للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: عبد الحفيظ أبو السعود


الشيخ محمد عبده
(١)

الآن تعود (المنار) إلى الميدان بعد ما اختار الله مؤسسها السيد رشيد رضا
إلى جواره في عنفوان جهاده، وفورة نتاجه - مع ما كان عليه من كبر السن وتقدم
العمر - أحوج من نكون إليه في عصر اختلفت فيه المقاييس، وقلبت فيه الأوضاع -
تعود قوية نشيطة، تزخر بالحياة، وتنبض بالحرارة، وتتدفق حيوية، وتفيض
إيمانًا، على أيدي فتية الشباب من خيرة المسلمين متبعي السلف الصالح، قد وهبوا
الله أنفسهم وأرواحهم خالصة لوجهه، مستبسلين في ميدان الجهاد، غير هيابين ولا
وجلين، مولين وجوههم شطر كتابه العزيز، يذيعون تعاليمه ودعوته، دعوة
القرآن الكريم، دعوة القوة والمجد والعز الإسلامي الذي لا يعرف الذل، ولا يلتقي
والخور في قرن. وينتشرون قواعده التي عرفها الناس صالحة نافعة، وأسسه التي
جربها العالم، وعرف أن فيها سعادته التي لا تعرف الشقاء، وهناءته التي لا
يشوبها الآلم.
أجل، تعود (المنار) إلى الميدان جادة لتواصل السعي، وتداوم الجهاد
والكفاح الذي من أجله أنشئت، وفي سبيله عملت، وتحقق الغرض الذي طالما
استشرف إليه المخلصون المؤمنون، حتى كانت مثلاً أعلى في الدفاع عن بيضة
الدين، والذود عن حياته، وفي أسلوب يساير المدنية ولا يتعارض والعلم، ولا
يضعف بجانبه فينزل على تعاليمه ونظرياته الدائمة التحول والتبديل والاضطراب،
بل يجعل من نظرياته وآثار حضارته دليلاً على حكمة الله من خلق السموات
والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس لو تفكروا وتحررت منهم العقول!
تعود لترفع الراية وتحمل اللواء وتتقدم الصفوف، حيث التضحية التي لا
تعرف جبنًا، والشجاعة التي لا تقل من صلابتها في الحق شدة، ولا يضعف من
عزمها كارثة مهما تأزمت حلقاتها.
وأعتقد أنه من الوفاء لرجل كان له أكبر نصيب في تأسيس (المنار) ، وهو
الإمام الشيخ محمد عبده أن نخصه ببضع مقالات، نتناول فيها بالتحليل شخصيته
مع بعض النواحي التي تعني قراء المنار، ونتبع دعوته بالنظر الدقيق؛ لننظر
كيف أثرت هذه الدعوة في العالم الإسلامي، وكيف هزت صلد القلوب فألانتها،
وغزت جامد الأفئدة فحركتها، وطرقت مقفل الآذان ففتحتها، وكيف وقف التاريخ
يسجل لهذا الرجل في إنصاف وإعجاب.
وإليك من تاريخ الإمام ما يحدثك عن نشأة المنار:
جاء السيد رشيد رضا إلى مصر وقد وضع نصب عينيه صحبة الإمام، ثم
إنشاء صحيفة إصلاحية ينشر فيها حكمته وخبرته، فوصل إلى الإسكندرية مساء
الجمعة ٨ رجب ١٣١٥ هـ، فأقام فيها أيامًا، ثم انتقل منها إلى طنطا،
فالمنصورة، فدمياط، ثم عاد إلى طنطا، ومنها إلى القاهرة قبل الظهر من يوم ٢٣
رجب، وفي ضحوة اليوم الثاني ذهب إلى زيارة الأستاذ الشيخ محمد عبده في داره
بالناصرية، واستشار السيد أستاذه في إنشاء الصحيفة التي يريدها، وشاوره في
تسميتها، وذكر له اسم (المنار) مع أسماء أخرى، فاختار الأستاذ الإمام اسم
(المنار) ، ثم شرع السيد في تحريره، وكتب فاتحة العدد الأول بالقلم الرصاص في
جامع الإسماعيلي المجاور لدار الأستاذ بالناصرية، وكان ذلك في منتصف شوال
١٣١٥ هـ وذهب بها إلى داره وعرضها عليه؛ فأعجب بها كل الإعجاب،
ورضي كل ما ذكر فيها من المقاصد والأغراض إلا كلمة واحدة هي تعريف الأمة
بحق الإمام وتعريف الإمام بحق الأمة. قال ما معناه: (إن المسلمين ليس لهم اليوم
إمام إلا القرآن، وإن الكلام في الإمامة مثار فتنة يخشى ضرره، ولا يرجى نفعه
الآن) ، فحذف السيد هذه الكلمة عن رأي أستاذه وإشارته.
