(٨) أول من تكلم في القدر اشتهر أن أول من أحدث القول بالقدر معبد الجهني قال الذهبي في الميزان: هو تابعي صدوق لكنه سن سنة سيئة، فكان أول من تكلم في القدر، قتله الحجاج صبرًا لخروجه مع ابن الأشعث، اهـ. وكان أولاً يجلس إلى الحسن البصري ثم سلك أهل البصرة بعده مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله. ويروى أن أول من تكلم في القدر غيلان بن أبي غيلان الدمشقي ويقال: إنه أخذ عن معبد، ولا منافاة فالأولية نسبية، بمعنى أن كلا منهما سبق وتقدم على كل من خاض في القدر بعدهما. وغيلان هذا كان مولى عثمان بن عفان، وكان داره بدمشق في ربض باب الفراديس شرقي دمشق، وحكى ابن عساكر أن عمر بن عبد العزيز كان لاَمَ غيلان على رأيه، فكف عن ذلك حتى مات عمر، فلما مات سال غيلان في القدر سيل الماء، وكان يفتي الناس لما حج مع هشام سنة ١٠٦ قال الأوزاعي: قدم علينا غيلان القدري في خلافة هشام بن عبد الملك، فتكلم غيلان وكان رجلاً مفوهًا، ثم أكثر الناس الوقيعة فيه والسعاية بسبب رأيه في القدر، وأحفظوا هشام بن عبد الملك عليه، فأمر بقطع يديه ورجليه وقتله وصلبه. * * * (٩) رجال الجهمية والمعتزلة القدرية ممن روى لهما الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما من المقرر في الأصول أن أئمة الرواية والأثر لم يتجافوا الرواية عن المُبَدَّعين، فقد تحملوا عن الشيعة والمرجئة والقدرية والخوارج وغيرهم. ومع تصلب الشيخين في الرواة وتحريهما، لم يريا مانعًا من الرواية عن أعلام من رمي ببدعة، انتجاعًا للعلم واستقاء للحكمة من مناهلها، وقد سبر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أسماء من رمي بذلك ممن خرَّج له البخاري. وسرد الحافظ السيوطي في تدريب الراوي شرح تقريب النوواي منهم من خرَّج له الشيخان أو أحدهما، وأما من رمي بذلك ممن روى لهم غير الشيخين فقد تكفلت به كتب الرجال، ومن أشهرها الآن: نقد الرجال للحافظ الذهبي. ولما كان بحثنا في الجهمية والمعتزلة رأيت مما يتممه إيراد من سمي من رجالهما في الصحيحين ليعلم بذلك تسامح المحدثين في الأخذ عمن رمي ببدعة إذا كان ثقة صدوقًا، وفي تلقي السنة منه طرحًا للتعصب، واعترافًا بقدر ذوي الفضل. ١- بشر بن السري قال السيوطي: رمي برأي جهم، وهو نفي صفات الله تعالى والقول بخلق القرآن، وقال الذهبي: حديثه في الكتب الستة، روى عنه الإمام أحمد وقال: كان متقنًا للحديث عجبًا. وقد زعم الذهبي أنه رجع عن التجهم، لكن يبطله تعصب الحميدي عليه وقوله: جهمي لا يحل أن يكتب عنه، فمع كونه جهميًّا روى عنه الأئمة المشاهير، ولم يحفلوا بقول الحميدي ولا غيره فيه. ٢- ثور بن زيد المدني. ٣ - ثور بن يزيد الحمصي. ٤ - حسان بن عطية المحاربي. ٥ - الحسن بن ذكوان. ٦ - داود بن الحصين. ٧ - زكريا بن إسحاق. ٨ - سالم بن عجلان. ٩ - سلام بن عجلان. ١٠ - سلام بن مسكين. ١١ - سيف بن سليمان المكي. ١٢ - شبل بن عباد. ١٣ - شريك بن أبي نمر. ١٤ - صالح بن كيسان. ١٥ - عبد الله بن عمرو. ١٦ - عبد الله بن أبي لبيد. ١٧ - عبد الله بن أبي نجيح. ١٨ - عبد الأعلى بن عبد الأعلى. ١٩ - عبد الرحمن بن إسحاق المدني. ٢٠ - عبد الوارث بن سعيد الثوري. ٢١ - عطاء بن أبي ميمونة. ٢٢ - العلاء بن الحارث. ٢٣ - عمرو بن أبي زائدة. ٢٤ - عمران بن مسلم القصير. ٢٥ - عمير بن هانئ. ٢٦ - عوف الأعرابي. ٢٧ - كهمس بن المنهال. ٢٨ - محمد بن سواء البصري. ٢٩ - هارون بن موسى الأعور النحوي. ٣٠ - هشام الدستوائي. ٣١ - وهب بن منبه. ٣٢ - يحيى بن حمزة الحضرمي. قال السيوطي: هؤلاء رُمُوا بالقدر، وكلهم ممن روى له الشيخان أو أحدهما اهـ. وقال ابن تيمية: في هؤلاء، يعني القدرية، خلق كثير من العلماء والعباد، كتب عنهم وأخرج البخاري ومسلم لجماعة منهم. وقال الإمام أحمد: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة، قال ابن تيمية: وهذا لأن مسألة خلق أفعال العباد وإرادة الكائنات مسألة مشكلة اهـ. * * * (١٠) بيان أن الجهمية والمعتزلة لهم ما للمجتهدين كما أن اسم الاجتهاد يتناول في عرفهم فروع الفقه، فكذلك مسائل الكلام لعموم مفهومه لغة واصطلاحًا ووجودًا، فإن الفِرَق التي تنوع اجتهادها في مسائل الكلام، ربما تربوا على مجتهدي الفروع، وكيف لا تكون من المجتهدين وهي تستدل وتحكم، وتبرهن وتقضي، وتجادل خصومها بمآخذها، وترى أن ما تستدل عليه هو الحق الذي لا يعقد على سواه، ولا يدان الحق تعالى بغيره. وجلي أن ما يبعث على بذل الجهد في الفروع، هو نظير ما يبعث عليه في الأصول أو أعظم، فإن مسألة الرؤية وخلق الأعمال وخلق القرآن واردة الكائنات، لما تشابهت الآيات والأخبار فيها، ذهب كل فريق إلى ما رآه أرفق لكلام الله وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، وأليق بعظمة الله سبحانه وثبات دينه، فكانوا لذلك مجتهدين، وفي اجتهادهم مأجورين، وإن كانوا في القرب من الحق متفاوتين. نعم لا يمكن أن يقال في مسائل الأصول: إن كل مجتهد فيها مصيب، وإن الحق فيها متعدد، كما قاله الأكثرون في غيرها من مسائل الفروع المجتهد فيها؛ وذلك لأن مسائل الأصول أمور ذاتية لا تختلف بالإضافة، ولا تحتمل اجتهادين يمكن أن يكون الأمر على هذا أو ذاك، بل لا بد من كونه على أحدهما ألبتة، والأمور الذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتتبعها، فلذلك كان المصيب فيها واحدًا، والحق منها واحدًا، والمخطئ معذورًا غير آثم؛ لأنه بذل وسعه، واستنفذ طاقته، وما يراه غيره نصًّا يراه هو غير نص ' فالحقيقة عند أحدهما مجاز عند الآخر وبالعكس. وقد ذهب الغزالي إلى أن الإثم غير محطوط عن المخالفين في مسائل الأصول، وحجته اتفاق سلف الأمة على ذم المبتدعة ومهاجرتهم، وقطع الصحبة معهم، وتشديد الإنكار عليهم، مع ترك التشديد على المختلفين في مسائل الفرائض وفروع الفقه. هذا ما احتج به الغزالي. وعجيب من مثله أن يعد هذا دليلا على تأثيمهم، وأي مناسبة بين الدعوى والدليل؟ على أن دعوى الاتفاق على ذم المبتدعة ومهاجرتهم مردودة بتلقي أئمة الحديث عن كثير منهم، وحمل السنن النبوية عنهم، وجعلهم في الآثار حجة بينهم وبين ربهم، وقد سبق لنا عدة ممن روى لهم الشيخان من الجهمية والمعتزلة والقدرية وبقي ممن رويا لهم من الإباضية والمرجئة والشيعة عدد عديد كما تراه في مقدمة فتح الباري للحافظ ابن حجر والتدريب شرح التقريب للسيوطي وميزان الاعتدال للذهبي. وقدمنا ما قاله الإمام أحمد رحمه الله ورضي عنه: لو تركنا الرواية عن القدرية لتركنا أكثر أهل البصرة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وفي هؤلاء خلق كثير من العلماء والعباد كتب عنهم وأخرج البخاري ومسلم لجماعة منهم ثم قال: لكن من كان داعية لم يُخرِّجوا له، ولهذا لم يخرِّج أصحاب الصحيح لمن كان داعية اهـ. وقد اشتهر هذا، أعني أن من كان داعية إلى بدعته لم يُخرِّجوا له، مع أن العراقي اعترض على ذلك بأن الشيخين احتجا بالدعاة، فاحتج البخاري بعمران بن حطان الخارجي، واحتجا بعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني، وكان داعية إلى الإرجاء، فأنى يستقيم مع ذلك دعوى هجران السلف لهم، وقطع الصحبة معهم، وهم قد حملوا عنهم من السنة ما لم يوجد عند غيرهم، وأصبح مرويهم حجة دامغة أبد الآباد؟ نعم كان بعض السلف سلق بعض متقدمي الجهمية والقدرية بألسنة حداد، ورموهم بما هم برآء منه، وكان ذلك أيام ضعفهم وقلتهم، أما وقد انتشر مذهبهم بعد، ودالت الدولة لهم، ودخل فيه قوم من العلماء والعباد، فلم يسع من عاصرهم من أئمة الحديث إلا التحمل عنهم وإنصافهم، كما رأيت في عبارة الإمام أحمد المتقدمة. فتبين مما ذكرناه أن ما عوَّل عليه الغزالي في المستصفى لا يصح دليلاً ولا شبهة مع ما عرفت من تخريج الشيخين عنهما، بله غيرهما، ممن نزل شرطه في تخريجه عن شرطهما، كأصحاب السنن والمسانيد والمعاجم، فإن هذه الكتب ملأى بالمبتدعين من الفرق كلها، كما يعرفه من سَبَرَ طبقات الرجال، ورأى رموز من خرج لهم من الرواة المشاهير. وبالجملة فكون هذه الفرق مجتهدة لها ما للمجتهدين، أمر لا يرتاب فيه منصف، والمجتهد معذور بل مأجور وإن أخطأ، وإذا انتفى الإثم عن المجتهد فأنى يصح نبزه بالألقاب السوءى والحفيظة عليه، وهل فرق الأئمة وجعلها شيعًا وأذهب ريحها إلا هذا التنابز والإزراء المعيب، مع ما يجمع الكل من أخوة الإسلام. ولقد أنصف العلامة المقبلي في قوله في بحث الكلام مع المعتزلة من كتابه العلم الشامخ ما مثاله: إني لست بمعتزلي ولا أشعري، ولا أرضى بغير الانتساب إلى الإسلام، وصاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام، وأعد الجميع إخوانًا، وأحسبهم على الحق أعوانًا. انتهى. ومن طالع كتاب حجج القرآن للإمام أحمد الرازي الحنفي رحمه الله، ورأى تمسك كل فرقة من فرق الإسلام بآيات وأخبار ذهب بها اجتهادها إلى أنها نصوص أو ظواهر فيما تذهب إليه عذرها ورحمها، وعلم أنها