وفق موسيو بونسو المندوب السامي الفرنسي الأخير لسورية ولبنان لِمَا لم يوفق له مَنْ قبله من المندوبين، فألف فيها حكومة مؤقتة عهد إليها بتأليف جميعة تأسيسية منتخبة تضع قانونًا أساسيًّا لحكومة البلاد على قاعدة الاستقلال والسلطان القومي، ثم ينتخب بمقتضى هذا القانون مجلس نيابي للبلاد يكون من وظائفه عقد اتفاق مع الدولة الفرنسية تحدد به علاقتها بسورية موضوعًا وزمنًا، وقد وعد هذا المندوب بالسماح لمنتخبي أعضاء الجمعية التأسيسية بالحرية التامة التي لا يشوبها شيء من تدخل السلطة المحتلة في انتخابهم. عهد بتأليف الحكومة المؤقتة إلى الشيخ تاج الدين الحسيني نجل الأستاذ المحدث الشيخ بدر الدين الحسيني الشهير فألفها من بعض الوطنيين وبعض الحكوميين ووقف هو فيها موقف الوسط بين الفريقين، فلما وقع الانتخاب انتخب هو من قبل كل منهما، فكانت هي البراعة الثانية التي أتقنها ونجح فيها، وأما البراعة الأولى فهي أنه ما زال يسعى لرياسة الحكومة سعيها منذ سنين حتى أمكنه استمالة السلطة الفرنسية من ناحية وقوة المعارضة الوطنية من ناحية، ولكن الثقة به عند الأولى أقوى، وهو يستعين بمكانته عند كل منهما على الأخرى. إنني قد سررت بوجود سيد شريف وشيخ معمم يملك هذه البراعة، وأتمنى من صميم قلبي لو يوفق لحفظ مركزه بالإخلاص لقومه وحسن الصلة بينهم وبين الدولة التي امتحنوا بها - وأحب له الثبات على الزي العلمي العربي في وقت ينفر فيه الجمهور العصري من زيّ رجال العلم الإسلامي حتى صار بعضهم أميل إلى البرنيطة منه إلى العمامة ولا سيما المتفرنجين الذين يعدونها كقلانس رجال الكهنوت الديني عند النصارى وغيرهم الذين حبسوا أنفسهم على خدمة دينهم وإرشاد أهله إلى الاعتصام به ودعوة غيرهم إليه ودفاعهم عنه، وحملة العمائم عند المسلمين ليسوا كذلك، وإن سروري بوجود الشيخ تاج الدين على رأس الحكومة السورية متحليًا بعمامته البيضاء (ولم يبق له من هذا الزي القومي غيرها) لا يشوبه رجاء في خدمة للدين الإسلامي يقوم بها، وإنما أنا خصم لدعاية التفرنج التي يُقَبِّح أهلُها - قبَّحَهم الله - كل ما هو من مشخصات أقوامهم وأوطانهم ومن مقوماتها أيضًا ويدعون إلى استبدال غيره به بشبهة التجديد الذي معناه احتقار تاريخهم وأمتهم وتفضيل غيرها عليها، فأنا أُلاحظ في هذا قول صديقنا الأمير شكيب أرسلان في المقابلة بين قومنا العرب وبين الإفرنج: يملك إذا ما بات فيهم متوّجا ... فيا طالما قد كان فينا معمما هذا وإن مسيو بونسو وعد بعدم تدخله في انتخاب الجمعية التأسيسية كما قلنا، ولكن الوزراء الحكوميين وسياستهم الفرنسية تدخلوا وبذلوا جهدهم في ترجيح كفة رجالهم على الوطنيين، ويقال أيضًا: إن بعض الموظفين الإفرنسيين في الأقضية قد تدخلوا أيضًا، ومع هذا كان النجاح الأكبر في الانتخاب لجماعة الوطنيين المشهورين بمعارضتهم لكل ما فعلته السلطة العسكرية في البلاد من المنكرات وللانتداب الفرنسي نفسه. بعد أن تم انتخاب الجمعية التأسيسية وانتخب صديقنا هاشم بك الأتاسي رئيسًا لها، وبدأ الأعضاء يجتمعون كثر خوض الناس والصحف فيما تقره من شكل حكومة البلاد هل هو الجمهورية أم الملكية، وصار كل من يرجح رأيًا يدلي بحججه على ترجيحه، وترجح الصحف أن الرأي الغالب في البلاد تفضيل الملكية على الجمهورية، وإن الجمعية التأسيسية ستقرر هذا الرأي بالأكثرية، وإن لم يسمع أحد من أعضائها كلمة في هذا الموضوع، ونقلت إلينا أن المرشحين لمنصب الملك هم الشريف علي حيدر بك، والشريف علي بن الحسين، وأخوه الشريف زيد، والأمير فيصل آل سعود نجل ملك الحجاز ونجد. ومن الناس من يذكر السيد تاج الدين الحسيني رئيس الحكومة السورية، وأحمد نامي بك سلفه، وأن رجاء هذين في رياسة الجمهورية أقوى، فأما الشريف علي حيدر فله رجال في سورية يرشحونه، وقد سبق نجله الشريف عبد المجيد بك (الداماد) إلى هذا السعي منذ سنين إذا اتخذ مدينة بيروت مقامًا له، وأما نجلا الملك حسين أخوا الملك فيصل فيسعى لهما أو لأحدهما أخوهما الملك، ويروى أن مجيء رئيس ديوانه وبعض كبار الوزراء والرؤساء للدولة العراقية إلى سورية في هذا العهد يراد به السعي لذلك بصفة غير رسمية، ولذلك كذبوا ما عزي إليهم. وحجة من بقي في سورية من أنصار هذا البيت أنه أرجى لتحقيق وحدة بلاد الحضارة العربية العراق وسورية والأردن، وكذا فلسطين ولو بعد حين في دائرة الأمبراطورية المرنة - بتوحيد التعليم وتوحيد اللغة التى يستمد منها العلم العصري والفنون وتوحيد المعاملات الاقتصادية وغير ذلك، فإن وجود الشريف علي أو الشريف زيد ملكًا في سورية بين حكومتي أخويه: فيصل وعبد الله يمهد السبيل لذلك وهو مرجو عندهم. وأما خصومهم فلا يسلمون لهم هذا، ويرون أن انفراد إنكلترة بالسلطان من مصر إلى خليج فارس أعظم خطرًا على الأمة العربية وعلى الملة الإسلامية، على ما ظهر من سوء نيتها في مسألة الصهيونية والتعدي على أرض الحجاز، ويعدون من غوائله أيضًا ما يخشى من وقوع الشقاق بين سورية وجارتيها الحجاز ونجد كما هو واقع على حدود العراق وشرق الأردن. وعندي أن أقوى الموانع من اختيار أحد أفراد هذا البيت أنه قد ثبت بالتجربة أنهم مفتونون بحب الملك والإمارة وأنهم يبذلون في هذه السبيل استقلال البلاد ومنافعها ورقبتها أيضًا للأجنبي الذي يكفل لهم لقب ملك أو أمير، فهذا الشريف عبد الله أظهر قد جاء منطقة شرق الأردن، التي كانت تابعة لحكومة سورية باتفاق فرنسة وإنكلترة وليس فيها احتلال أجنبي؛ لأن الجنرال غورو لم يعتد عليها بعد احتلاله لدمشق وإسقاطه لحكومة فيصل فولاه أهلها والنازحون إليها من رجال حكومة سورية العسكريين والمدنيين أمرها، فلم يلبث أن جلب لها الاحتلال البريطاني وجعلها تابعة لفلسطين في الانتداب عليها، ثم ترك للحكومة البريطانية ما كان بيده من أمر سكة الحديد الحجازية بكتابة رسمية، ثم عقد معها محالفة فيها من مخازي الذل والاستعباد ما ضج منه بدو أهلها والحضر، ولو لم يكن منه إلا أن الأمر والنهي والتصرف المطلق فيها لجلالة ملك الإنكليز حتى إن له أن يحشد فيها من الجنود البريطانية ما شاء، وأنه ليس للأمير المُوَلَّى