فهذا الرجل الذي عرف قيمة جهاده الخاص والعام، وسادت آراؤه بعد محاربة،
وفشت نظرياته بعد مدافعة وإنكار، وطعن في دينه وإيمانه ويقينه، وحورب في
غير هوادة، وتسمم الجو حوله؛ حتى سرت كراهيته في النفوس بفضل ما كان
يذاع عنه ويلفق ضده. وإليك الأستاذ الشيخ مصطفي عبد الرازق يحدثك عن
صورة من هذه الكراهية في مقدمته لكتاب (الإسلام والتجديد في مصر) :
(وفي بعض سنوات الحرب شهدت الجامعة المصرية قبل ضمها إلى وزارة
المعارف حفلة جمعت جمهرة من شباب العلم وخطب فيها طائفة من كبار الأدباء
وكبار الأساتذة.
وكان يجري على ألسنة الخطباء ذكر أئمة النهضة الحديثة في مصر في
فروعها المختلفة من سياسية واجتماعية وعلمية؛ فتهتف الجموع، ويبلغ حماس
الشباب أقصاه، حتى إذا جرى ذكر الشيخ محمد عبده خفت هنالك صوت الشباب،
وفترت حدة الهاتفين.
انصرفت يومئذ حسيرًا محزونًا، أكاد أتهم بقلة الوفاء بلدًا ينسى فيه فضل
الشيخ محمد عبده بعد سنين؛ لكن عتبى على شبابنا كان ممزوجًا برحمة؛ لأنهم لم
يعرفوا من أمر الرجل شيئًا يغريهم بأن يحبوه ويقدروه حق قدره.
ولعل قصارى ما كان يعرف طلاب العلم في ذلك العهد في أمر الإمام أنه كان
شيخًا مكروهًا هو وآراؤه من الشيوخ، كما يكره الشيوخ المنار وصاحب المنار
تلميذ الإمام) .
وأكتفي بهذه الصورة الآن؛ لأن بسط هذا العنصر له مكانه في الكلمات
المقبلة - إن شاء الله - وكل ما أريد أن أخلص إليه أننا في حاجة قصوى إلى
دراسة هؤلاء الذين استشهدوا في ميادين الجهاد، وراحوا ضحية بريئة لشهوات
متضاربة وأغراض متناحرة، تفتك بالأمم، وتقوض الشعوب.
ومحمد عبده عَلَم من أعلام هؤلاء المجاهدين؛ فجدير بنا أن نعني بآثاره،
وأن نعرف قراء (المنار) حقيقة هذا الرجل؛ حتى يغيروا تلك الصور القديمة عنه،
ويأخذوا عنه صورة صحيحة واضحة المعالم، بينة التقاطيع، صورة أعاهد الله
ألا يكون للشهوة فيها إصبع، ولا لحظ النفس منها نصيب، وستكون صورة هذا
الرجل أول صورة من صور كثيرة اعتزمت بمشيئة الله رسمها على صفحات
(المنار) في عهده الجديد، وكل غايتي من هذه التراجم الإسلامية إنما هي القدوة
الحسنة، وترسم خطى العاملين الذين لم يألوا جهدا في سبيل الدعوة إلى الله ورفعة
دينه وإعلاء كلمته؛ ليجد النشء غذاءه النافع. جعل الله عملنا خالصًا لوجهه، إنه
سميع مجيب.
(يتبع)
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الحفيظ أبو السعود