لم تكل جزافًا، وإنما وزنت الأمر بمعيار ما أدى إليه النظر، وتوخت الحق جهدها، نعم ليس كل من يتوخى الحق يصيبه، إلا أنه ليس على باذل جهده ملام، والسلام. وقد حكى السبكي في طبقاته عن أبيه أنه وقف لبعض المعتزلة على كتاب سماه طبقات المعتزلة افتتح بذكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ظنًّا منه أنه منهم على عقيدتهم، قال السبكي: وهذا نهاية في التعصب فإنما ينسب إلى المرء من مشى على منواله اهـ. وجليٌّ أن الذي أوصلهم إلى عد الصحابة منهم، هو الشغف بمذهبهم، والاعتقاد بأنه الحق والصواب، ولا غرو فإن الولع بمذهب يحاول أن يرد الكتاب والسنة وخيار الناس إليه، بيد أن من هؤلاء مجتهدين، ومنهم مقلدون، وبينهما بون عظيم، فإن المجتهدين يؤثرون مذهبهم لما يرشدهم الدليل إليه، فهم يستدلون ثم يعتقدون، وأما المقلدون فهم يؤثرون مذهبهم حبًّا أو عصبية، فيعتقدون ثم يستدلون لما يعتقدون، فإن رأوا خلافه أعرضوا عنه: فما أضيع البرهان عند المقلد. قال الإمام أحمد بن المختار الرازي في مقدمة كتابه حجج القرآن لما استخرج منه حجج كل طائفة ما مثاله: وما من فرقة إلا ولها حجة من الكتاب، وما من طائفة إلا وفيها علماء نحارير فضلاء، لهم في عقائدهم مصنفات، وفي قواعدهم مؤلفات، وكل منهم يؤول دليل صاحبه على حسب عقيدته ووفق مذهبه، وما منهم من أحد إلا ويعتقد أنه هو المحق السعيد، وأن مخالفه لفي ضلال بعيد {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (المؤمنون: ٥٣) قال: وليس قصدنا بيان مقولات المتكلمين، من المتأخرين والمتقدمين، ولكن القصد أن نذكر جميع حجج القرآن بطريق الاستيعاب، ثم نذكر حجج الحديث، لكل قوم من القديم والحديث، لكيلا يعجل طاعن بطعنه في فرقة، ولا يغلو قادح بقدحه في طائفة. وكتابه هذا بديع جدًّا، رتَّبه على ثلاثين بابًا، في كل باب فصول جمة، وقال رحمه الله في خاتمته ما صورته: هذا آخر ما أوردنا من حجج القرآن لجميع أهل الملل والأديان، وهي بمجموعها حجة على أصحاب الظواهر الذين يأبون التأويل، وينسبون مخالفيهم إلى التعطيل وحجة أيضًا على المتعصبين الذين يقابلون مخالفيهم بالتكفير والتضليل، والتخطئة والتجهيل، وحجة أيضا على من ينكر النظر في كتب الأصول، أو يقول فيها بالمنقول دون المعقول وحجة أيضًا على من يكفر أهل القبلة أو يعير طائفة بالقلة، أو يخرجهم ببدعة عن الملة، وحجة أيضًا على من يجزم على مجتهد واحد بالإصابة، أو يعجل في تضليل فرقة أو عصابة، وحجة أيضًا على العلماء القاصرين أيضًا في العربية، الغالين في الجدل والعصبية اهـ. * * * (١١) شبهة الأثرية في اضطهاد الجهمية، والجهمية في اضطهاد الأثرية لما دالت لكل منهم الدولة وفيه اعتذار بقلم الجاحظ قدمنا أن شيوخ الرواية، وأعلام الأثر، كانوا يغرون الأمراء بمخالفيهم، لما يذيعونه من تكفيرهم وزندقتهم، وتم لهم الأمر في مثل غيلان والجعد ومحمد بن سعيد المصلوب وأمثالهم، كما حكيناه من قبل. قال