] فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ [[*] . ذهب قوم إلى أن الإنسان في هذه الدنيا حيوان كسائر الحيوانات، وأنَّ زعم بعض أفراده أنه مَلك أرضي وأنه أفضل المخلوقات ما جاء إلا من العجب والغرور , وأن كماله إنما هو في التمتع باللذات الجسدية بقدر ما يستطيع , ولا يحرم نفسه منها إلا لجهله وغروره , بل تطرف بعض أهل هذا المذهب الحيواني فقالوا: إن الإنسان أخس من غيره من الحيوانات , وأنقص في فطرته من كثير من الحشرات لأنها خلقت مستقلة في شئون معيشتها وخلق هو جاهلاً فاحتاج لتقليدها والأخذ عنها , ولولا استعداده للتقليد لما أمكن أن يعيش ويثبت , والمقلد لا يكون إلا أنقص من مقلَّده. قالوا: لا يوجد حيوان يقلد الإنسان فيستفيد بتقليده ما يقوم به أوده ويحفظ حياته , والإنسان قد قلد كثيرًا من الحيوانات والحشرات , فإنه تعلم النسج من العنكبوت , والهندسة من النحل , وبناء البيوت من النمل الأبيض , وتعلم قابيل ابن آدم من الغراب كيف يواري سوءة أخيه. وذهب قوم إلى أن الإنسان مَلك روحاني، ولكنه لبس هذا الجسد الحيواني ليختبر الحالة الحيوانية ويعرف حقيقة العوالم الجسدية فنسي أفراده عالمهم الأصلي، وشغلهم هذا الثوب العارض عن حقيقتهم، فيجب عليهم أن يجتهدوا في التخلص من عوائقه والفرار من دواعيه بحسب طاقتهم، وأن يخدموا الروح ويقووا سلطانه حتى يقطعوا هذه المرحلة الجسدية ويصلوا إلى عالمهم الروحاني (الآخرة) غير منهوكي القوى، وهناك يكونون أرواحًا تسبح مع الملائكة المقربين في عالم الملكوت الأعلى حيث لا لذات جسدية كالأكل والشرب وملامسة النساء، أي أن عالم الوجود يخلو من هذا النوع الذي نسميه (الإنسان) وتنعدم منه اللذات المادية التي سموها بزعمهم نقائص , بل يتخيل كثير منهم أن عالم المادة يتلاشى ويضمحل ولا يبقي إلا عالم الأرواح والروحانيات. ومن العجيب أن أكثر الناس يعظمون أهل هذا المذهب على اختلاف آرائهم ويعتقدون فيهم الكمال مع أنهم في العمل أقرب إلى المذهب الذي قبله، والحق هو ما نقصه عليك فيما يلي: إذا تتعبت أحوال بني آدم في عامة أوقاتهم , واستخرجت مقاصدهم من جميع أعمالهم ترى أنها محصورة في تحصيل المنافع ودفع المضار , وإن شئت فقل: اجتناب المؤلم واجتلاب الملائم , وإذا سبرت أفكارهم ووقفت على مذاهبهم في المنافع التي يتهافتون عليها والمضار التي يهربون منها؛ ترى أنه لا معنى للمنفعة عندهم إلا اللذة , ولا معنى للمضرة إلا فقدها , واللذات منها الجسدي والمادي ومنها الروحي والعقلي , والإنسان نزاع بطبيعته إلى كلتا اللذتين , ولكن اللذة الجسدية سابقة في الطبيعة , وحياته الشخصية والنوعية متوقفة عليها فلا يستغني عنها في وقت من الأوقات , ولهذين السببين ترسخ فيه وتقوى فتغلب على أختها التي تأتي بعدها لأن بها تمام الإنسان وكماله. والجزء المتمم المكمل لا يكون كذلك إلا إذا كان قبله جزء يكون هو مكملاً ومتممًا له. وكل ماهية من الماهيات المركبة التي تكمل بتمام ما تركبت منه تعدم