(١) (جاءتنا المقالة التالية من فضيلة رئيس تحرير مجلة نور الإسلام وجمعية الهداية تحت هذا العنوان فنشرناها على قاعدتنا في نشر ما يُنتقد علينا، ونقفي عليها بالرد الذي تمليه علينا معرفة الحقيقة ويتقاضاه التاريخ والمصلحة) . حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ السيد محمد رشيد رضا صاحب (مجلة المنار) الغراء، السلام عليكم ورحمة الله، أما بعد: فقد قرأت ما كتبتموه في مجلتكم الزاهرة تقريظًا ونقدًا لمجلة (نور الإسلام) فأشكركم على النقد بمقدار ما أشكركم على التقريظ وإنا لنعلم أن مجلة كمجلة (نور الإسلام) يرقبها طوائف تختلف مذاهبهم وتتفاوت أنظارهم وتتباعد أغراضهم، ليس في استطاعة القائمين بها أن يخرجوها على ما يوافق رغبة الطوائف بأجمعها؛ حتى لا تلاقي إلا رضا عنها وتقريظًا. فنحن على اعتقاد يشبه اليقين أن المجلة ستواجه ضروبًا من النقد مختلفة، هذا في إشفاق ورفق، وذاك في قسوة وعنف، وربما كان كلٌّ من الفريقين حسن النية سليم القصد، وما علينا إلا أن ننظر إلى وجه النقد فنتقبله إن كان في نظر الدين والعلم وجيهًا، فإن رأينا الصواب في جانبنا قررنا وجهة نظرنا بالتي هي أحسن حرصًا على أن يكون العلم صلة تعارف وائتلاف [١] ، فلا عتب علينا إذا كنا قد قرأنا في تقريظكم كلمات معدودة ألقيتموها بقصد خدمة الحقيقة والتاريخ، فلم تقع الموقع الذي قصدتم إليه، فكانت وجهة نظرنا فيها غير وجهة نظركم، وشعرنا بأن الحقيقة والتاريخ لا يسمحان لنا بالسكوت عنها، وفضيلتكم من أول الداعين إلى إيثارهما على كل ما يقضي الأدب الجميل برعايته. قلتم في التقريظ: (إن الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر السابق قد جعلني مدرسًا في قسم التخصص من الأزهر بعناية خاصة استثنائية) والواقع أن مجلس الأزهر الأعلى قد ندبني للتدريس بقسم التخصص قبل ولاية فضيلة الشيخ المراغي مشيخة الأزهر بنحو سنة وكان الذي يرأس المجلس الأعلى وقتئذ حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية سابقًا وكان لذلك الحين رئيسًا لقسم التخصص أيضًا. قلتم: (قد عجبتم لي حيث لم أذكر الشيخ محمد مصطفى المراغي في الخلاصة التاريخية التي كتبتها في فاتحة العدد الأول من مجلة (نور الإسلام) مع أن له الفضل عليَّ وإن لم أكن من أعضاء جمعيته أو حزبه. إذا لم أذكر اسم فضيلة الأستاذ المراغي فقد ذكرت أن المجلس الأعلى حينما أخذ ينظر في ميزانية سنة ١٩٢٩ أدرج فيها مبلغًا للمجلة، ومعلوم من ذكر التاريخ أن المجلس الذي قرر هذا المبلغ كان تحت رياسة الأستاذ الشيخ المراغي فللأستاذ المراغي نصيبه من فضل هذا المشروع ولا يلزم المندوب لرياسة تحرير المجلة أن يكون على علم من مقدار هذا النصيب حتى إذا لم يتعرض له في فاتحة المجلة عُدَّ متهاونًا بحق التاريخ أو غير معترف بالفضل. وما بال فضيلتكم تعجبون لعدم ذكر رئيس المجلس الأعلى الذي قرر المبلغ الذي ينفق على المجلة وتعدونه استخفافًا مني بحق التاريخ ونكرانًا لفضل ذلك الرئيس عليَّ، ولم يعجب أحد من مريدي صاحبي الفضيلة المرحوم الأستاذ الشيخ محمد أبي الفضل والأستاذ الجليل الشيخ عبد الرحمن قراعة لعدم ذكر اسمهما في تلك الخلاصة، وقد كان الشيخ أبو الفضل يرأس المجلس الأعلى الذي قبل اقتراح مشروع المجلة سنة ١٩٢٦ وكان فضيلة الأستاذ عبد الرحمن قراعة يرأس المجلس الذي ألف لجنة لوضع تقرير في هذا الاقتراح سنة ١٩٢٧ وهذا العمل بالنظر إلى كونه الأساس الذي قام عليه المشروع عمل لا يستهان به. ولا أرى إلا أن مريدي الأستاذين الشيخ أبي الفضل والشيخ قراعة قرؤوا فاتحة المجلة وقد حضرهم أن المندوب لرياسة التحرير إذا نسب العمل إلى المجلس الأعلى مع ذكر تاريخ انعقاده فقد قضى واجب التاريخ عليه - وليس من واجب التاريخ عليه - أن يسمي رئيس المجلس الأعلى أو أعضاءه في خلاصة قصد بها الإشارة إلى تاريخ نشأة المشروع والأطوار التي مر عليها حتى صار عملاً ظاهرًا. وعلى فرض أن أكون قد أجملت القول في مواضع تعلمون منها أكثر مما أعلم كان لفضيلتكم أن تكتبوها للتاريخ في صفاء خاطر متحامين الكلمات التي يسبق إلى أذهان بعض الناس أنها مصنوعة لتثير غبار فتنة، ومثل هذه الفتنة لو أيقظها غيركم لكان واجب الدين وسماحة الأخلاق قبل كل داعية. وأنا لا أستنكف أن يكون للأستاذ المراغي عندي يد، ولكن التدريس الذي تعنونه بقولكم: (كما أن له الفضل عليه نفسه) قد عرف الناس أني نُدبت له من قبل أن يتولى فضيلته منصب المشيخة، على أني أربأ بكم أن تزنوا العلم بهذا الميزان وتجعلوه أنقص قدرًا من متاع هذه الحياة؛ إذ سميتم انتدابي للتدريس فضلاً من النادب عليَّ بدل أن تجعلوه إخلاصًا منه للمعهد الذي تولى أمره ليدير شؤونه بنصح وأمانة. وإذا لم أكن من جمعية الشيخ المراغي فلأني لا أذكر أن أحدًا من الناس عرض عليَّ قانون حزب أو جمعية تُدعى بهذا الاسم فأعرف مبادئها والغاية التي تألفت من أجلها، ولست