(بمصر كثير من المضحكا ... ت ولكنه ضحك كالبكا) نعم، إنها أمور تضحك منها السفهاء، وتبكي من عواقبها الألباء، أمور ينظرها الضاحك كما ينظر الصور والتماثيل، ويبصرها الباكي كما يبصر الصواعق والبراكين، أمور تقام لها المعارض في كل صقع، وتحشر إليها الخلائق من كل فج، فيحضرها العالم والجاهل، والأمير والصعلوك، والغني والفقير، والناسك والفاتك، والواهب والسالب، وإن شئت قلت: يحضرها جميع الأصناف من جميع الطبقات، وتعرض منهم وفيهم وعليهم المضحكات المبكيات، معارض تقفل لأجلها بعض مدارس العلم. وتعطل لبعضها مجالس الحكم، وتبطل الزراعة، ويكون حيث تقام أعظم المساجد سوقًا ومرقصًا (بالو) ، وملعبًا وملهى وقهوة وفندقًا (لوكاندة) ، ومستشفى (اسبتالية لكنها روحية) ، وصيدلية (أجزاخانة) ، وماخورًا (موضع الريبة) ، كل ذلك في وقت واحد، معارض قد اشتبهت على العامة حقيقتها فلا يعلمون هل هي دينية أو دنيوية، نافعة أو ضارة. لا شك أن كل مصري يعرف من هذه الأوصاف ما هو المعرض الذي يقام في بلاده، وإن كان يسميه مولدًا لا معرضًا. وأما من لم يكن مصريًا ولا شاهد هذه المعارض في ديار مصر، فإن العجب يأخذ منه مأخذه عندما يقرأ فاتحة هذه المقالة، وربما خيل له أنها كلام سري أو ضرب من الألغاز؛ لأنه يرى الأوصاف لا تنطبق على ما سمع أو رأى من المعارض في البلاد المتمدنة التي يسمع أن مصر ضمت معها في كل سهم، وأخذت من أنواع تمدنها أوفر نصيب. لا تغتر أيها السامع عن تمدن مصر وتقدمها بما ينقله إليك أهل السذاجة أو تموه به عليك الجرائد، فليس في مصر من التمدن والتقدم إلا بعض قصور وحوانيت كلها أو جلها للأجانب، وبعض طرق فسيحة لم تنشأ إلا لجولان مركباتهم، وتِرْكَاض خيولهم ودراجاتهم، وذلك في العاصمة وبعض البلاد الكبيرة (البنادر) فقط. وتوجد أيضًا الطرق الحديدية وأسلاك التلغراف والتليفون، إلا أنها ليست من صنع أبناء البلاد، وإنما هي من صنع الأجانب الذين يجتنون معظم ثمراتها، وهي التي ملكتهم زمام التجارة والمراباة في القطر، فاستنزوفوا ثروة أهله، وامتصوا دماءهم، ثم تخطوا ذلك إلى امتلاك رقبة أراضيهم الواسعة واتخذوهم فيها أجراء ومزارعين. لو أن أحدًا طار في منطاد (بالون) ونزل في الأزبكية وطاف فيما يقرب منها لقال: إن هذه المدينة هي أخت باريس، أو بنتها، وإذا سار إلى القرافة ورأى القصور المشيدة على القبور يذهب به الوهم إلى أن مصر قد عادت لها مدنيتها القديمة، وعما قليل يبني أمراؤها أهرامًا كأهرام الجيزة ويتخذونها قبورًا لهم، ولكنه إذا جال في أنحاء القطر وأرجائه ورأى بيوت السواد الأعظم من الشعب تحاكي زرائب الغنم، ومعاطن الإبل في سائر البلاد التي تفتخر بمصر ويفتخر عليها بعض أهل مصر (كسوريا ولبنان) ، بل هي أقل وأحقر، وإذا خالط مع ذلك هؤلاء المساكين ورأى حالة معيشتهم في مأكلهم وملبسهم حكم