المنزل على أفضل النبيين وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، فمثله كمثل من يسمع نشيدًا موسيقيًّا لوطنه وهو من رجال الوطنية، أو نشيد ملكه وهو من معظمي الملكية، وهو لا يفهم معنى هذا النشيد؛ وإنما يعظمه ويهتز له قلبه بقدر الباعث من حب الوطن أو الملك وتعظيمه {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُباًّ لِّلَّهِ} (البقرة: ١٦٥) ولا نعني بهذا أنه ينبغي أن يستغنى به عن فهم المعنى الخاص لكلام الله وذكره؛ ولكننا لا نستبعد أن يكون فهم المعنى المجمل الوجيز من عبارة تركية رسمية أقل تأثيرًا في قلبه مما يجده من شعور الإيمان عند تصوره الإجمالي أنه يقرأ أو يسمع كلام الله تعالى تعبدًا كما أمره الله ووعده بالأجر والثواب في دار المآب، فجعل له بكل حرف عشر حسنات. ومما ينقص الترجمة ولا سيما التركية أنها لا يتأتى بها الترتيل والتجويد بالصوت الحسن الذي نعهده بالقراءة العربية؛ فإن من حكم هذا النظم البديع، والفواصل التي هي مرتبة فوق مرتبتي الشعر والتسجيع أن يرتل بها القرآن بأنواع النغم الذي يملك العقل والوجدان، وقد كانت تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم له أقوى الأسباب لقبول الإيمان، واللغة التركية غير مستعدة لمثل هذه النغمات حتى أنه ليس فيها من المد مثل ما في العربية. ومن المعلوم عندنا بالبداهة أن هذه الحكومة اللادينية لا تقصد بمنع قراءة القرآن بالعربية، ثم منع كتابة ترجمته بالعربية أن يفهم المصلون من شعبها ما يقرءونه في الصلاة أو غيرها. وأما التعبد بقراءة ترجمة القرآن لأجل تغذية الإيمان، والاعتبار والاتعاظ بما فيه من الهدى والفرقان، فقد علم مما قلناه أنه لا يحصل بالترجمة الحرفية التي أوجبوها؛ وإنما يرجى حصول شيء منه بالترجمة المعنوية التفسيرية التي يمنعونها. وإن لديهم ترجمة منها لخصها بعض علمائهم من تفسير مطول بالتركية وافقت عليه واستحسنته اللجنة الخاصة التي كانت مؤلفة من هيئتي تدقيق المؤلفات من قبل مشيخة الإسلام التي ألفتها الحكومة الحاضرة ومن وزارة المعارف. هذه الترجمة طبعتها ونشرتها المكتبة المعروفة في الآستانة باسم (سهولت كتبخانه سي) سنة ١٩٢٧ لصاحبها سميح لطفي أفندي، وكتب في طرتها ما يلي: قرآن كريم ترجمة سي توركجه مصحف شريف (ملغا مشيخت ومعارف نظارتي تدقيق مؤلفات هيئتلري طرفندن متشكل قومسيون مخصوصجه تدقيق وتقدير أولنان مفصل تفسير دان ملخص در) . وكتب في رأس كل ورقة منه (توركجه قرآن كريم) وهذا خطأ عظيم. ونظن أن هذه الترجمة أقرب إلى الصحة من سائر الترجمات التركية الحرفية التي بيَّنا بعض أغلاطها في المنار وفي الجزء التاسع من تفسيرنا وجمع في رسالة مخصوصة وطبع وحده؛ ولكني لا أشهد بصحتها كلها ولا أكثرها لأنني لا أفهم اللغة التركية، ومما رأيت فيها من الخطأ تفسير الحروف المفردة في أوائل بعض السور كـ (الم والمر وطس وحم) بما فسرها به بعض المفسرين من كونها مقتطعة من أسماء الله المبدوءة بها. ومن مزايا هذه الترجمة أن مترجمها وضع لها حواشي كثيرة لإيضاح ما يخفى من معانيها لتوقف فهمه على معرفة سبب النزول