ممن يحب أن يحشر نفسه في كل جمعية أو حزب وإن لم يعرف مبادئه ويطمئن إلى الغاية التي يرمي إليها. نقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من أنها لا تمس السياسة في شأن وقلتم: إن هذا حرمان لمحرريها من خدمة الإسلام والدفاع عنها بالسكوت عن أمور كثيرة يجب بيانها. وجواب هذا أن المجلة إذا تجنبت التدخل في النزعات السياسية فإن أقلام محرريها لا تقف دون الكتابة فيما يصيب الشعوب الإسلامية من مكاره، أو فيما تراه مخالفًا للدين ولو كان من أعمال الإدارة الداخلية، غير أنها تكتب في مثل هذا على وجه الوعظ والإرشاد، فلا يخرج عن دائرة مجلة (نور الإسلام) أن تكتب في إنكار بعض تصرفات يعتدى بها على حق ديني لأحد الشعوب الإسلامية، ولا يخرج عن دائرتها أن تطالب بنحو إلغاء البغاء الرسمي أو احترام المحاكم الشرعية فيما إذا خطر لأحد رجال الإدارة أن ينقص مما هو داخل في اختصاصها، أو الاحتفاظ باللغة العربية فيما إذا رأى ذو سلطة اهتضام جانبها، إلى غير هذا من الشؤون التي تحفظ على الأمة دينها ولغتها، ويرغب أولو السياسة الرشيدة أنفسهم أن يعلموا حكم الدين في أمثالها. ونقدتم ما جاء في فاتحة المجلة من: (أنها لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن ولا أن تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول) وحملتم هذه العبارة على معنى أنها لا ترد على المخالفين إذا هاجموا الإسلام، وقلتم: إن العلماء لا يستطيعون القتال بالسلاح فهم يستطيعون الجهاد بالقلم واللسان ومجادلتهم بالتي هي أحسن وإن كرهوها. ولو صدر هذا النقد من غير فضيلتكم لقلنا: إنما يريد أن يكثر سواد وجوه النقد، ولكن مكانكم أرفع من أن يقصد إلى هذه الغاية، وذلك لأنا نقول في فاتحة المجلة: (تناقش المجلة الأشخاص أو الجماعات الذين يقولون في الدين غير الحق مقتدية في مناقشتها بأدب قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ} (النحل: ١٢٥) . وإذا قالت: إنها لا تنوي أن تهاجم دينًا بالطعن، أو قالت لا تتعرض لرجال الأديان بمكروه من القول - فإنما تريد الترفُّع عن بذاءة القول والخروج عن دائرة البحث العلمي إلى ما يهيج البغضاء دون أن يكون له في تقرير الحقائق أو إزهاق الباطل - أثر كثير أو قليل. وأظن حضرات قراء مجلة (نور الإسلام) إنما يذهبون في فهم هذه الجمل إلى أننا نظرنا عند صوغها إلى قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: ٣٤) وقد أصبح حكماء الكتاب يصوغون دفاعهم على قدر بيان الحق أو كشف شبه الباطل، ولا يحسون من أقلامهم نزوعًا إلى السوء من القول، ومَن كان في ثروة من الحجج لا يرى نفسه في حاجة إلى أن يستعين في دفاعه أو هجومه بشيء من اللمز والبذاء. هذا: وظننا في الأستاذ أنه ينقد في إخلاص، ويتلقى الجواب في سكينة وإنصاف، وسلام عليك يوم تقرظ ويوم تنقد ويوم تكون للحق وليًّا. ... ... ... ... ... ... ... ... محمد الخضر حسين *** رد المنار الذي تتجلى به الحقيقة وينصف التاريخ أرسل إلينا الأستاذ رئيس تحرير مجلة الأزهر هذا الرد على ما كتبناه في تقريظها والنصيحة الإسلامية لها، ونشره هو في مجلة جمعيته (الهداية) ولم ينشره فيها، خلافًا للأصول المتبعة وللمعقول، بل عوقبنا على تقريظنا ونصيحتنا بقطع تلك المجلة عن مبادلة أختها المنار، وأخبرنا فضيلته بذلك فلم يتفضل بالأمر بإعادة إرسال المجلة إلينا بالمبادلة كما هي سُنَّة الصحف على اختلاف موضوعاتها ومذاهبها، وتلك جفوة وقطيعة بل عقوبة صحفية تنافي ما ذكره من الشكر للمنار على التقريظ والنقد جميعًا، إلا أن تكون العقوبة من إدارة مجلة نور الإسلام - وكانت - بحيث لا يقبل فيها شفاعة رئيس التحرير، على أن الإدارة لم ترسل المجلة إلينا أولاً إلا بعد أن رأينا تقريظها في جرائد مصر وسورية وتونس، والذي جاءنا منها ٣ أجزاء فقط، وكنا نود لو عاتبنا الأستاذ فيما خالف وجهة نظره مشافهة وسمع جوابنا، واختار بعد ذلك أن يكتب وينشر، أو أن يرضى ويصمت، ولكنه قد طرق بالنشر هذا الباب، فوجب أن يسمع منه الجواب. مقدمة وتمهيد للرد إن الحقيقة والتاريخ يقتضيان قول الحق بغير محاباة لأحد ولا هضم لحق أحد، لا لأسباب حزبية، ولا لعلل سياسية، ولا لشؤون شخصية، والصراحة في الحق بغير تأويل، ولا ميل عن سواء السبيل، ومن لم يستطع ذلك فليصمت، ذلك خير وأحسن تأويلاً، وإني ألتزم هذا الشرط فيما أتعقب به رد الأستاذ مع المحافظة على سابق مودته إن شاء، فأقول: إنني قصدت بما كتبت في شأن هذه المجلة التقريظ والتنويه بما أحب أن يكون لها من المكانة في العالم الإسلامي وما يُرجى من نفعها للمسلمين، فقلت في ذلك ما لم يقله أحد من مقرظيها الذين اطلعت على تقاريظهم، ولم أقصد أن أنتقدها كما صرحت بذلك، ولو شئت ذلك لكان مجاله عندي أوسع مما يعتقدون؛ إذ قال: إنهم يعتقدون اعتقادًا يشبه اليقين أن المجلة ستواجه ضروبًا من النقد مختلفة.. إلخ، وإنما