من قبله أن يحشد جنديًّا واحدًا بدون إذن بريطاني، لكفى خزيًا وذلاًّ ومهانة واستعبادًا وخطرًا على الحجاز. وقد أرسلت البلاد وفودًا إلى الأمير يحتجون على المعاهدة ويطلبون منه رفضها فحبس بعضهم وأهان بعضًا وهدَّد آخرين، وكان من جوابه لبعضهم أنه لو لم يكن في المعاهدة من الفائدة إلا تصريحها بأن للبلاد أميرًا لكفى، قال: ولا يخفى ما في هذا اللقب من الإشارة إلى الاستقلال! فليتعز إذًا عن استعبادهم بهذه الإشارة. وأما الشريف علي فقد كان الذين رغبوا إليَّ السعي للصلح بينه وبين ابن السعود يقولون: إنه خير من أبيه وإخوته، وإنه إذا صالحه على شيء وفَّى له.... ثم علمنا من الثقات أنه عرض على الدولة الإنكليزية أن يعترف لها بالحماية الرسمية والانتداب على الحجاز [١] في مقابلة مساعدته على صرف ابن السعود عنه.. . فأجابته بأنه لا يسعها في مسألة الحجاز إلا الحياد التام؛ لأنه المركز الديني الذي يسوء العالم الإسلامي كله تدخل أي دولة غير مسلمة فيه. لم يمكنه جعل الحجاز كله تحت السيادة البريطانية ليتمتع بلقب (ملك) في ظل هذا السلطان ولكن أمكنه أن يبيع الدولة البريطانية أهم بقعة حربية بحرية اقتصادية من بلاد الحجاز، وهي البقعة الممتدة من خليج العقبة المنيع على شاطئ البحر الأحمر إلى معان ذات الموقع البري العظيم وأهم محطات سكة الحديد الحجازية قلب البلاد، ولكن كيف باعه وبأي ثمن باعه؟ كنا نجهل كيف سمح الشريف علي بن الحسين بسلخ هذه المنطقة العظيمة الشأن من أرض الحجاز وجعلها تابعة لشرق الأردن الواقع تحت السلطان البريطاني حتى كشفه لنا الريحاني في كتابه (تاريخ نجد) فإنه قال بعد ذكر ما خسره الملك علي من نقل الإنكليز لوالده من العقبة إلى قبرص، وهو ما كان يمده به من المال ما نصه: (وهناك خسارة أكبر للحجاز كانت تتعلق بسفر الحسين، وكان الأمير عبد الله يسعى لها، فهو الذي أقنع أخاه وحكومة أخيه بأن يسلموا بضم العقبة ومعان إلى شرق الأردن، وقد ضرب الأمير يومئذ على الوتر الحساس؛ إذ قال في إحدى مذكراته لجلالة أخيه ما معناه: سلموا بضم العقبة ومعان وأنا أضمن لكم من الإنكليز ما يأتي: أي ثلاثمائة ألف ليرة تعويض الضم ومئتا ألف ليرة ثمن الأملاك غير المنقولة، وقرض قيمته خمسمائة ألف جنية يعقد حالاً، ثم إبعاد ابن السعود عن الحجاز حتى تربة والخرمة، وجعل الخط الحجازي رهن إشارتكم في كل وقت. (أية حكومة في موقف تلك الحكومة الهاشمية لا تقبل بيع قطعة من أملاكها بهذا الثمن؟ وأي ملك في مركز الملك علي لا تغره تلك الأرقام؟ ولكنها أرقام في كتاب الأحلام) اهـ الريحاني. ونحن نقول: إن كل حكومة أمينة غير خائنة لا تبيع شيئًا من بلاد أمتها لدولة أجنبية مهما يكن الثمن الذي يبذل عظيمًا، على أن الثمن الذي خدع به الأخ أخاه حقير بالنسبة إلى خليج العقبة وحده الذي يقول العارفون: إن زقاق البوسفور دونه مناعة، ثم نقول: إن كل ملك غير خائن ينزه نفسه رذيلة بيع وطنه لدولة أجنبية بثمن بخس، وكل ثمن تباع به الأوطان فهو بخس. فكيف إذا كان هذا الملك مسلمًا