نشرنا في الجزء السادس من المنار ذلك المقال المطوَّل في تلخيص حقائق المسألة العربية فكتب أحد المتملقين لأمراء مكة في جريدة الأهرام يؤاخذنا على نشر ذلك المقال الذي زعزع الثقة ممن اتخذهم هو وأمثاله زعماء للعرب مشايعة للسياسة الإنكليزية التي سخرتهم لمساعدتها على تقويض صرح أكبر دولة إسلامية يعتز بها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها والثأر لملك الإنكليز قلب الأسد ومن كان معه من الصليبيين من المسلمين، وفتح القدس واستعمار سائر بلاد العرب، ولم يستطع هذا الكاتب أن ينقض قضية أو يكذب كلمة من مقالنا، وإنما كانت مقالته عبارة عن لوم وتثريب، وتهكم وأكاذيب، زعم فيها أن صاحب المنار ادَّعى أنه كان في دمشق ثاني الملك فيصل وأن المؤتمر السوري كان آلة بيده، ولو صح أن المقال كان يتضمن هذه الدعوى وأنها دعوى باطلة لما كان ذلك بدافع شيئًا من إنكارنا على أمراء مكة ما أنكرناه عليهم باسم الشرع والدين والمصلحة العربية. وقد كان من جناية ذلك الكاتب على زعمائه الذين أراد الدفاع عنهم أنه حملنا وحمل غيرنا على كتابة مقالات في المسألة العربية ونشرها في تلك الجريدة اليومية التي يقرأها ألوف من الناس لا يقرءون المنار فعرفوا جناية أولئك الأمراء على الإسلام والعرب وأنه لا يملك أحد من أشياعهم أن ينقض من الحقائق التي أثبتها المنار شيئًا. ثم إننا اطّلعنا على العدد ٥١٠ من جريدة القبلة التي تصدرها حكومة الحجاز في مكة المكرمة الذي صدر في ١٨ ذي الحجة الحرام سنة ١٣٣٩ فرأينا في صدره مقالة في الرد علينا مكتوبة بذلك القلم المعروف لكل المطلعين على تلك الجريدة بإنشائه الغريب فرأيناها كما كتب إلينا بعض من اطّلع عليها قبلنا ونحن في مدينة جنيف من بلاد سويسرة من أوربة إذ قال: وجدتها بمكان سحيق من السخافة يكفي في الرد عليها نشرها فرأينا أن ننشرها ونرد عليها، وإن كان رأي صاحب هذه العبارة صحيحًا لأن سائس جريدة القبلة مغرور مفتون بكل ما يكتبه، فينبغي أن نريه قيمة ما كتب بما فيه عبرة وفائدة لقرَّاء المنار وهذا نصها: *** أأعجمي أم عربي؟ تحقق لدينا في هذا الأسبوع احتدام غيظ وغضب وعداوة وبغضاء مولانا.. ومصباح ظلامنا.. . رشيد رضا - على سيدنا مولانا المنقذ وأنجاله مما رأيناه في عدد (١٣٥٠٠) من (أهرامنا) الأغر من كرته بالتنديد المعلوم الشكل والماهية. وعليه فلا يسعنا أن نأتي بشيء في الموضوع إلا بيانًا بأن الروابط التي يزعمها حضرته تجعلنا نسترحم عواطف مدارك إرشادات كمالاته العفو والصفح، ولا نظن أن عظم جريمة سيدنا المنقذ وأنجاله في نظره ينسيه: {وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} (آل عمران: ١٣٤) أقله أن العظمة والكبرياء والمدارك والإحاطات التي وصف بها ذاته المعظمة وحصرها في شخصه وتميزه دون سواه بتلك الفضائل والجلائل تأبى شهامتها المبادأة بأبسط من ذلك التعريض (الذي هو على طرفي نقيض) حتى بالأجانب فضلاً عمن تزعم أنك من عنصرهم، وهذا لا نشك أنه من نجابة دستور شعور تلك السجايا والمزايا. ومع ذا فلا نظن أن نجابة دستور ذلك الشعور تحظر علينا أن نسائل مولانا (الذي أفهمتنا بياناته المذكورة بكل صراحة أنه أصبح اليوم مرشد الأمة الأوحد، وهاديها الفرد الأمجد) أولاً: أهو عربي أم أعجمي؟ وإذا كان الأول فليسلسل وثائقه إلى الفخيذة التي يريد أن ينتمي إليها، وسؤالنا هذا هو ليتضاعف قدره، وتترادف كبرياء عظمته لدينا، ليس إلا. ولا بأس أن نشفع طلبنا هذا بقولنا: إن نجابة شعور ذلك الدستور تقضي علينا أيضًا بأن نكتفي عن البحث في الموضوع بما أورده أحد قرّائنا الأفاضل مما أدرجته (القبلة) في عددها الذي قبل العدد الماضي المتضمن الرد على عداء مصباح الظلام ومرشد الأنام بقوله: (يعرض الأستاذ بأمرائنا في شؤون المسألة السورية، فنقول له: عساه أن يتأمل مواقفهم وأعمالهم الناتجة بإخراجهم (بقدرة الباري) للجنرال ليمان فون سندرس - وما أدراك ما سندرس - من سورية ويطبقها على نتائج مواقف حضرته التي أدت إلى تسليم تلك البلاد للجنرال غورو. ولا يمكن الشيخ رشيد رضا أن ينكر هذا وهو القائل بأنه كان الآمر الناهي في دمشق يولي من يشاء ويعزل من يشاء من الوزراء ويقرب من يشاء ويبعد من يشاء، إلخ , انتهى. فإذا تأمل رشيد بل وكل متأمل هاتين النتيجتين اللتين جمعتا فأوعتا القضية من مبدئها إلى منتهاها بعد تطبيقهما ومقايستهما على ما ذكر - تظهر الخلاصة الجوهرية التاريخية التي يريدها الشيخ رشيد بقوله: (الحقائق الجلية في تاريخ القضية العربية) عنوان مقالة تنديده بسادتنا. فهل وراء إخراج سادتنا وقادتنا على مرأى من حضرته والعالم لسندرس وألمانيته وإدخال مولانا الأستاذ وهيأته كما ذكر لغورو وافرنسيته حقائق تاريخية عن سوريتنا وحوادثها؟ أو محل يقتضي بحث أي مؤرخ فيها؟ ربنا لا تضلنا بعد إذ هديتنا. لا ندري - وأبيكم - كيف فات على تلك العظمة وكبريائها بأن الكثير حتى من البسطاء أدرك ما في إظهار تلك العظمة والأنانية لهذا العداء والبغضاء ومصارحتها به أثر ما يزعمه المبشرون عن كيفية الاعتداء على صديقنا غورو وجعلهم يحكمون بأن تلك المظاهر بالتعريض والنيل من أشبالنا [١] وسراتنا هو فصل من تلك الفصول وبقلة من تلك الحقول؟ فليتأمله. أما بحثه عن عدائنا للترك، فقد أجاب عنه طليعنا في عدد (١٣٥٠٤) من أهرامنا بقوله للشيخ رشيد: لقد أخطأت في إشارتك على جلالة ملك الحجاز حسب تصحيحك الأخير بعداوة الاتحاديين التي أدت إلى محاربتهم وهذه أدت لمحاربة الأتراك لكون الأمة التركية كانت تأتمر بأمر الاتحاديين، ولم يكن بالإمكان سوى ذلك، فهل للسيد الأستاذ أن يبرهن عمّا إذا كانت العداوة لا تؤدي إلى الخصومة والخصومة إلى القتال، سيما إذا كان ذلك بين عنصرين وفي زمن حرج كالزمن الذي سافر فيه الأستاذ إلى الحجاز أثناء الحرب العامة؟ وما حمل جلالة ملك الحجاز لمناوئتهم إلا ما كان يسمعه عن ظلم جمال وقتله خيرة أبناء سورية وما كنتم تكتبونه في المنار من التحريض ضد الاتحاديين بعد عودتكم من الآستانة وما كان يذكره في الجرائد العربية طلاب الإصلاح في سورية، فعل ما فعل ولكن الظروف الأخيرة عاكسته وتخلى عنه حلفاؤه بعد أن داسوا حقوق الشعوب الضعيفة ولم يراعوا عهودًا ووعودًا، فالقوة القاهرة اليوم لا تمنع أمة بأسرها من المطالبة بحقها المشروع والذود عنه يومًا ما , انتهى. ومع هذا فلا بأس من أن نشفع ذلك بقولنا أيضًا: إنه يعز علينا أن أنانية تلك العظمة والكبرياء تنقض اليوم ما قالته بالأمس، فإن منارنا ومظهر فخارنا، كما أنه موجود لدينا ضروري أنه موجود أيضًا لدى كثير من قرائه، فإنه مشتمل على الغارات الشعواء التي شنها مولانا على الترك بما هو معلوم. ومع ذلك فلا بد أن هناك دواعي وأسبابها لهذا التخليط والتخبط والتغليظ لا تدركها إلا أنانية تلك العظمة والكبرياء، غير أننا والحالة هذه نلتمس إحاطة مداركها إرشاد العالم إلى من يجب أن يتبعوه الآن: أهم يقتدون بأنقرة أم القسطنطينية؟ والله يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم. ويحسن بنا أن نلفت أنظار المتأملين والمدققين إلى ما نقلته البرقيات الأخيرة وكثير من الصحف عن عزم الكماليين على إخلاء أنقرة وانتقالهم إلى قيصرية ليطبقوا هذا النبأ على استعجال الشيخ رشيد بضربه المثل بهم في مباحثه التنديدية بسادتنا في كفاءة الزعامة وقيامهم بشؤونها ولا نظن - إن صح تركهم لأنقرة - إلا أنه لا فرق بين ذلك وبين تسليمك يا مولانا لدمشق. اهـ كلام جريدة القبلة بنصه السقيم وعسلطتها المعروفة. *** (المنار) لو أردنا أن نرد على كل ما في هذه المقالة من الخطأ والخطل الشرعي واللغوي والسياسي لشغلنا قرَّاء المنار زمنًا طويلاً بمسائل يفضلون جميع مباحث المنار عليها، فنكتفي إذًا بما نراه مفيدًا من ذلك. عجز سياسي القبلة أو سائسها أن ينقض شيئًا من (الحقائق الجلية) التي أثبتناها في مقالنا التاريخي فحصره الإنكار والرد علينا بما أورد في مقالته يتضمن الاعتراف بتلك الحقائق كما سبق لنصيره الذي رد علينا في الأهرام، فما أورده ينحصر في مسألتين مبتكرتين، ومسألتين منقولتين: أما المسألتان اللتان جادت بهما قريحة سائس القبلة وقلما يصدر مثلهما إلا عن ذلك الفكر الغريب، والدماغ المخالف لسائر أدمغة البشر في التركيب، فأولاها وأولاهما بالتقديم ما أشار إليه بعنوان المقالة: أأعجمي أم عربي؟ *** إنكار جريدة القبلة لكون صاحب المنار عربيًّا شرح سائس القبلة هذا العنوان بما صرح فيه بإخراجنا من الأمة العربية وإلحاق نسبنا بالأعاجم والظاهر أنه يعني بهم الترك الذين أنكرنا عليه عداوته لهم ومحاربته إياهم توليًا للإنكليز، ولنا في هذه المسألة أبحاث: ١- إذا كان يعني أن صاحب المنار تركي الأصل أو غير عربي بدليل ما كان من غيرته على الدولة العثمانية، فأكثر مسلمي الأرض من عرب وعجم أتراك؛ لأنهم يشاركون صاحب المنار في رأيه وشعوره في الأمة التركية والدولة العثمانية حتى أهل الحجاز وفي مقدمتهم الشرفاء، فقد علمنا بالخُبر وخبر الثقات أن أكثرهم قد ساءه الخروج على الترك وسقوط حكومتهم وأنهم يفضلونها على حكومتهم الحاضرة ولكنهم لا يستطيعون التصريح بذلك إلا لمن يثقون بأنه لا يفشيه لحاكمهم المطلق. ٢- إذا كان من ينتصر لقوم ويدافع عنهم ولو بالحجة والبرهان لا يكون إلا من المشاركين لهم في نسبهم، فما القول فيمن ينتصر لقوم باللسان والسيف والسنان، ويحارب أهل دينه ويخرج على سلطانه وخليفته ويتولاهم عليه؟ أليس هو الأولى بأن يعد منهم إن لم يكن بالنسب فبقوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} (المائدة: ٥١) . ٣- بعد أن خاطب سائس القبلة صاحب المنار بقوله: (تزعم أنك من عنصرهم) أي العرب، سأله سؤال تعجيز: أهو عربي أم عجمي؟ (قال) : وإن كان الأول فليسلسل وثائقه إلى الفخيذة التي يريد أن ينتمي إليها، تأمل قوله (يريد أن ينتمي إليها) فيا ليت شعري هل القاعدة عند من يريدون أن يتولوا ملك العرب ألا يعتدوا بعربية أحد إلا إذا جاءهم بوثائق مسلسلة إلى الفخذ أو الفخيذة التي ينتمون إليها أو يريدون الانتماء إليها؟ أم ذلك خاص بأهل الحضارة من عرب سورية والعراق وأمثالهما كمصر والمغرب الأدنى والأقصى؟ ٤- إن سائس القبلة يعلم أننا ننتمي إلى آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم ويريد أن يطعن في نسبنا طعنًا بليغًا بإخراجنا من الأمة العربية بأسرها جهلاً منه بدينه وبنفسه، فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه. والمراد أن ذلك من أعمال الكفر والجاهلية، ونحن قد ذكر لنا بعض أهل بيوتات مكة ما هو مشهور فيها من أن بعض كبراء أمرائها قد ثبت بطلان نسبه في المحكمة الشرعية بشهادة الشهود لدى القاضي الشرعي بأن أمه - وهي مملوكة بالطريقة المعروفة اليوم وهي غير شرعية غالبًا - دخلت بيت أبيه وهي حامل به ووضعته قبل أن يتم لها في داره أقل من مدة الحمل الشرعية وحكم القاضي بذلك، فقلنا: لكنه يدَّعي النسب العلوي وحكم الشرع أن الناس مأمونون على أنسابهم، وأن الطعن في النسب من عمل الجاهلية ونحن لم نطلع على الحكم الشرعي الذي تذكرونه، فأين هذا الأدب الشرعي من جرأة سائس القبلة وعدم مبالاته بالشرع والدين؟ ٥ - يقول سائس القبلة متهكمًا كعادته أنه سأل صاحب المنار عن الوثائق المذكورة (ليتضاعف قدره وتترادف كبرياء عظمته) لديه أي بالفخيذة الحقيرة التي يريد الانتماء إليها، وجوابه أن صاحب المنار على كونه شريف النسب وعنده وثائق وجميع أهل قريته (القلمون) ما عدا الدخلاء وهم قليلون معروفون، شرفاء ونسبهم متواتر في بلادهم يضرب به المثل فيقال: سيد شريف من القلمون، وذكرهم بعض المصنفين، وعلى كونه هو أشهرهم في ذلك حتى إذا أطلق لقب (السيد) عند أهل العلم والأدب والوجاهة في طرابلس وبيروت ينصرف إليه، لم يفتخر يومًا من الأيام بنسبه لا قولاً ولا كتابة [٢] فهو يدع الكبرياء والإعجاب بالنسب لمن حرموا من هداية الشرع وآدابه ومن الفضائل الذاتية فلم يجدوا لهم مفخرًا يتكبرون به على الناس إلا الانتماء إلى أولئك الآباء الذين كرَّمهم الله تعالى بالعلم والهدى لا بمجرد النسب، فأبو لهب أخو حمزة والعباس رضي الله عنهما، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: ١٣) وقد روى الترمذي في جامعه وغيره من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف يوم الفتح على راحلته يستلم الأركان بمحجنه فلما خرج لم يجد مناخًا فنزل على أيدي الرجال فخطبهم فحمد الله وأثنى عليه وقال: (الحمد لله الذي أذهب عنكم عُبية الجاهلية وتكبرها بآبائها، الناس رجلان برٌ تقيٌ كريمٌ على الله، وفاجرٌ شقيٌ هينٌ على الله والناس بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: ١٣)) والأحاديث في هذا الباب كثيرة. نعم إن صاحب المنار لا يعُد شرف النسب سببًا للكبرياء كغيره، بل يرى أن للكبرياء سببًا واحدًا وهو شعور المتكبر بمهانة يحاول إخفاءها بتكلف إظهار نفسه كبيرًا، على أنه لو كان يفاخر بعلم أو نسب لما كان يحفل بأن يكون من العظماء في نظر سائس القبلة بعد أن علم مِن حاله ومَن العظماء في نظره ما علم. الكبر غمط الحق واحتقار الناس كما عرفه سيد العرفاء - صلى الله عليه وسلم - وصاحب المنار يحمد الله تعالى أن وفقه الله للخضوع للحق والاعتراف به ولو على نفسه وقومه وهو يطالب أهل العلم والرأي بمناره في كل سنة أن يبينوا له ما لعله أخطأ فيه من الحق ليرجع إليه، ولم يجعله كمن لا يتجرأ أحد على مراجعته في خطأ ديني ولا سياسي حتى أنه حرف بعض آيات القرآن