وجدت من الواجب عليَّ أن أذكر أصحاب الشأن فيها بأهم ما تجب مراعاته لأجل أن تتبوأ تلك المكانة وتحقق ذلك الرجاء، مما ظهر لي من فاتحتها وما نشر في الجزءين الأولين منها - أنهم لم يراعوه ولا ينتظر أن يراعوه من تلقاء أنفسهم، لم أنتقدهم انتقاد تخطئة وتجهيل، بل ذكرتهم التذكير الذي ينفع المؤمنين، مع اتقاء نقد المقالات الذي لا يُرضي الكاتبين، فاقترحت أمرين: (أحدهما) الدفاع عن الإسلام وعن المسلمين بصدّ كل ما يهاجمان به في هذا العصر بالحجة، والإرشاد إلى العمل الذي يكشف الغمة، ويجمع الكلمة، (والثاني) الدقة في تخريج كل ما يُنشر في المجلة من الأحاديث والآثار؛ إذ اعتاد أكثر علماء الأزهر وأمثالهم نقل الأحاديث في كتبهم وخطبهم من الكتب المتداولة، دون الرجوع في تخريجها إلى دواوين السنة المعتمدة، وبيان ما يصح وما لا يصح منها، حتى اشتهروا بإهمال علم السنة، وقد راوغ رئيس التحرير في الأول ولم يستطع المراوغة في الثاني بل سكت على قاعدتهم التي قررها في مقاله هذا. وأما النقد الذي قصدته بحسن النية، وتوخِّي اللين والمرونة، والمحافظة على سابق المودة - فهو ما أنكرته على فضيلة رئيس التحرير خاصة؛ لأنه جاء على غير ما تقتضيه الحقيقة والتاريخ، وعلى خلاف ما نعهد من أخلاقه الفاضلة وأدبه النفسي، وهما أكبر في أنفسنا من علمه وأدبه اللغوي، فرد علينا رد الجدليين، وكابر الحقيقة كمكابرة السياسيين، فوجب أن أبحث معه في جوابه عنه بما تُعلم به الحقيقة ويرضاه الله والتاريخ {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ} (التوبة: ٦٢) . هذا ما كنت قصدته وعبارتي صريحة فيه، وناطقة بالحجة المثبتة له، ورئيس التحرير يقول في مقدمة رده المنتقَدة من عدة وجوه لا نضيع الوقت في بيانها: (فلا عتب علينا إذا كنا قد قرأنا في تقريظكم كلمات معدودة ألقيتموها بقصد خدمة الحقيقة والتاريخ فلم تقع الموقع الذي قصدتم إليه..) إلخ، ثم بيَّن وجهة نظرهم في الرد فقال - والعناوين من المنار -: (١) مسألة التدريس في الأزهر (قلتم في التقريظ) : إن الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر السابق قد جعلني مدرسًا في قسم التخصص من الأزهر بعناية خاصة استئنائية، والواقع أن مجلس الأزهر الأعلى قد ندبني للتدريس بقسم التخصص قبل ولاية فضيلة الشيخ المراغي بنحو سنة وكان يرأس المجلس الأعلى وقتئذ صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي الديار المصرية سابقًا. اهـ. بحروفه ورقمه. ثم ذكر هذا الرد مرة أخرى وأطال فيه. أقول في جوابه (أولاً وقبل كل شيء) إنه حكى قوله هذا بمعناه لا بلفظه كله فلماذا وضعه بين علامات الرقم الدالة على نقله إياه بحروفه هكذا: () ؟ ، إن أمثاله من الكُتاب العصريين والمحررين الصحفيين لا يفعلون هذه الفعلة بدون قصد، وإني لأغضي عن مناقشته فيه وهو ضرب من التحريف حتى لا أكثر في الرد عليه، ولكني أنبه القراء لعادته كغيره في التزام الألقاب الرسمية والعرفية لكبار العلماء وغيرهم عند ذكر أسمائهم، وعدم التزام المنار هذه العادة اتباعًا لعلمائنا وكتابنا المتقدمين كما صرحت بذلك من قبل، وأوجه نظرهم إلى ما في مقالته من التفاوت في التعبير والألقاب عند ذكر المراغي وذكر غيره من أقرانه على أن كلمة (المراغي) وحدها صارت في هذا العهد غنية في نظرنا ونظر الذين يعرفون أقدار الرجال عن تحليتها بالألقاب ككلمة الغزالي والنووي في عهدهما ومَن بعدهما. وأقول: (ثانيًا) إن ندبه للتدريس في قسم التخصص قبل مشيخة المراغي غير جعل هذا إياه مدرسًا فيه، وجميع مَن في مصر يعلم الفرق بين الندب في الحكومة لعمل من الأعمال وبين الوظيفة الثابتة وإن تساوى الراتب فكيف إذا تضاعف، وإن مجافاة ما كتبه الأستاذ الخضر للحقيقة والتاريخ في المسألة يحملنا على إنصافهما ببيان هذه الحقيقة التاريخية: نُدب الأستاذ الشيخ محمد الخضر التونسي الفرنسي التبعة للتدريس في قسم التخصص سنة ١٩٢٧ بمكافأة شهرية قدرها ثمانية جنيهات مصرية في كل شهر من شهور الدراسة فحسب. هذا ما كان قبل مشيخة المراغي. وأما ما كان فيها فهو أنه قد عرض على مجلس الأزهر الأعلى مذكرة بطلب تعيين الشيخ الخضر مدرسًا بالأزهر براتب قدره خمسة عشر جنيهًا في كل شهر بعقد من ١٦ نوفمبر سنة ١٩٢٨ فوافق المجلس عليها، فصار بهذا مدرسًا ثابتًا، وارتقى ما يأخذه من مكافأة في مدة العمل قدرها ٧٢ جنيهًا إلى راتب يبلغ في السنة ١٨٠ جنيهًا! ! أفليست هذه عناية خاصة بصفة استثنائية؛ لأن الأستاذ أجنبي غير مصري؟! أو ليست مِنَّة للمراغي تستحق الشكر من الأستاذ الخضر الذي رأينا من مبالغته في شكر من يحسن إليه أنه رفع صوته في حفلة تأبين المرحوم أحمد باشا تيمور الحافلة فذكر من عنايته به أنه أخبر بأنه يريد الذهاب إلى الإسكندرية لحاجة له فكان من بره أنه سافر معه وعاد به، فكان سفره لأجله؟ بلى، وإن بر الأستاذ المراغي به كان أفضل وأكمل وأشرف وأحق بالشكر، أفيعقل أن يقابله هذا الشكور بالكنود، فيسند الفضل فيه إلى غيره ولا يعترف له بشيء منه، بل ينكر على مَن يذكر ذلك ويعدّه منتقصًا لقدر العلم والعلماء، يقول: إنه يكتب هذا للحقيقة والتاريخ؟! (٢) مسألة ترك ذكره للمراغي في تاريخ المجلة قال: قلتم: (قد عجبتم لي حيث لم أذكر الشيخ محمد مصطفى المراغي في الخلاصة التاريخية التي كتبتها في فاتحة العدد الأول من مجلة (نور الإسلام) مع أن له الفضل عليَّ وإن لم أكن من أعضاء جمعيته أو حزبه. اهـ بحروفه ورقمه أي علاماته ويقال في هذا الرقم ما أشير إليه في الإنكار على سابقه من أنه تحريف. وفيه تحريف آخر وهو أنه جعل الضمير في قولي جمعيته وحزبه عائدًا إلى الأستاذ المراغي وإنما هو عائد إليه نفسه، فعبارتي في تعليل فضله عليه (وإن لم يكن من أعضاء جمعيته..) إلخ أي وإن لم يكن المراغي - فحرفها بقوله: (وإن لم أكن..) إلخ ومن المعلوم أن الخضر له جمعية والمراغي ليست له جمعية كما صرح هو بذلك في قوله بعد: وإذا لم أكن من جمعية الشيخ المراغي فلأني لا أذكر أن أحدًا من الناس عرض عليَّ قانون حزب أو جمعية تدعى بهذا الاسم فأعرف مبادئها.. إلخ. ويعتقد كثير من الناس أن لجمعية الخضر مقاصد حزبية وقد أضفتها إليه لأنه رئيسها، ولو كان للأستاذ المراغي جمعية كجمعيته لعرفت واشتهر أمرها، ولكان هو أجدر من كثير من الناس بمعرفتها لما كان من كثرة تردده على الأستاذ في عهد مشيخته، ولأن الأستاذ كان يحسن الظن به، ولما له من التدخل والتغلغل في شؤون الأزهر والأزهريين والحرص على تعرُّف ما هنالك. ثم ذكر أنه إذا لم يذكر اسم فضيلة الأستاذ الشيخ المراغي في الخلاصة التاريخية التي كتبها في فاتحة المجلة فقد ذكر: (أن المجلس الأعلى حينما أخذ ينظر في ميزانية سنة ١٩٢٩ أدرج فيها مبلغًا للمجلة، ومعلوم من ذكر التاريخ أن المجلس الذي قرر هذا المبلغ كان تحت رياسة الأستاذ الشيخ المراغي، فللأستاذ المراغي نصيبه من فضل هذا المشروع، ولا يلزم المندوب لرياسة تحرير المجلة أن يكون على علم من مقدار هذا النصيب حتى إذا لم يتعرض له في فاتحة المجلة عدّ متهاونًا بحق التاريخ أو غير معترف بالفضل) . وأقول: هذا الكلام مغالطة لا يحتج بقياسها منطقي على مَن يعرف المنطق مثله، فما كان ينبغي لمثله أن يكتبه، وبيان هذا من وجوه: (أولها) أنه يلزم المندوب لرياسة تحرير مجلة كهذه أن يكون على علم تفصيلي من التاريخ الذي يتصدى لوضعه لها ولو مجملاً، فإن لم يقدر على معرفة نصيب كل فرد من أفراد مَن لهم عمل ما أو اقتراح ما في هذا التاريخ - وهو ما لا يطلبه منه أحد - فلا يصح أن يجهل نصيب الرئيس الأكبر للمصلحة التي قررت هذا الأمر ووضعت ميزانيته، ثم انفرد هو بالجهاد في سبيل القانون الجديد للأزهر الذي جعلت المجلة من فروعه، ومنه مناقشة الوزراء ورجال البلاط الملكي فيه عدة أشهر. (ثانيها) قوله إن ذكر تاريخ الميزانية يلزم منه العلم بأن رئيس المجلس الذي وضعها هو فلان فيعلم منه نصيبه من فضل المشروع - غير مسلَّم على إطلاقه، وغير مُجدٍ في دفع الملام عنه، فإن أكثر قراء خلاصته التاريخية لا يعلمون من ذكر ذلك التاريخ أن الأستاذ المراغي كان رئيس ذلك المجلس، ومن يعلم هذا من الأزهريين وغيرهم لا يعد هذا اللزوم غير البين اعترافًا بما لهذا الرئيس من الفضل فيه. (ثالثها) أن هذه قاعدة غريبة من قواعد التاريخ وتراجم الرجال العاملين، وهي أن ذكر التاريخ السنوي لعمل من الأعمال العظيمة يغني عن ذكر من قاموا بذلك العمل وعن التنويه بفضلهم، بل يعد تعريفًا به وبهم. (رابعها) أن هذا الأمر الذي قال إنه لا يلزم المندوب لتحرير المجلة أن يكون على علم منه - أي على أدنى علم منه - يعلم أمثالنا كما يعلم هو أنه على علم تام به، فإن كان لا يلزم كل مندوب لتحرير مجلة فهو لازم لبعض المندوبين لمثل ما ذكر، ونمهم الأستاذ محمد الخضر حسين، فنقيض السالبة الكلية موجبة جزئية. (خامسها) أننا رأيناه قد ذكر أسماء أعضاء اللجنة التي أُلفت في سنة ١٩٢٧ للبحث في التقرير الذي وضعه عبد العزيز بك محمد للمشروع ولم يكتفِ بذكر التاريخ عن ذكر الأسماء، وذكر بعدها أن المجلس أدرج في ميزانية سنة ١٩٢٩ مبلغًا للإنفاق على هذه المجلة، ولم يزد على هذا كلمة واحدة مما عمله المجلس ولا رئيسه في هذه السنة التي كانت كلها جهادًا في سبيل الأزهر قانونه وميزانيته ومجلته. ثم قفى على ذلك بقوله: (ولما أسندت مشيخة الأزهر إلى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الأحمدي الظواهري كان من أول ما توجهت إليه عنايته مشروع هذه المجلة فأخذ يديره بجد وحكمة حتى لانت صعابه، وتهيأت بتأييد الله أسبابه) اهـ، فسكوته عن ذكر اسم الشيخ المراغي وموضعه بين ذكر أسماء أعضاء اللجنة المذكورة وذكر الشيخ الأحمدي يدل على التعمد. والذي نعلمه - ويعلمه جماهير المطلعين على سير الأمور العامة في مصر - أن الذي ألان الصعاب