الإمام ابن تيمية في بعض فتاويه: إن السلف الذين كفروا الجهمية قالوا: يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا، قال ابن تيمية: لكن من كان مؤمنًا بالله ورسوله مطلقًا، ولم يبلغه من العلم ما يبين له الصواب، فإنه لا يحكم بكفره، حتى تقوم عليه الحجة التي من خالفها كفر، إذ كثير من الناس يخطئ فيما يتأوله من القرآن، ويجهل كثيرًا مما ورد من معاني الكتاب والسنة، والخطأ والنسيان مرفوع عن هذه الأمة، والكفر لا يكون إلا بعد البيان قال: والأئمة أمروا بقتل مثل هؤلاء الذين ينكرون رؤية الله في الآخرة، ويقولون: القرآن مخلوق ونحو ذلك، قيل إنهم أمروا بقتلهم لكفرهم، وقيل لأنهم إذا دعوا الناس إلى بدعتهم أضلوا الناس، فقتلوا لأجل الفساد في الأرض، وحفظًا لدين الناس أن يضلوهم اهـ. هذا ما حكاه الإمام ابن تيمية في شبهة من أمر بقتلهم، وقد حكى الشبهتين بصيغة التمريض، ليشير إلى أن ما زعموه دليلا ليس بدليل ولا شبهة، فإن سفك دم المعصوم إنما يكون بأمر قاطع، قد نص عليه نصًّا لا احتمال فيه ولا اشتباه؛ إذ مثله يكون من المحكمات الواضحات، والأحكام الجليات، لا مما تتجاذبه الآراء، وتتراده الأقوال؛ لأنه لا أعظم بعد الشرك من سفك دم المعصوم، وكل من أتى بالشهادتين فقد عصم دمه إلا بحقه المنصوص عليه، والأحاديث في ذلك كثيرة شهيرة لا حاجة إلى إيرادها، وكلها متفقة على أن كل من أظهر الإسلام فقد عصم دمه وماله، وإن كان يخفي جحودًا أو تعطيلاً كالمنافقين؛ لأن لنا الظاهر، والله يتولى السرائر. إذا كان هذا الحكم في العصمة يعم المنافقين فكيف لا يتناول من لا يشك في إيمانه، ويبذل وسعه لحفظ العقيدة، فأنى يستحل دمه لمجرد أنه تأول بابًا من أبواب العلم، خالف فيه رأي غيره، مع أنه لم يجحد من الدين شيئًا. ومن هذا كل ما ذكروه في قتل الزنديق، فإنه لا حجة فيه قاطعة، ولا بينة ناصعة، كما أوضحته تعليقاتي على الروضة الندية، للسيد صديق حسن خان، والمدقق يرى أنه لا يمكن أن يؤتى في مسألة قتل الزنديق ببرهان من كتاب الله ولا من آحاد لا صحيح ولا حسن؛ لأن الزنديق إن أظهر الإسلام وأسر الإلحاد فحكمه كالمنافق، وبالإجماع هو معصوم الدم، وإن جهر بالكفر فلا يحكم عليه بالردة إلا بعد أن تزاح كل علة، ولا يبقى لمرتاب شبهة، وهناك تجري عليه أحكام المرتدين. وقد تقرر إجماعًا أن الحدود تدرأ بالشبهات، فمِنْ عكس القضية أن يجلب الحدود بالشبهات، والبحث يدريه حق الدراية من تطلب لكل فرع دليله من الكتاب أو السنة، ولم يعول عليهما. وبالجملة فدعوى كفر مثل هذه الفرق مردودة بما ذكرنا، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في كتابه موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول أن الكفر يكون بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم بما جاء به، أو الامتناع عن متابعته، كما سنأثره عنه بعد مفصلاً في بحث حظر الأئمة المحققين من رمي فرق المسلمين بالتكفير فسقط