لفظًا ومعنى، وكذب على الرسول فيما عزاه إليه من الموضوعات، وقد أرشدنا بعض محرري القبلة إلى تنبيهه، فلم يتجرأوا بعد أن جربوا النصح والتنبيه فأهينوا، وهو يحتقر العلم والعلماء ومن فوقه من السادة والأمراء. ٦- لو صدق سائس جريدة القبلة ومحاميه الدكتور طليع في زعمهما أن صاحب المنار قد افتخر بأنه كان في دمشق ثاني الملك بكونه رئيس المؤتمر السوري العام الذي كان يمثل الأمة وله صفة ما يسميه علماء السياسة بالجمعية التأسيسية - لما كان أبعد عن الصواب وأحق بالنقد من جريدة القبلة وسائسها بما نشر فيها من الفخر والتبجح بقول التيمس: إن البريطانيين حاولوا البحث عن بدل للسلطنة العثمانية البالية فوجدوا أبدالاً ذكرت التيمس منهم: العرب وفلسطين الجديدة وأرمينية الجديدة، فجعل سائس القبلة هذا القول فخرًا للعرب الذين انتحل لنفسه حق تمثيلهم بمثل قوله: فإن على مثل هذا يتنافس المتنافسون، ولمثله فليعمل العاملون، فجعل قول التيمس بالمكانة التي خص بها كتاب الله تعالى بقاءه في دار كرامته بصيغة الحصر، فقال مشيرًا إلى ما دل عليه ما قبله من الخلود في النعيم المقيم والأمن الدائم من العذاب: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ} (الصافات: ٦٠-٦١) فخالف سائس القبلة كتاب الله تعالى وجعل رضاء الإنجليز المستنبط من إشراكهم للعرب أو للحجاز مع اليهود الصهيونيين والأرمن في إرث ملك الدولة العثمانية هو الفوز العظيم الذي يجب أن يعمل له العاملون دون سواه كما يعمل المؤمنون المتقون لنيل رضاء الله تعالى والخلود في دار كرامته، ومثل هذا يقال أيضًا في تمثله بقوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المُتَنَافِسُونَ} (المطففين: ٢٦) . ويؤيد هذا ما هو أغرب منه في الإخلاص للإنكليز وهو ما قاله ملك الحجاز نفسه في كتاب لنائب ملك الإنجليز بمصر ونشره مرارًا في جريدة القبلة افتخارًا وتبجحًا به لحسبانه أنه من آيات الله الكبرى، وأنه يبرئه مما يرميه به المسلمون وهو أنه بعد أن أدلى بإخلاصه وإخلاص أولاده (الذين لا تغيرهم الطوارئ والأهواء) لبريطانية العظمى وطالبها بإنجاز ما كان طلبه منها لأجل نهوضه بالخروج على دولته وقتالها معها أو تعيين بلد يقيمون فيه ليسافروا في أول فرصة إليه، وبعد أن صرَّح بأنه لا يقبل من مؤتمر الصلح أن يقرر له شيئًا من دونها، قال ما نصه: (ولو قرر المؤتمر المذكور أضعاف مقرراتنا وكان ذلك من غير وساطتكم وقبلناها فنكن (كذا) مطرودين من رحمة الباري جل شأنه الرقيب على قولي هذا) اهـ بنصه. ولم نعهد قبل هذا أن أحدًا من البشر اختار لنفسه أن يذل ويخزى لمخلوق بجعل العبودية تحت ظل سلطانه خيرًا من كل ما يتصور من رضوان الله ونعيمه في الآخرة أو مثله، وخيرًا من الحرية والاستقلال المطلق في الدنيا، فإن (المقررات) التي يطالب ملك الحجاز الإنكليز بتنفيذها عبارة عن تأليف إنكلترة حكومة عربية له تتولى هي صيانتها والمحافظة عليها في داخليتها وسلامة حدودها البرية والبحرية من أي تعدٍّ بأي شكل حتى الدسائس الداخلية واعتداء الحاسدين له من أمراء العرب كما صرَّح به في كتابه الذي كتبه إلى نائب الملك في ٢٧ شعبان سنة ١٣٣٣ وهو الكتاب الذي يسميه مقررات النهضة وهو الآن يقول: إن مؤتمر الصلح لو قرر له الاستقلال التام المطلق من قيود تأليف الإنكليز لحكومته وحفظها له في داخليتها وحماية