لهذا المشروع في ضمن قانون الأزهر الجديد وميزانيته وجاهد في سبيله حتى ضحى منصب المشيخة برواتبه الضخمة وجاهه العريض - هو الشيخ محمد مصطفى المراغي، فكان موضع إعجاب جميع الناس الذين يعرفون قيمة الأنفس الكبيرة بالعزة والشرف والإباء، وما شاءت الفضائل من علو الأخلاق، وقد أكبر الذين يتهضمون الأزهر وشيوخه من أبناء الدنيا أن يتحلى شيخ أزهري قحّ بهذا الشمم وعلو الهمة وعزة النفس. وأما فضل الشيخ محمد الأحمدي الذي انفرد به في هذا الموضوع فهو في رأينا ما ذكرناه في تقريظنا للمجلة، وهو نوط أعمالها الرئيسية من إدارة وتحرير بغير علماء الأزهر المصريين - على ما فيه من الإشعار أو الإيهام بأنه ليس فيهم مَن هم أهل لذلك في نظر الشيخ - وأهمها جعْل رئيس التحرير أحد الغرباء المشمولين بالحماية الفرنسية مع عدم الحاجة إلى الانتفاع بهذه الحماية من جانب السياسة. وإنني لأعد هذا مزيَّة للشيخ جادًّا غير هازل، ولا عاديًا جادة الحقيقة، إلى شيء من نواشط التعريض والكناية؛ فإن الشعوب تلوذ في طور الضعف بالأثرة والعجب، فتهضم حق الغريب عن بلدها أو معهدها، وأما في طور اليقظة والارتقاء فإنها تعرف لكل ذي فضل فضله، وأجدر الشعوب بذلك من يدينون بقول ربهم {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: ١٠) وقد كان من إعجاب أهل الأزهر بعلمهم وصيته أنهم لم يدعوا مثل السيد جمال الدين الأفغاني إلى التدريس فيه، وهم لم يروا له مثلاً، بل قلما تجود الأعصار له بمثله، فكان يدرس في بيته وكان أكابر شيوخ الأزهر الجامدين يصدون عنه صدودًا. وقد كان الأستاذ الإمام مهَّد السبيل لإيجاد درس في الإنشاء وآداب اللغة بالأزهر يُناط بأديب معمم غير أزهري ولا مصري فلم يتم له ذلك على ما كان له من النفوذ. ولكن تعيين الشيخ الخضر رئيسًا لتحرير الأزهر لم تكن الفضيلة فيه خالصة للأحمدي، بل كان المراغي قد مهد السبيل لها بتعيينه مدرسًا في الأزهر وبهذا اللقب حلي رئيس التحرير في ديباجتها، إذ كان هو المحلل له، ولو شاء أن يكتب بجانب اسمه (التونسي) أو خريج جامعة الزيتونة لما سمحوا له، ولو سمحوا به وفعله لتم لهم عندي فضل الإنصاف والأخوة الإسلامية ولعل الندب الأول له ما كان يسوغ هذا، وإنما كان ذلك بوصية أو إيعاز لا يرد كامتحان العالمية ودرجتها، وكان واسطته - كما قيل - أحمد باشا تيمور رحمه الله تعالى، فالفضل الأول في تدريج الخضر إلى الأزهر خارج عن محيط الأزهر، وإنما أشرح هذا لأنه من قبيل ما يسمى في هذا العصر بالنقد التحليلي لتاريخ الأزهر الذي خبرت أطوار الانقلاب العصري فيه من أولها، ولذلك أنكرت على صديقي شكره لكل مَنْ أحسن إليه إلا المراغي فإنه غمطه حقه. وأما ما أورده علينا من أنه لم يعجب أحد من مريدي الشيخين الجيزاوي وقراعة من مثل ما عجبنا منه فهو سفسطة ظاهرة؛ إذ لا يمكنه إثبات هذه السالبة الكلية. ولو أثبتها لا تقوم بها حجة. (٣) كبوته في وزن العلم ونفسه بغير ميزانهما أنتقل من هذا البيان إلى الجواب عن قوله: وأنا لا أستنكف أن يكون للأستاذ المراغي عندي يد. ولكن التدريس الذي تعنونه بقولكم: (كما أن له الفضل عليه نفسه) قد عرف الناس أني ندبت له قبل أن يتولى فضيلته منصب المشيخة. على أني أربأ بكم أن تزنوا العلم بهذا الميزان، وتجعلوه أنقص قدرًا من متاع هذه الحياة، إذ سميتم ندبي للتدريس فضلاً من النادب عليَّ بدلاً من أن تجعلوه إخلاصًا منه للمعهد الذي تولى أمره ليدبر شؤونه بنصح وأمانة) . وأقول في الجواب: (أولاً) لا شبهة عندي في أنه لا يستنكف أن يكون للأستاذ المراغي يد عنده، لما أعلم من أدبه وتواضعه، ولأنه نوه بما كان لأحمد باشا تيمور عليه من يد، والمراغي أعلى من أحمد تيمور مقامًا في العلم وفي الهيئة الاجتماعية، والتدريس في الأزهر الذي نعني به يد المراغي أعلى وأشرف من يد تيمور في صحبة الأستاذ إلى الإسكندرية ذهابًا وإيابًا التي شاد بذكرها وإطرائه بها على مسامع حاضري لجنة التأبين كما تقدم. (ثانيًا) إنني بينت آنفًا أن للمراغي من الفضل في مسألة التدريس ما ليس لمن قبله، وأن إنكاره لذلك جحد للحقيقة الواقعة. (ثالثًا) وهو المقصود بالذات أن منصب التدريس في الأزهر عندي ليس من متاع هذه الحياة الدنيا وإنما هو عمل علمي ديني من أفضل الأعمال التي تنال بها سعادة الآخرة بالإخلاص فيه لله تعالى، وشرفه في الدنيا من الكمال الحقيقي الشرعي بشرطه لا الوهمي، ولم أذكر في تلك العبارة التي انتقدها الأستاذ الخضر قدر الراتب الذي جعله المراغي للتدريس وكونه أكثر من ضعفي الراتب الأول؛ إذ ليس هو موضوع الفضل عندي، وإنما ذكرته في هذا الرد على الحقيقة التاريخية التي طمسها في مقاله الذي جعل عنوانه (للحقيقة والتاريخ) . فتبين بهذا أنه هو الذي هضم حق العلم؛ إذ لم يخطر بباله من ذكر هذه المسألة إلا ما يقترن بالتدريس من الراتب الذي هو متاع هذه الحياة، فنحن أحق بأن نربأ به أن يزن العلم وأن