دعوى هدر دمهم بالتكفير. وأما دعوى استحلال دمهم بأنهم من السعاة في الفساد في الأرض، فمردودة بأن الآية لا تعم مثلهم قط، وإن جرينا على أن العبرة بعموم اللفظ؛ لأن العموم في الآية إنما هو فيما شابه الحالة التي نزلت فيها أعني فيمن كان محاربًا لله ورسوله محادًّا لهما، متظاهرًا بالكفر بالدين، ساعيًا بإفساد السابلة والنهب وإخلال الأمن، فالعموم هو في كل من اتصف بذلك، في أي زمان ومكان، فمن أين يشمل عموم الآية من كان مؤمنًا قانتًا محافظًا على شعائر دينه، متأولا في أبواب من العلم ما تتسع له اللغة. ولا يأباه اللسان، وهو لم يُرَدْ من لفظ الآية لا منطوقًا ولا مفهومًا، ولم تنزل في مثله، وفي الحقيقة هذا جلي لا يحتاج إلى أن ينبه على مثله، لأن هذه الفرق المتأولة مؤمنة موحدة مطيعة لله ورسوله، ليست محاربة لله ورسوله، ولا محادة لهما، ولا ساعية في الأرض بالفساد قتلاً ونهبًا، فمن المحال أن يُدَّعَي شمول الآية لها، وهل يعم المؤمنين ما نزل في الكافرين؟ والقائل بذلك من السلف مخطئ في اجتهاده، أو أنه لم يبذل الوسع فيه، ولذلك خالف فيه الأئمة المحققون وأجمعوا على عدم تكفيرهم كما سيأتي مأثورًا. وكأن الذي سبب لهم ما سبب من الاضطهاد، هو ضعفهم في أول الأمر وقلتهم، ولذلك لما كثروا وقوي حزبهم، وتمذهب لهم في عهدهم من كل ورع تقي، من هو قدوة وعدل ورضي، لم ير مخالفوهم بدًّا من تحمل الحديث والعلم عنهم، حرصًا على الحكمة أن تضيع بموت أهلها، كما قدمنا عن الإمام أحمد، في اعتذاره عن الرواية عن القدرية، مع أنهم فرقة من الجهمية، هذا ما كان من أمر الأثرية، في اضطهاد الجهمية. وأما الجهمية المعتزلة فقد اعتذروا عن اضطهاد خصومهم الأثرية، لما دالت لهم الدولة، بما قدمناه من نص كتاب المأمون في المحنة المشهورة، وبما أوضح بعضه أيضا خطيبهم الجاحظ فقد قال [١] : وبعد، فنحن لم نكفر إلا من أوسعناه حجة، ولم نمتحن إلا أهل التهمة، وليس كشف المتهم من التجسس، ولا امتحان الظنين من هتك الأستار، ولو كان كل كشف هتكًا، وكل امتحان تجسسًا لكان القاضي أهتك الناس للستر، وأشد الناس كشفًا لعورة، قال: والذين خالفوا في العرش إنما أرادوا نفي التشبيه فغلطوا، والذين أنكروا أمر الميزان إنما كرهوا أن تكون الأعمال أجسامًا وأجرامًا غلاظًا، فإن كانوا قد أصابوا فلا سبيل عليهم، وإن كانوا قد أخطأوا فإن خطأهم لا يتجاوز بهم إلى الكفر، وقولهم وخلافهم بعد ظهور الحجة تشبيه للخالق بالمخلوق، فبين المذهبين أبين الفرق، وقد قال صاحبكم [٢] للخليفة المعتصم، يوم جمع الفقهاء والمتكلمين والقضاة والمخلصين، إعذارًا وإنذارًا: امتحنتني وأنت تعرف ما في المحنة، وما فيها من الفتنة، ثم امتحنتني من بين جميع هذه الأمة، قال المعتصم: وجدت الخليفة قبلي قد حبسك وقيدك ولو لم يكن قد حبسك على تهمة، لأمضى الحكم فيك، ولو لم يَخَفْك على الإسلام ما عرض لك، فسؤالي إياك عن نفسك ليس من المحنة، ولا من طريق الاعتساف، ولا من طريق كشف العورة، إذا كانت حالك هذه الحال، وسبيلك هذه السبيل. ثم قال الجاحظ: وكان آخر ما حج [٣] فيه أن أحمد بن أبي دؤاد قال له: أليس لا شيء إلا قديم وحديث؟ قال: نعم، قال: أوليس القرآن شيئًا؟ قال: نعم، قال: أوليس لا قديم إلا الله؟ قال: نعم، قال: فالقرآن إذا حديث. قال: ليس أنا متكلم. ثم قال الجاحظ: [٤] وزعم يومئذ أن حكم كلام الله تعالى كحكم علمه، فكما لا يجوز أن يكون علمه محدثًا ومخلوقًا، فكذلك لا يجوز أن يكون كلامه مخلوقًا ومحدثًا، فقال ابن أبي دؤاد: أليس قد كان الله يقدر أن يبدل آية مكان آية، وينسخ آية بآية، وأن يذهب بهذا القرآن ويأتي بغيره، وكل ذلك في الكتاب مسطور؟ قال: نعم. قال: فهل كان يجوز هذا في العلم؟ وهل كان جائزًا أن يبدل الله علمه ويذهب به ويأتي بغيره؟ قال: لا، وقال له روينا في تثبيت ما نقول الآثار، وتلونا عليك الآية من الكتاب وأريناك الشاهد من العقول التي بها لزم الناس الفرائض، وبها يفصلون بين الحق والباطل، فعارضنا أنت الآن بواحدة من الثلاث، فلم يكن ذلك عنده. ثم قال الجاحظ: وعبتم علينا إكفارنا إياكم، واحتجاجنا عليكم بالقرآن والحديث، وقلتم تكفرونا على إنكار شيء يحتمل التأويل، ويثبت بالأحاديث؟ فقد ينبغي لكم أن لا تحجوا في شيء من القدر والتوحيد بشيء من القرآن والحديث، وأن لا تكفروا أحدًا خالفكم في شيء، وأنتم أسرع الناس إلى إكفارنا، وإلى عداوتنا والنصب لنا اهـ. كلام الجاحظ. فانظر إلى حججهم وحجاجهم، واعتذار الخليفة وقتئذ بالخوف على الإسلام من خصومهم، تعلم أنه بلغ عقدهم بمذهبهم مبلغًا لا غاية وراءه من التيقن والتصلب، مع أن كل ما ذكروه لا يحل اضطهادهم لمخالفيهم، إذ الرأي إنما يُدْفَع بالحجة والبرهان، لا بقوة السلطة والسلطان. وأعجب ما جاء في كلام الجاحظ قوله: وعبتم علينا إكفارنا إياكم، إلى قوله: وأنتم أسرع الناس إلى إكفارنا. إذ يدل أن الشدة والعداء والحدة أصارت الفريقين إلى استحلال إيقاع كل بالآخر ما يستطيعه من ضروب الإيذاء بالقول والفعل، حتى صار يخيل للمرء أن ذات هذه المذاهب من شأنها أن تملأ قلوب ذويها بغضًا ونفارًا من مخالفيها، وأنها منبت للإحن، ومصدر للمحن والفتن. ولقد أثر هذا النبذ في أتباع الفريقين تأثيرًا لم تحمد عقباه، إذ لا تمحوه من أنفس كل منهم كرور الأيام، ولا مرور الأعوام، ما دام يقرأ في زبر كل فريق خلاف عقد الآخر، والتشنيع عليه، ولم ينج من هذه الحفائظ والشحناء إلا من نفض غبار التقليد، وأوى من الاجتهاد إلى ركن شديد. ولقد يعجب المرء من أحمد بن أبي دؤاد وله من وفرة العقل، وكبر الفهم والنبل، ما أصاره من أفراد الرجال، كما يدريه من قرأ أخباره في مثل تاريخ ابن خلكان، ومع ذلك يغري الملوك بمن خالف مذهبه، ويسعى لديهم بما يعجل نكالهم، وقد أثر عنه من ذلك ما شوه وجه حياته، وكسف شمس فضائله، فقد بلغ به التعصب لمذهبه ما أصاره يؤذي من أهل مذهبه من يخالف بعض مسائل منه. ومن ذلك ما حكاه أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني في أخبار سعيد بن حميد البغدادي الكاتب الشاعر المشهور أن أباه كان وجها من وجوه المعتزلة فخالف أحمد بن أبي دؤاد في بعض مذهبه، فأغرى به المعتصم، وقال: إنه شعوبي زنديق [٥] ، فحبسه مدة طويلة ثم بانت براءته له أو للواثق بعده فخلى سبيله، وكان شاعرًا أيضًا، فكان يهجو أحمد بن أبي دؤاد بقوله: لقد أصبحت تنسب في إياد ... بأن يكنى أبوك أبو دؤاد فلو كان اسمه عمرو بن معدي ... دعيت إلى زبيد أو مراد لئن أفسدت بالتخويف عيشي ... لما أصلحت عيشك في إياد وإن تك قد أصبت طريف مال ... فبخلك باليسير من التلاد هذا ما قصه الأصفهاني، وبه يظهر مبلغ تعصب ابن أبي دؤاد في مذهبه، حتى صار يستحل لأجله الوشاية والسعاية بالأبرياء والأتقياء، ولقد آذى بذلك نفسه فأصبح ممقوتًا منسي الفضائل على كثرتها فيه، حتى قال عنه الذهبي في الميزان، جهمي بغيض. وحكى السبكي في ترجمة محمد بن الحسن البحاث من كبار قضاة الشافعية: أن الصاحب بن عباد عرض عليه مرة القضاء، على شرط انتحال مذهبه، يعني الاعتزال، فامتنع وقال: لا أبيع الدين بالدنيا، فتمثل له الصاحب بقول القائل: فلا تجعلني للقضاة فريسة ... فإن قضاة العالمين لصوص مجالسهم فينا مجالس شرطة وأيديهم دون الشصوص شصوص [٦] فأجابه البحاث بديهة بقوله: سوى عصبة منهم تخص بعفة ... ولله في حكم العموم خصوص خصومهم زان البلاد وإنما ... يزين خواتيم الملوك فصوص وهذا أيضا مما يستنكر من مثل الصاحب، وهو ما هو، ولقد قال عنه الثعالبي في اليتيمة: ليست تحضرني عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب، وجلالة شأنه في الجود والكرم، وتفرده بغايات المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، إلخ. ومع هذا فهو يحول دون ذوي الكفاءة في القضاة إلا بتقليدهم مذهبه، ولكن لا عجب ما دامت مسائل المذاهب صارت عند مقلديها عقائد، والمعتقد لا يرفع لسوى عقيدته رأسًا، ولا يقيم لغيرها وزنًا، ولا يعير لمخالفها أذنًا، وبالله التوفيق. ولقد أشار لضروب اضطهادهم، وما آلت إليه عاقبة أمرهم، الإمام تقي الدين بن تيمية رحمه الله، في خلال فتوى له بقوله: وقد اشتهر الإمام أحمد بمحنة هؤلاء الجهمية فإنهم أظهروا القول بإنكار صفات الله تعالى وحقائق أسمائه، وأن القرآن مخلوق، حتى صار حقيقة قولهم تعطيل الخالق سبحانه وتعالى، ودعوا الناس إلى ذلك، وعاقبوا من لم يجبهم إما بالقتل وإما بقطع الرزق، وإما بالعزل عن الولاية، وإما بالحبس والضرب، وكفَّرُوا من خالفهم، فثبَّتَ الله تعالى الإمام أحمد حتى أظهر الله به باطلهم، ونصر أهل الإيمان والسنة عليهم، وأذلهم بعد العز، وأخملهم بعد الشهرة، واشتهر عند خواص الأمة وعوامها: أن القرآن كلام الله، غير مخلوق، وإطلاق القول أن من قال: إنه مخلوق فقد كفر اهـ. وما كان أغنى الفئتين عن الغلو والفتون، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ((يتبع بمقال تالٍ))