حدودها ومن غير أن تكون البصرة (تحت أشغال العظمة البريطانية) كما اقترح من تلقاء نفسه، وفلسطين لليهود الصهيونيين، وسورية للفرنسيين كما قرر له مؤتمر الصلح، كل هذا بدون وساطة (العظمة البريطانية) وقَبِله - يكون مطرودًا من رحمة الله تعالى كإبليس لعنه الله، ومن المعلوم أن (العظمة البريطانية) لم تنفذ تلك المقررات التي جعل تعديلها سببًا موجبًا لخروجه مع أولاده من الحجاز أو بلاد العرب إلى حيث تختار لهم العظمة البريطانية، وهي لا تختار لهم إلا الأمكنة التي هم فيها، فإنهم لا ينفعونها في سواها. *** شماتة سائس الحجاز بالكماليين والمسألة الثانية مما انفرد به سائس جريدة القبلة في الرد علينا هي التماسه من صاحب المنار (إرشاد العالم إلى من يجب أن يتبعوه الآن: أهم يقتدون بأنقرة أم القسطنطينية؟) وقفَّى على هذا السؤال بذكر ما نقلته البرقيات من عزم الكماليين على إخلاء أنقرة ليظهر للناس خطأ صاحب المنار بتنويهه بهم وتفضيلهم على زعماء الحجاز يعني أنهم غلبوا على أمرهم ولم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا، وطالما أظهرت جريدة القبلة الشماتة بهم، وجوابنا أننا نحمد الله تعالى أننا لم نر هذه الشماتة بالترك وسرور سائس جريدة القبلة بانتصار الصليب على الهلال كسروره من قبل بفتح القدس وبغداد ودمشقِ إلا بعد أن نصر الله الكماليين على اليونان وأقصوهم عن أنقرة مذءومين مدحورين. وليعلم سائس القبلة أن العالم الإسلامي لا يحتاج إلى مرشد يرشده إلى من يقتدي به من فريقي القسطنطينية وأنقرة، فعقيدة المسلمين الدينية وشعورهم الإسلامي خير مرشد يرشدهم إلى ضد ما تغشهم به جريدة القبلة المخالفة للرأي العام لأهل القبلة، وهم يعلمون أنه لا خلاف بين أنقرة والآستانة في نفس الأمر وإنما ابتليت القسطنطينية بالاحتلال الأجنبي فقامت أسود أنقرة بواجب الدفاع عنها مجاهدين بأموالهم وأنفسهم في سبيل إنقاذ بلادهم كلها وسلطان خليفتهم من السيطرة الأجنبية التي يفتخر سائس القبلة وحكومته الحجازية بالخنوع لها طوعًا واختيارًا بمثل ما نقلناه عنها آنفًا. نعم إن الآستانة خدعت أولاً بدسائس الأجانب فوجد فيها من عد الكماليين عصاة، ولم يكن ذلك مميلاً للعالم الإسلامي إلى زعماء الحجاز الذين اختاروا لأنفسهم أن يكونوا آلات لأولئك الأجانب ولكن الآستانة لم تلبث أن ثابت إلى رشدها وعرفت للكماليين فضلهم عليها وعانق مندوبها في لندن مندوب أنقرة. أليس صاحب المنار صادقًا في حكمه بأن زعماء أنقرة سجّلوا لأمتهم الإسلامية لا لشعبهم التركي وحده الفضل والفخار وزعماء الحجاز سجلوا على أنفسهم وأعوانهم.. .؟ *** هل إخراج الترك من سورية مفخرة للحجاز؟ وأما المسألتان المنقولتان فالأولى منهما نقلتها جريدة القبلة عن نصيرها وهي أن زعماء الحجاز هم الذين أخرجوا القائد الألماني الذي كان أحد قوَّاد جيش الدولة العثمانية من سورية إلخ، وجوابنا عنها على فرض التسليم أننا نعدها من أعظم النكبات التي أصابت العرب والإسلام بشؤمهم بسلبهم هذه البلاد وغيرها من الدولة الإسلامية التي جعلت لأهلها من الحقوق في الدولة مثلما للترك فيها ليحل محلهم فيها الإنكليز واليهود الصهيونيون والفرنسيس، وحالة أهل البلاد معهم معروفة، ولكن سائس القبلة ودكتوره من طائفة الدروز ومن أيّده كرياض أفندي الصلح من طائفة أهل السنة من المسلمين - يفضلون