يزن نفسه بهذا الميزان، ولعله لا يدري أن أهل المعرفة بهذه الأحوال يقولون: إن الرجل معذور فيما يُنتقد عليه في هذا المقام باضطراره إلى مراعاة ما ينقده من الراتب الذي هو قوام معيشته. (رابعًا) إنني أعتقد أن الأستاذ المراغي جعل الأستاذ الخضر مدرسًا في الأزهر بباعث الإخلاص للمعهد وحسن الظن فيه هو؛ إذ علمت أنه اختار ذلك من تلقاء نفسه ولم يفعله بتوصية ولا إيعاز من خارج الأزهر كما قيل في غيره، وبهذا كان أجدر بالشكر من غيره. (٤) الكبوة الكبرى له إيقاظ الفتنة قال: (وعلى فرض أن أكون قد أجملت في مواضع تعلمون منها أكثر مما أعلم كان لفضيلتكم أن تكتبوها للتاريخ في صفاء خاطر متحامين الكلمات التي يسبق إلى أذهان بعض الناس أنها مصنوعة لتثير غبار فتنة، ومثل هذه الفتنة لو أيقظها غيركم لكان واجب الدين وسماحة الأخلاق قبل كل داعية) اهـ بنصه وفصه وحروفه ونقطه. أقول: إن هذه الكلمة هي التي حملتني قبل كل شيء على كتابة هذا الرد بعد نشر الأستاذ لمقالته في مجلة الهداية، وإنني كتبت كلمتي الأولى بصفاء خاطر وود محفوظ مكتفيًا بالإشارة اللطيفة التي تغني اللبيب الذي أردت تذكيره بها إلى ما كنت أربأ به أن يغمز به، ولا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنني لم يخطر ببالي أن فيها كلمة تثير غبار فتنة، بل عجبت لذكره كلمة الفتنة في مقالته ولم أفهم بادئ ذي بدء ما يريد منها، فذكرتها لبعض إخوانه وإخواني الذين هم أعرف مني بشؤونه الأخيرة في جمعيته وفي الأزهر، لعلهم يفهمون من مراده بالفتنة ما لم أفهم، فقالوا: أو لم تقرأ ما كتبه في مجلة الهداية من الإشارة إلى آماله في تعيين الأستاذ الظواهري شيخًا للأزهر؟ قلت: إنني لا أجد وقتًا لقراءة هذه المجلة وهي تجيئني بالمبادلة. قالوا: ارجع إلى الجزء الأول من السنة الثانية لهذه المجلة تجد فيه ما لعلك تفهم منه مراده بالفتنة التي يريدها هو وأنت لا تعلم من أمرها شيئًا، فرجعت إليه فقفَّ شَعري من قراءته وهذا نصه: نص ما كتبه الأستاذ الخضر في الجزء الأول من السنة الثانية لمجلة الهداية الإسلامية بصحيفة ٥٦ تحت عنوان: شيخ الأزهر الجديد (تولى حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد الأحمدي الظواهري مشيخة الأزهر الشريف، فكان لولايته هذا المنصب الكبير أثر ارتياح وابتهاج في الأمة لما يعرفونه لفضيلته من غزارة العلم والغيرة على الدين ونحن نهنئ فضيلته بهذا المقام السامي ونرجو له المعونة من الله، والتوفيق والمؤمل في فضيلته العناية بإصلاح التعليم في الأزهر، وحمايته من عدوى أمراض عقلية أو خلقية أخذت تدب فيه منذ عهد قريب. اهـ المراد منه. قالوا: وقد سئل الشيخ الخضر عن مقصده من قوله: (وحمايته..) إلخ وكُلف أن يبين مراده من هذه الأمراض العقلية والخلقية التي زعم أنها تدب في الأزهر من عهد قريب قولاً وكتابةً في المجلة (الهداية) فأبى أن يقول أو يكتب شيئًا واستقال من أجل ذلك بعض العلماء من جمعية الهداية وكانوا أعضاء فيها. وأقول إذًا ولا يجوز لي أن أسكت: إن كلمة الأستاذ الخضر في دبيب الأمراض العقلية والخلقية في الأزهر لَكلمة كبيرة لا يمكنني تحديد مراده منها، وهو قد أبى بيانها على مَن سألوه عنها، ولم يبالِ باستقالة مَن استقال من جمعيته لأجلها؛ لأنه يعلم أن أكبر أعضائها لا يدققون النظر في مثل هذا فيحاسبوه على كتابته باسم جمعيتهم، وإن هذه الكلمة لأجدر بإثارة غبار الفتنة من إشارتي إلى ما كان يجب من إنصاف التاريخ، أو هي إنذار بفتنة تراد إثارتها في الأزهر بالتهمة التي صبَّها على الأزهر، وأنذرني إياها. أظن أنني أعلم بتاريخ الأزهر الحديث من الأستاذ الخضر؛ لأنني كنت أمين سر الأستاذ الإمام وظهيره فيما كان يحاول من إصلاحه العقلي والخلقي، وما هو نتيجة لهما من الإصلاح العلمي والعملي، ولعله لا يوجد أحد ينكر أن الأستاذ الإمام كان أوسع الناس علمًا بتاريخ الأزهر الحديث - وكذا القديم - لأنه نشأ فيه وعني بمعرفة تاريخه بالتبع لتاريخ الإسلام ومصر وتصدى لإصلاحه منذ كان طالبًا مجاورًا فيه واختبر كبار شيوخه بالمعاشرة، وبما كان له من النفوذ في إدارة الأزهر الذي كان هو الواضع لقانونها صاحب التأثير الأكبر فيما نُفذ منه، وبما كان له من النفوذ أيضًا في تعيين القضاة الشرعيين والمدرسين، على ما آتاه الله من الحكمة وفصل الخطاب، وقد كتبت في أطوار الأزهر في حياته وبعد وفاته مقالات كثيرة لو جُمعت لكانت سفرًا كبيرًا، وكتبت في الجزء الأول من تاريخ الإمام ما فيه العبرة من أطوار الأزهر، وطبعت قبل ذلك كتاب أعمال مجلس إدارة الأزهر في عشر سنين، وهو تاريخ شبه رسمي كتبه الأستاذ الشيخ عبد الكريم سلمان باقتراح الأستاذ الإمام وكان زميله وساعده وعضده في تلك الأعمال، وفيه من بيان أمراض الأزهر العقلية والخلقية الثابتة بالأدلة الرسمية العجب العجاب، فما الذي يريده الخضر بالأمراض العقلية أو الخلقية الجديدة التي تدب عدواها إلى الأزهر من عهد قريب بزعمه وحسب فهمه ويطلب من الأستاذ الظواهري حمايته منها؟ ! الأمراض العقلية قسمان: أمراض عصبية موضوعها الطب وهي غير مرادة هنا قطعًا، وأمراض معنوية تتعلق بوظائف العقل في العلم والتعليم، وأقتلها بناء التعليم على أساس التقليد لمؤلفي الكتب المتداولة في التدريس والمطالعة وحرمان العقل من الاستقلال في العلم بالاستدلال الصحيح في كل علم بحسبه، وهذا الأمر قديم في الأزهر وغيره من المدارس الإسلامية، وهو علة عقم التعليم فيها منذ قرون. ويمتاز هذا العهد الأخير بأنه كان من أثر الإرشاد المعنوي الذي بثه الأستاذ الإمام فيه بعد السيد جمال الدين، وجرى عليه بعض تلاميذه ومريديه - أن دب دبيب الشفاء من ذلك الداء العضال في بعض تلك العقول العقام من الأزهريين، ولكن هؤلاء الأصحاء كانوا مضطهَدين من المقلدين الجامدين، ومعضَّلين من قبل رؤساء المرضى المعضِّلين، حتى إذا ما صارت رياسة الأزهر إلى أكبر مريدي الإمام من خريجي الأزهر قدرًا، وأقواهم عزمًا - وهو الأستاذ المراغي- وجدوا حرية وانتعاشًا، جددوا بها لمحبي الإصلاح لهذا المعهد التليد آمالاً ولا نعرف شيئًا جديدًا يتعلق بصحة العقل ومرضه قد طرأ على الأزهر من عهد قريب غير هذا، فيا ليت شعري أهذا ما يعنيه الأستاذ الخضر من المرض العقلي؟ أما أنا فكان ظني فيه منذ عرفته وذاكرته في مسائل العلم إلى أن قرأت هذه العبارة في مجلة هدايته أنه يعد استقلال العقل في تحصيل العلم هو الصحة، وأن فقد هذا الاستقلال هو المرض العضال، والداء القتَّال، فهل كذبت فيه الظنون وخابت الآمال؟ أم ماذا يعني بهذه العبارة؟ وأما المرض الخلقي القديم في الأزهر الذي كان يشكو منه الأستاذ الإمام ويحاول معالجته - وفي كتاب أعمال مجلس إدارة الأزهر كثير من الشواهد عليه - فشرّه وأضرّه وأقتله الجبن وذلة النفس وما يتبعهما من التملق والخنوع لكبراء رجال الدنيا من الأمراء والوزراء، والطمع في الحُطام المُزري بشرف العلم وكرامة العلماء، ولم يُرَ الأزهر بعد الأستاذ الإمام أعز نفسًا وأعلى همة وأكمل قناعة من الشيخ محمد مصطفى المراغي، تجلى هذا بأبهى مجاليه وأشرف مظاهره في استقالته من مشيخة الجامع الأزهر ورياسة المعاهد الدينية على ما نوهنا به في هذا الرد، فكان هذا خير قدوة ومثال للفئة المهذبة الكريمة الأخلاق في الأزهر، ولا نعرف شيئًا جديدًا خلقيًّا دب في الأزهر من عهد قريب غير هذا، فهل هو الذي يسميه الأستاذ الخضر مرضًا خلقيًّا أم ماذا يعني؟ يجب على الأستاذ الخضر رئيس جمعية الهداية ورئيس تحرير مجلة (نور الإسلام) لسان حال الأزهر والمعاهد الدينية أن يبين لنا مراده من الأمراض العقلية والخلقية، ونحن نعاهد الله تعالى على أن نكون من أعوانه وأعوان الأستاذ الأكبر الذي علق آماله بحمايته للأزهر منها إن ظهرت لنا صحة الدعوى وصدق المقال، وإلا وجب علينا أن ندفع عن الأزهر هذه التهمة، كما هو الواجب على كل مَن يغار على الحق والفضيلة، من غير أدنى مبالاة بالتهديد والوعيد بإثارة الفتنة، فقد هُددنا من قبل بمثل هذا وبما هو أشد منه فلم نخفْ ولم نجبن. ماذا يخشى من يطلب حماية أعظم المعاهد الإسلامية العلمية من الأمراض العقلية والخلقية من عاقبة التصريح بها؟ وبيان البيئة التي دبت منها عدواها، وهو طالب حق ومصلحة، ومؤيد من جانب السلطة والقوة، وهو رئيس للمستشفى الروحي الذي يصف الأدوية لهذه الأمراض والأوبئة (أعني مجلة الأزهر) وظهير رئيس الأطباء له (أعني شيخ الأزهر) . لو لم يُسأل الأستاذ بيان مراده ويمتنع من بيانه لكان أول ما يخطر بالبال أنه يعني بتلك الكلمة الموهمة سريان عدوى الأفكار المادية والنزعات السياسية إلى الأزهر، ولو عنَى هذا لصرح لسائليه من إخوانه به دفعًا للظنة، وبراءة من سوء النية. *** فتنة السعاية بالأستاذ المراغي بقيت علينا كلمة ذكَّرتنا بها كلمته في إثارة الفتنة وهي ما بلغنا في هذه الأثناء من أن بعض السعاة المحَّالين النمامين القتَّاتين المتذقحين المتجرمين قد سعى بالأستاذ المراغي، فاتهمه بما يعبر عنه بعدم الإخلاص للمقام الملكي، وكذلك كان أمثالهم يسعون بالأستاذ الإمام إلى المقام الخديوي، فكانوا مسيئين إلى أنفسهم وإلى ولي أمرهم بإقامة خصوم له من خيار رجال ملكه، وأجدرهم وأقدرهم على تسيير فُلكه، وهم كاذبون في وشايتهم، ملعونون على كذبهم، وعلى نميمتهم. أما الأستاذ الإمام فأقول - ولا أخشى أن أتهم الآن بأنني أريد الدفاع عنه أو التزلف إلى الخديوي -: إنه كان أخلص له من جميع رجال خاصته وموظفي قصره، ومن حاشيته وبطانته، وأما الأستاذ المراغي فأقول فيه - ولا مجال للظنّ بأنني أبتغي أدنى انتفاع منه -: إنني لم أسمع منه كلمة واحدة يصح أن تعد دليلاً أو شبهة على صحة تلك السعاية فيه، بل أقسم بالله وآياته أنني لم أسمع من أحد ولم أقرأ لأحد كلمة ثناء على جلالة الملك فؤاد - على كثرة ما نشرت الجرائد في