وشريعة الإسلام لا تبيح للملوك والسلاطين بيع بلاد الإسلام لغير المسلمين وتجعل لهم السلطان عليها. فكيف إذا كانت هذا البلاد من أرض الحجاز المقدسة التى أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته بأن لا يبقى فيها ولا في سياجها من جزيرة العرب دينان، وأخبر بأن الإسلام سيأرز أي ينكمش وينضوي إلى الحجاز إلخ، هل يعقل - والحال هذه - أن يَنْقُض رجل مسلم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعرض مهد دينه لخطر استيلاء الأجنبي عليه طمعًا في المال، أو في لقب لا قيمة له في مثل هذا الحال؟ وإذا عقل وقوع هذا من رجل دنيء الأصل خسيس المنبت يريد أن يعلو بين الناس بالمال واللقب، ولو بخسران الدين والشرف، فهل يتصور من شريف صحيح النسب، عالي الأدب والحسب؟ نعم قد وقع بالفعل ما هو بعيد عن المعقول والمنقول والدين والشرف. وإن الافتتان بزهو الملك وتنفجه وشهواته لا يكفيان في الإسفاف والتسفل إلى هذا الدرك الأسفل إلا إذا صحبه جهل فاضح وخذلان من الله تعالى، نعم قد خدع الشريف الأمير عبد الله ابن الشريف الملك الحسين أخاه الشريف الملك عليًّا بأن يبيع للإنكليز أعظم مواقع الحجاز وحصونه البرية والبحرية بثمن ذكره له، فأجابه إلى ذلك من غير عقد ولا قبض ثمن، فكانت هبة مجانية للإنكليز، وقد أعلن الشريف عبد الله هذا الظفر بانقطاع هذه المنطقة من الحجاز وإلحاقها بشرق الأردن في عاصمة إمارته وأمر بإطلاق مائة مدفع ومدفع إيذانًا وسرورًا بهذا الفتح المبين؟ فهل يأمن السوريون إذا ولوا عليهم من هذه حالهم أن يبيعوا ما يمكن بيعه من سورية لمن يشتريه من الأجانب وليست سورية بأعظم عندهم من الحجاز الذي هو مهد دينهم وموطن إمارتهم وفخرهم؟ وأولاد حسين بن علي كلهم صنائع الإنكليز، وأولاهم بذلك الشريف زيد الذي يربونه في بلادهم. وأما الأمير فيصل السعودي فهو الذي يشهد العقل والمصلحة لمرشحيه بجودة الرأي والإخلاص للبلاد؛ إذ هو الذي يرجى أن تكون بولايته عليها مستقلة غير مهددة بعبث النفوذ الأجنبي باستقلالها، ولغير ذلك من الفوائد الإيجابية والسلبية الى نشير إليها بعد أن نصرح بأننا لا نريد بهذا الدعاية والترغيب، ولماذا؟ لأمرين: (أحدهما) : أننا نشك في قبول فرنسة أن يكون هو الملك لسورية ووراءه أعظم قوة عربية تشد أزره وهي قوة والده في مملكتي الحجاز ونجد، فإن رضيت فرنسة بذلك كان برهانًا على إخلاصها لسورية وصدقها الباطن والظاهر في جعلها حرة مستقلة بل برهانًا على انتهاج خطة جديدة في صداقة الأمة العربية والإسلام ونحن نستبعد هذا منها على اعتقادنا بل يقيننا بأنه أفضل سياسة تُحْيِي نفوذ فرنسة السياسي والاقتصادي والأدبي في الشرق؛ لأننا دعوناها إلى هذه الصداقة مرارًا فلم تجب. (ثانيهما) : أننا نشك في قبول الأمير فيصل ووالده الإمام عبد العزيز لذلك إلا باحتفاظ في قانون البلاد الأساسي فإن حكومة سورية النيابية لا بد أن تصدر من القوانين والأحكام باسم ملكها ما هو مخالف للمجمع عليه من الشرع الإسلامي كما هو المنتظر من مجلس تشريعي