بعدم أي جزء من أجزائها سواء كان الجزء المعدوم هو الأول في الوجود أو المرتبة أو كان الثاني , وما تعدم بعدمه تنقص بنقصه وتصل إلى كمالها باستيفائه ما هو مستعد له في أصل الفطرة التي فطر الله الناس عليها مع الاعتدال الذي هو ميزان الفضيلة والكمال. إذا علمت هذا أيها الناظر المدقق؛ يتبين لك غلط الذين يزعمون أن اللذة الجسدية نقيصة في الإنسان , وطلبها ولو مع الاعتدال مذموم عقلاً أو شرعًا كأن هؤلاء الناس غفلوا عن أنفسهم فجهلوا أن الإنسان مركب من جسد وروح وأن تركه لدواعي الجسد وما يحفظ وجوده ويصل به إلى كماله هو كتركه دواعي الروح العاقل وما يصل به إلى كماله، كلاهما خروج بهذا النوع عن نوعيته , وهو محال لا يطلبه إلا جاهل. ولو أمكن للإنسان أن يستغني عن اللذات الجسدية ويعيش بدونها مكتفيًا باللذات الروحية مستغرقًا في المعارف العقلية لكان ملكًا ولم يكن إنسانًا , ولو حبس نفسه على اللذات الجسدية ولم يعبأ بما يطالبه به روحه وعقله من تحصيل اللذات المعنوية لهبط من أفق الإنسانية إلى أرض الحيوانية , وكان كالبهائم السائمة والدواب الراعية فالحق الذي لا مرية فيه أن الإنسان لا يكون إنسانًا على وجه الكمال إلا إذا استوفى لذتي الروح والجسد جميعًا مع الوقوف عند حدود الاعتدال. هو هكذا في الدنيا وسيكون كذلك في الآخرة لأن الآخرة ليست عالمًا يمحى فيه عالم المادة من لوح الوجود ويخرج به الإنسان عن كونه إنسانًا وإنما هو عالم يكون الإنسان به في أعلى أوج الكمال فيستوفي جميع اللذات الروحية والجسدية من غير عناء ولا شقاء ولا جهاد ولا بلاء أو يحجب به عن اللذتين كلتيهما. بهذا جاء الدين الإسلامي فكان حكمًا عدلاً بين الناس: مليين وفلاسفة , وحُكمه هذا ترتاح له النفس المعتدلة , ويرضى به العقل السليم إذا كان يؤمن بالغيب الممكن الذي يُخبر به مَن ثبث صدقه بالآيات البينات. نعم إن العقل الجوال لا يرضيه الأخذ بالإجمال فيطالب بالتفصيل ويسأل عن البرهان والدليل. وقد تكفل له الإسلام بكل هذا، فإنه لم يكلف أحدًا بأن يأخذ به تقليدًا بل نعى على المقلدين وقال: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (البقرة: ١١١) . ليس من غرضنا أن نبين في هذه المقالة وما بعدها ما قصه علينا الدين من أحوال الآخرة وبيان أنه ممكن منطبق على ما يليق بعدل الله تعالى وفضله , وإنما الغرض بيان ما أرشد إليه من الكمال الإنساني في الدنيا والآخرة , وكيف جمع بين مصالح الدارين وألف بين مطالب الروح والجسد فوافقت الشريعة نظام الفطرة والطبيعة لأن كلاًّ منه جل وعز , ولا يصح في العقل أن الحَكَم العدل يخلق الخليقة بنظام محكم ثم ينزل شريعة تخل بذلك النظام (وقد أوضحنا هذا من قبل في مقالة عنوانها (الشريعة والطبيعة والحق والباطل) فليرجع إليها من أراد) وسنبين فيما يأتي وجه الجمع بين الأمرين , ونشرح معنى الزهد والقناعة على الوجه الذي ينطبق على قاعدتنا، فانتظر ما يفتح الله به في الأجزاء التالية. ((يتبع بمقال تالٍ))