الثناء عليه - كانت أكبر في نفسي مما سمعته من الشيخ المراغي من رأي لجلالته في علماء المسلمين، وما يتمناه للأزهر ورجاله في خدمة الدين. ذلك أننا كنا نتحدث فيما يجب من إصلاح الأزهر فذكرت للأستاذ ما اقترحته على الشيخ أبي الفضل الجيزاوي رحمه الله تعالى ومنه أنه يجب أن يؤلف لجنة للنظر في المقترحات بعد تحريرها وأنه ينبغي للجنة التي يناط بها تقرير الإصلاح له أن تطَّلع على تاريخ الفاتيكان وقوانينه ونظمه. وتاريخ الكنيسة والإصلاح الديني في النصرانية؛ لتعلم كيف كانت الكنيسة تقاوم العلوم الكونية وتكفر العلماء وتنتقم منهم بأقسى ضروب الانتقام، ثم كيف صار بعض رهبانها من أعلم العلماء المدرسين والمؤلفين في تلك العلوم، وكيف أمكنه المحافظة على الدين ونفوذ الكنيسة بذلك، وما كان من تأثير ذلك في أوربة وفي سائر العالم. فقال لي الأستاذ: إن جلالة الملك فؤاد قد درس تاريخ الفاتيكان ونظمه وقد علمت من حديث لجلالته أنه يتمنى أن يكون لعلماء الإسلام من مثل تلك النظم ما يكون خير الوسائل لحفظ الدين وارتفاع شأنه في هذا العصر. فيا ليت شعري مَن قدر على تحقيق ما يتمناه جلالته مما ذكر؟ المستقلون؟ أم الجامدون المقلدون؟ ولا أقول الآن أكثر من هذا. رُب مدح في لفظه كان ذمًّا في معناه، ورب نصر في صورته وهو خذل في حقيقته، ورب صديق جاهل شر من عدو عاقل، وإن ما نقله لي الأستاذ المراغي من حديث جلالة الملك في هذه المسألة هو أعظم شأنًا عند كل من يغار على الإسلام بعلم وعقل من سبعين قصيدة وسبعين مقالة مما نقرؤه في مدحه المرة بعد المرة، مما يستحق بعض كاتبيه الصفع على أقفيتهم، كقول بعضهم في مقالة نُشرت في الأهرام يوم عيد الجلوس ما معناه: إننا - معشرَ المصريين - غلبنا أو نغلب جميع الأمم ونقول: بعزة فؤاد إنا لنحن الغالبون، أي كما قال سحرة فرعون: {بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الغَالِبُونَ} (الشعراء: ٤٤) والكاتب يعلم أن الله تعالى قال فيهم: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ} (الأعراف: ١١٩) ! ! وربما لم يكن أصحاب الأهرام يعلمون هذا؛ إذ لو علموه لما نشروا تلك المقالة السوءَى في صدر جريدتهم. لقد كان الشيخ محمد عبده وحده خيرًا للخديوي من جميع علماء الأزهر، وكان أقدر على حملهم على الخدمة النافعة التي لم يكونوا يقدرون عليها من دونه؛ لأنهم كانوا كالجند غير المتمرن على الحرب فلا يصلح للجهاد، إلا بتدريب مهرة القواد، وإنما يصلح لقيادة الجيوش مَن بلغ رتبة القيادة العليا في الفنون العسكرية، ولكل جيش قائد من جنسه ولقد جرب الخديوي قيادة العلماء في دفع ما حملته عليه سلطة الاحتلال من عزل قاضي مصر التركي المولَّى من قِبَل السلطان فما أغنوا عنه شيئًا، حتى إذا ما بلغ الأمر غايته، وجاء الأمر القطعي من وزير الخارجية البريطانية إلى لورد كرومر بوجوب اجتماع مجلس النظار تحت رياسة الخديو لتعيين قاضٍ لمصر من علماء الأزهر بدلاً من قاضي الآستانة والخليفة - عظم الأمر على الخديو ولم يَرَ عند أحد من رجاله الرسميين ولا غير الرسميين مخرجًا من هذا المأزِق الذي يقطع آخر صلة دينية له ولمصر بالدولة، فأمر حسن باشا عاصم أن يطلب له الشيخ محمد عبده بلسان البرق ليلاً؛ ليقابله في قصر رأس التين بالإسكندرية صباحًا، فسافر الأستاذ في قطار الصعيد منتصف الليل، فوجد الأمير ينتظره بكرةً، فاستشاره فوصف له المخرج بداهة، وبَيْنَا هو في حضرته وصل لورد كرومر حسب الموعد ليبلغه الأمر البرقي الأخير، فخرج الشيخ من باب، ودخل اللورد من باب، فذكر له الخديو ما لقنه الشيخ من الجواب، فكان فصل الخطاب واستغفر اللورد وأناب! ولو شئت لذكرت هنا ما حاول كبراء العلماء نصر الحكومة الحاضرة به في هذه الأيام، وما كان من سوء تأثيره في الخواص والعوام، وما قالت الجرائد والخطباء فيه، وما حاول بعض العلماء المستقلين من إصدار نداء آخر يُرجى أن يكون أحسن تأثيرًا، وأحفظ لكرامة الأزهر، وما حال دون ذلك، ولكن من خطة المنار اجتناب الدخول في مآزق الحكومة بترجيح أو تجريح، ولم أحب التصدي لانتقاد الأزهر قبل أن تظهر خطته في هذا الطور الجديد، ولكن يظهر من كلام رئيس تحرير مجلة الأزهر ومما بلغني من منهاج التعليم الجديد فيه - أنه عين القديم الذي كنا نجاهده، وأنهم قرروا قراءة المواقف والطوالع وأمثالها لطلبة الأزهر، وسنوفي هذا حقه في مقالات أخرى. وحسبي هذا ردًّا على ما كتبه الأستاذ الخضر فيما يتعلق بشخصه للحقيقة والتاريخ، وسأرد في الجزء التالي على ما كتبه في شأن نصيحتي لمجلة الأزهر إن شاء الله تعالى. وإنني لأود لو أكون مخطئًا فيما فهمت من مقالته ومن مجلة جمعيته، وما يعنيه من إثارة الفتنة ومن الأمراض العقلية والخلقية، وأن يكون كما كنت أظن من حزب المصلحين المعتدلين بين الجامدين والمتفرنجين، فنعود بعد هذا التنازع متعاونين، وبعد هذا الاختلاف متفقين، وتلك عقبى المخلصين.