مثل المؤتمر السوري العام الذي وضع القانون الأساسي الأول لها عقب إعلان استقلالها وتولية فيصل عليها فإنني قد اجتهدت في إقناعه - وأنا رئيسه- بأن يقيد حرية القوانين بما لا يخالف الآداب العامة للأمة؛ لأجل منع المجاهرة بالفواحش فرفض هذا بأكثرية الآراء التى كان من أصحابها بعض المتدينين، وقد صرَّح بعض الأعضاء في تعليل رد هذا القيد بأن تقريره يبيح للشرطة أن يمنعوا من يجلس مع امرأة في ملهى أو مقهى (محل شرب القهوة) في الطريق يعاقرها الخمر. لهذا رأينا ملاحدة السوريين واللادينيين منهم أول من أنكر فكرة ترشيحه، ومنهم من صرَّح بأن تعصبه الديني يحمله على أن يراعي الشريعة الإسلامية في سياسته، وأول من كتب في ذلك من السوريين الذين في مصر الآن أحد أعضاء حزب الدكتور شهبندر والأمير ميشيل لطف الله: كتب مقالة في المقطم نال فيها من إخلاص أشهر الوطنيين من رجال الجمعية التأسيسية لذلك وعرَّض بخيانتهم وتصديهم لبيع وطنهم؛ لأنه فهم أنهم من القائلين بترشيح الأمير فيصل السعودي لعرش سورية، وذكرهم بأن من أهل البلاد من لا يرضيهم هذا الترشيح ويجب الاعتداد برأيهم قبل إبرام أمر كهذا، وهم النصارى في البلاد واللاجئون إلى مصر من الوطنيين، ويعني الكاتب حزبه المشار إليه. ونحن نقول: إن الملاحدة اللادينيين يكرهون من وجود ملك مسلم متدين في سورية ما لا يكره النصارى، فالملك المسلم المتدين بالفعل قد يكون خيرًا للنصارى واليهود من المسلم المنافق لأن ظاهره وباطنه سواء؛ ولأنه لا يستحل إيذاءهم ويراعي حريتهم في دينهم بإخلاص وجداني، وأما المنافقون في الدين لا يلبسون لباس الإسلام إلا بقدر ما يعطيهم من الحقوق والمنافع الدنيوية، فهؤلاء لا يرجون الحظوة والانتفاع عند الملك المتدين الصادق. هؤلاء يفضلون حرمان وطنهم من الاستقلال واستذلال الأجانب له على استقلاله تحت راية ملك أو أمير مسلم صادق لا يعرف الدهان والنفاق، وقد قال من عبر عن عقيدتهم من إخوانهم المصريين: إننا لولا تغلب الشعور الديني على السواد الأعظم من أهل بلادنا لاسترحنا من هذا النزاع والكفاح مع الإنكليز برضانا بسيادتهم علينا، وكنا نكون حينئذ من أسعد الناس وأَهْنَئِهِمْ معيشة. بعد هذا أقول: إن كل ذكي منصف عارف بتربية الأمير فيصل السعودي يعلم أنه لا يُخْشَى منه أن يخون البلاد أو يفرط بحق من حقوقها أو يكون آلة بيد الأجنبي ليضمن له منصبه فيها - فدينه يمنعه وتربيته تمنعه، وشرف أبيه ومنبته يمنعه من مثل هذه الخيانة، فهو لم يترب على الإسراف فى حب الاستعلاء والتحكم، ولا في الشهوات ليفضلها على مصلحة البلاد، على أنه مع هذا يعلم أنه إذا اضطره مقاومة الأجانب إلى ترك هذا الملك المقيد باتباع أهوائهم فإنه يعيش في مملكة أبيه عيشة أفضل وآثر عنده من هذه العيشة الدنيئة الذليلة. قرأنا في بعض الجرائد ما يراه المرشحون له من الفوائد فلا حاجة إلى ذكرها، ولكننا نذكرهم بفائدة منها قد غفلوا عنها وكان ينبغي أن تكون أول ما يخطر بالبال، وهي أنه لا يرجى أن يتولى أمر البلاد السورية أحد غيره