أو بيان المجمل أو غير ذلك مما يستحيل أن يفهم المراد منه بالترجمة الحرفية، ووضع في أثنائها جملاً تفسيرية بين أهِلّة للإيضاح أيضًا. فلو كانت الحكومة التركية تريد تسهيل فهم معاني القرآن على رعيتها المسلمة لاكتفت بهذه الترجمة لمن يكتفي بالإجمال، وأباحت نشر ذلك التفسير التركي لمريد التفصيل؛ ولكنها لم تفعل. ومن المعلوم لنا باليقين أن تأثير القرآن المنزل في تغذية الإيمان، وتزكية نفس الإنسان، وخشوعه لعظمة الديان، واتعاظه بما فيه من الهدى والفرقان، وقصص الرسل عليهم الصلاة والسلام، مما لا يمكن الوصول إلى معشاره بقراءة أي ترجمة له بأي لسان، وسيأتيك شرح هذا وأدلته بأوضح بيان. وأما الاعتماد على هذه الترجمة التركية الرسمية المقترحة - ولما تتم - في معرفة عقائد الإسلام وقواعده واستنباط الأحكام الشرعية منه فهو أبعد عن التصور والتصديق مما قبله؛ فإن الاستنباط الصحيح من القرآن لا يكون إلا من نصوصه المنزلة من عند الله تعالى من عليم بلغته: مفرداتها وأساليبها، وما فيه من مجمل ومبين ومطلق ومقيد، وحقيقة ومجاز وكناية، وأسباب نزول لا يفهم المراد بدونها، وبيان السنة لما أمر الله تعالى رسوله ببيانه منها، وكتب السنة كلها ممنوعة بلغتها العربية وباللغة التركية أيضًا، إلى غير ذلك مما سنفصله بعد في تحقيق الكلام في الترجمة. وناهيك بترجمة تركية واللغة التركية أضيق اللغات المدونة المعروفة في مادتها الأصلية؛ فإن أكثر مصادرها عربي وفارسي، وهم يستعملون العربي منها كثيرًا في غير ما يستعمله العرب، وقد حاولوا من زهاء ربع قرن أن يستبدلوا بالألفاظ العربية فيها ألفاظًا أخرى غير مألوفة، ثم إن كتابتهم للعربي وغيره بالحروف اللاتينية يضيع على أهلها العلم بأصله الذي يجب الرجوع إليه في تحقيق المعاني، بل ثبت أن كتابتهم للتركية بالحروف اللاتينية قد أضعفتها، ووقفت حركة انتشار العلوم والفنون بها، فما عسى أن يكونوا قد استفادوه من ضبط الألفاظ في النطق، قد خسروا أضعافه بسوء الفهم وضعف انتشار العلم. وجملة القول إنه ليس للترك فائدة كبيرة يستفيدونها من هذه الترجمة الحرفية للقرآن وكتابتها بالحروف اللاتينية تجاه الغوائل والمفاسد التي فيها، وقد بيناها بالتفصيل في رسالتنا المطبوعة وسنزيدها بيانًا في هذا البحث. فهذا ما يتعلق بعمل الحكومة التركية الذي أثار الجدال في المسألة، وجملة القول فيه إنها أرادت بالترجمة التركية أن يستغني بها شعبها عن القرآن العربي المنزَّل من كل وجه، لإبعاده عن معرفة حقيقة الدين الإسلامي الذي لا يمكن العلم به من القرآن وحده بدون بيان الرسول صلى الله عليه وسلم له، ويليه تحقيق الموضوع في نفسه من كل وجوهه، ودحض كل شبهة تعترض دونه. هذا وإن ما ذكرناه في هذه المسألة ليس هو مقاصد هذا البحث الأساسية، فإن ارتاب فيه أحد القارئين أو اعترض عليه فلا يعنيني أن أرد عليه أو أتصدى لإقناعه؛ وإنما المقصود عندي بالذات هو إثبات الحق في توحيد الإسلام للمسلمين في عقائده وآدابه وعباداته وسياسته وأحكامه ولغته ليكونوا أمة واحدة، كل شعب وكل فرد منها كالعضو من بدن الشخص، وبالله التوفيق.