أخذ الإفرنج للأرض المقدسة والأرض المباركة (سورية) على سلطان الترك عليها ويخالفهم في ذلك العالم الإسلامي كله والسواد الأعظم من أهل سورية حتى النصارى الكاثوليك كما يعلم ذلك المختبرون لحال البلاد، ولقد قلت في شهر مارس سنة ١٩٢٠ (لموسيو روبير دوكيه) ناموس الجنرال غورو: أخبرني رجل من أشهر أنصاركم وأعلمهم بحال البلاد أنه لو خير أهل لبنان حتى الموارنة منهم بينكم وبين الترك لفضل الترك عليكم ثمانون في المائة من أنصاركم الموارنة، فما القول بغيرهم؟ فقال: إننا نعلم شيئًا من هذا ولكن دون هذه النسبة، وقد قرأنا من قبل في جريدة القبلة حتى لا يتشاءم فيه سائسها من انتصار الكماليين على اليونان وينبه الإنكليز إلى ما فيه من الخطر على سورية ويعرض حكومته لتلافي هذا الخطر. ولما أشيع خبر استيلاء اليونان على مدينة أنقرة، وكنا في مدينة جنيف بسويسرة، أظهر رياض أفندي الصلح السرورَ وعلله بأن انتصار الترك ربما يفضي إلى زحفهم على سورية!! قلت: وهل تفضل الفرنسيس على الترك؟ قال: نعم إنه يفضل عليهم حتى الفرنسيس واليونان، وتفضيله للإنكليز بالأولى، نعم إنه لا يفضل ذلك على الاستقلال ولو أن سورية نالت الاستقلال بما يفتخرون به مما ذكر لكان لهم أن يفخروا ولما نوزعوا في الفخر ولو باطلاً كما ينازعون به بعد هذه العاقبة السوءى لعملهم المبني على الفساد من أول يوم. *** من سَلَّم دمشق لفرنسة؟ هذا وإن من الجلي البين أن تبجح سائس جريدة القبلة نقلاً وإقرارًا بإخراج العثمانيين من سورية هو نص صريح بأنهم كانوا هم الذين فتحوها للإنكليز والفرنسيين الذين اقتسموا الولايات العربية العثمانية في أثناء الحرب، وقد هنّأهم ملك الحجاز بهذا الفتح المبين، ثم إن شبله الملك فيصل بذل جهده لجعل سورية للإنكليز وحدهم باسم الانتداب المبتدع فلما أعلموه بالقسمة اتفق مع موسيو كلمنصو على إقناع سورية الشمالية بالانتداب الفرنسي، فكان صاحب المنار في طليعة المعارضين له قبل عقد المؤتمر السوري العام، ثم انتخابه رئيسًا له بعد ذلك، وهو لم يستطع قبول إنذار الجنرال غورو والخضوع للانتداب الذي سيم خسفه إلا بعد تعطيل المؤتمر، وقد صرّح في البرقية التي أرسلها إلى الجنرال أنه قَبِل الانتداب بالرغم من إرادة الأمة وعرَّض نفسه وحكومته للخطر، ومن المعلوم أن المؤتمر كان أكبر ممثل للأمة؛ لأنه هو الذي أعلن الاستقلال ونصَّب فيصل ملكًا باسم الأمة، فإذا كان سائس القبلة ينكر هذا أو يماري فيه فإننا ننشر نصوص البرقيات التي أرسلها الملك فيصل إلى الجنرال غورو، وما احتف بها من الحوادث خصوصًا اتهام فيصل للمؤتمر بأنه قرر خيانته وقتله وما خاطبته به في هذه المسألة وغيرها. أليس من غرائب شؤون البشر أن يقول العالمون بهذه الحقائق أن صاحب المنار هو الذي أدت مواقفه إلى تسليم البلاد إلى الجنرال غورو؟! ثم يعللون ذلك بزعمهم تهكمًا أنه ادَّعى أنه كان هو الآمر الناهي في دمشق يولي من يشاء ويعزل من يشاء؟ وهل يمكن أن يصل أحد إلى سفه نفسه بمثل هذا إلا بخذلان من الله؟ *** من حمل أمير مكة على الثورة وأما المسألة الثانية مما نقلته القبلة عن نصيرها وهي زعم الدكتور طليع الذي ارتضاه سائس القبلة، أن صاحب المنار أشار على ملك الحجاز بعداوة الاتحاديين فأفضت العداوة إلى قتال الترك؛ لأن أمر الدولة كان بأيدي الاتحاديين - فهي تضليل ظاهر وإفك بيّنٌ، فإن صاحب المنار إنما ذهب إلى الحجاز حاجًّا بعد خروج أمير مكة على الدولة وقتاله إياها واستعانته عليها بالدولة البريطانية التي أيدته بأساطيلها وببعض الجنود المصرية، وبذلك غلبت الحامية العثمانية التي كانت بجدة ومكة والطائف. وفي تلك الأثناء نصحنا له بما أشرنا إلى بعضه في بعض المقالات تحت إشراف المراقبة الثقيلة على المنار وصرَّحنا ببعضه في مقالة الحقائق الجلية وأهمه: التحذير من عداء الأمة التركية وأن يكون من أسباب سقوط الدولة العثمانية، وأن يحصر عداوته في خطة الاتحاديين الطورانية، وإنكار قسوة جمال الوحشية، حتى يبقى للصلح بينه وبين الدولة موضع كما صرحت بذلك في خطبتي التاريخية في احتفال العيد (بمِنَى) وأظهر لي القبول وكان هذا ممكنًا. وبعد العودة إلى مصر أنكرت في رحلة الحجاز على بعض الشبان الذين ذهبوا إلى الحجاز امتهان الدين، وفضلت عليهم من كنا ننكر عليهم من الاتحاديين فبادرت الحكومة الحجازية إلى عقابنا على هذا بمنع مجلة المنار من دخول الحجاز، ثم استرسلت في أعمالها السياسية والحربية بما كنا ننكره عليها ولا نستطيع مقاومتها بقول صريح، ولقد استغربنا إقرار سائس القبلة ما ذكر من سخف نصيره والمحامي عنه، ولا سيما زعمه أنه (ما حمل جلالة ملك الحجاز لمناوئتهم إلا كذا وكذا) فهل كان أمير مكة يقرأ مقالات المنار في الإنكار على الاتحاديين وكانت عنده من الأسباب التي حملته على موالاة إنكلترة ومساعدتها على قتال الدولة العثمانية؟ أم كان ذلك بفعل الدسائس والجنيهات الإنكليزية. كلا إن ما كتبناه في الإنكار على ما أتاه بعض الاتحاديين المارقين قد كان مشايعة ونصرًا لجمعية علماء الآستانة وللأحزاب العثمانية المخالفة لهم من حيث هم حزب سياسي لم يقدر المركز الديني للدولة حق قدره وفتن بالعصبية الطورانية حتى كان جميع المتدينين خصومًا له، وإن لم تظهر لهم حقيقة الغلاة من زعمائه إلا بالتدريج، ولم يكن في شيء من ذلك تحريض على الترك ولا على الدولة بل كان انتصارًا لها، وقد علِمتُ في أوربة أن السواد الأعظم في الآستانة والأناضول صار خصمًا لأولئك الغلاة وائتمروا بالفتك بهم بعد انتهاء الحرب، ونحمد الله تعالى أن ظهر للجميع تلك العصبية الجاهلية التي أنكرناها عليهم وأجمعوا على صحة رأينا، وسنبين ذلك في الرحلة الأوربية، إن شاء الله تعالى. تنبيه: افترى الدكتور طليع علينا ما شايعته عليه جريدة القبلة مِن زعمه أننا كنا نُحرض على الترك، وأن ذلك كان من أسباب خروج أمراء الحجاز عليهم وغرضهما من ذلك معروف جلي، وإلا فليأتونا بنص من المنار يؤيد زعمهما، كما افترى علينا الدكتور طليع بأننا كنا مؤيدين لملك الحجاز في عداوته وقتاله للترك إلى عهد قريب، والصواب أننا كنا في أول العهد بالثورة غير مطلعين على دخائلها وأسبابها فظننا أنه يمكننا أن نوقفها عند حد ما يسميه المناطقة (قضية مانعة الخلو) وهو إما أن تنفع وإما ألا تضر وبذلنا ما استطعنا من النصح في هذه السبيل، وقد رابنا كلام الرجل في مكة وإن صرح في حفلة (مِنى) العامة جهرًا بأنه لم يعبر أحد عن رأيه من غير تواطؤ قبل خطبتنا في تلك الحفلة ونحن نذيل هذا الرد بنص بلاغ حكومة الحجاز الرسمي بمنع المنار من الحجاز الذي منعتنا المراقبة من نشره في أيام الحرب، وهذا نصه منقولاً عن عدد ٧٨ من جريدة القبلة الذي صدر في ٢٣ رجب سنة ١٣٣٥. ((يتبع بمقال تالٍ))