يقدر على حفظ الأمن في بادية البلاد الواسعة ويزيل منها غوائل الغزو بين الأعراب بمنعه وإقامة العدل بينهم ثم ينقلهم من البداوة إلى الحضارة بالتدريج، وقد رأى ما فعل والده في هذه السبيل، وفي ذلك من الفوائد الاقتصادية وغيرها ما لا يخفى. ولو كان نصبه مرجوًّا عندنا لشرحنا فوائده بالتفصيل خدمة للبلاد لا له كما يتوهم من لا شعور لهم بلذة خدمة الأمة والملة وشعور الإخلاص لله تعالى فيها وفي غيرها، فإن هاتين اللذتين الروحيتين العقليتين أعظم عند أهلهما من جميع اللذات البدنية والنفسية كالوظائف وجمع الأموال (ومن ذاق عرف) . إن أتيح للبلاد ملك كفيصل السعودي كانت الملكية خيرًا لها من الجمهورية، وإن كان لا يتاح لها إلا بعض المفتونين بعظمة السلطة وشهواتها، فالجمهورية أقل شرًّا؛ لأنه يصدق عليها المثل (نحس متغير خير من نحس مستمر) . وقد اقترح الكاتب الحر اللوذعي أمين الريحاني على الجمعية التأسيسية أن تكون حكومتها جمهورية لا دينية، وأن تختار لرياستها فارس بك الخوري من كبار الوطنيين المسيحيين لتثبت الأكثرية الإسلامية فيها لمن يتهمهم بالتعصب وهضم حقوق الأقليات براءتها من هذه التهمة، وقد كان هذا الاقتراح غريبًا عند كل الطوائف مع اتفاق الجميع على أهلية فارس بك لمثل هذه الرياسة؛ ولكن انتخابه لمثل هذا الغرض يتضمن الاعتراف الرسمي من الجمعية بأن الذين يتهمون المسلمين هذه التهمة يعتقدون صحتها، وأن المسلمين في حاجة إلى إقامة (شهود نفي) يدفعونها بها، وإن الشاهد العدل على هذا هو ترك الأمة ما عليه جميع الأمم من حق الأكثرية الساحقة وإعطاؤه لأقلية إن كانت ضعيفة في عددها وثروتها فهي قوية بعطف أوربة كلها عليها، فإن النصارى في سورية الحاضرة التى ألفت الجمعية التأسيسية لوضع حكومتها لا يبلغون ١٠ في المائة بل قيل: إنهم ٥ أو ٦ في المائة، وعقلاء المسلمين من أعضاء الجمعية التأسيسية وغيرهم يعلمون أن الذين يتهمونهم بالتعصب وهضم حقوق غيرهم لا يعتقدون صحة هذه التهمة، وإنما يحاربونهم بها حتى يضطروهم إلى ترك جميع حقوقهم الملية، ومن أهمها هذا الحق الثابت في قوانين جميع الأمم، وقد ثبتت براءتهم من هذه التهمة في عهد استقلالهم القصير فلم يشك أحد من النصارى منهم ما كان يشكو المسلمون ولا يزالون يشكون من حكومة لبنان. وقد رد على الريحاني كاتب مسيحي من وجوه أقواها قوله: إذا كان الغرض ما ذكرت فلماذا قيدته بالأقلية المسيحية وبفارس بك الخوري ولم تتركه على إطلاقه؟ وتقول: أو يذكر فارس بك الخوري من قبيل المثل للاستحقاق؟ وقد نسينا في أول المقال أن نذكر ما نقلته الصحف من ترشيح فرنسة لرجل من أسرة سلطان المغرب الأقصى لما رأته من طاعتهم لها وكونهم لا علم لهم ولا إرادة غير ما تريد منهم فذكرناه هنا تتمة للفائدة، ولا يرضى بذلك من أهل البلاد أحد من الوطنيين المستقلي الفكر كما هو ظاهر بالبداهة. نعم إن الجمعية التأسيسية لم تقل شيئًا، وإن ما ظهر في جميع أعمالها من الروية والأناة مبشر بالخير، ونسأل الله تعالى أن يؤيد اجتهادها بالتوفيق والنجاح.