حكمًا جازمًا (وربما لم يكن بعيدًا من الصواب) بأن الشعب المصري هو أنكد الشعوب عيشًا وأشدهم بؤسًا وأكثرهم غباوةً وجهلاً، فقد عمل بعض عقلاء المصريين حسابًا للفلاح المصري فوجده ينفق في مدار سنته كلها على أكله ولبوسه: سبعين قرشًا أميريًّا. ولا تحكم على القطر بمثل هذا العاقل، وهذا العالم، وذلك المثري، فإنما كلامنا في الشعب لا في الأفراد، وسننشِئ مقالة مخصوصة في (تمدن مصر) في عدد آخر، ونكتفي الآن ببيان مجمل عن المجتمعات الكبيرة التي تقام في مصر ويسمونها (الموالد) ، فإن مجتمعات كل أمة هي مثال تمدنها وآدابها وعلمها وعملها، وإنني أذكر ذلك بعبارة انتقادية لعله يبعث على تلافي الخلل ومداواة العلل وأبدأ بالكلام عنها من الجهة الدينية فأقول: الموالد إن مصر تلقب بأم العجائب، وما أجدرها بهذا اللقب وأحقها بهذا الاسم، وما أكثر وجوه التفسير والتأويل فيه. وأعجب أولاد هذه الأم شكلاً، وأغربهم وصفًا وفعلاً، هو ما يسمونه: (الموالد) ، اسم يرمي إلى مسمى لم يلاحظ في الأصل مدلوله اليوم، ولم يعرف واضعه إلى أي حد ينتهي. ويظن اللغوي لأول وهلة أن إطلاق المولد على هذا الاجتماع الخاص المعروف ليس له مجاز إلى اللغة، ولا يمس حقيقتها. لكنه لا يلبث ريثما يرجع الطرف إلى المجتمع في مسجد السيد البدوي (رضي الله تعالى عنه) في مثل الأسبوع الفائت إلا وينجلي له وجه للتسمية وجيه. ذلك أنه يرى المجتمع تتولد فيه البدع والمنكرات والسفه والجهالة، وكل فعل مذموم مشؤوم. تدخل المسجد فترى سوادًا عظيمًا وتسمع جلبة وضوضاء. ترى أناسًا قد وضعوا في أعناقهم السلاسل والأغلال، بعضهم عار وبعضهم يلبس الأخلاق والأسمال، وقد تجسدت عليهم الأدران والأقذار، ولبدوا شعورهم المضفورة حتى لا ينفذها الماء، والحشرات ترتع في أجسادهم، تطوف في أطواء مرقعاتهم وأهداب قبعاتهم، وقد قاموا إلى ما يسمونه الذكر {كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ} (البقرة: ٢٧٥) وما كان ذكرهم إلا همهمة ودمدمة، وحمحمة وجمجمة، تشوبها صيحات ونَبْآت، وتخالطها شهقات وزفرات، ويعلوها مُكاء (صفير) وتصدية (تصفيق) ، ويتخللها أوامر ونواه ودعاو طويلة عريضة، وتهذار وهذيان (كلام لا يعقل ولا يفهم كالذي يصدر من المريض) ، ويعقبها نوبات صرع وإغماء، يشترك في ذلك كله النساء والرجال، والشيوخ والأطفال، هذا هو حزب (الأولياء) الذاكرين، وثَمَّ أحزاب أخر فرقوا دينهم وكانوا شيعا. فمنهم المتصدرون للرقي والتمائم، وشفاء الأمراض والأدواء، ومنهم العرافون المتصدون لبيان ما غاب علمه عن الناس من مصالحهم الدنيوية، المبشرون البائسين بزوال بؤسهم والانتصار على أعدائهم، وسائر أرباب الحاجات بقضاء حوائجهم إذا هم رضخوا لهم بشيء من الفلوس. ولهم أعمال دون ذلك هم لها عاملون. ثم ارجع الطرف إلى مقصورة السيد - قدس الله تعالى سره - عن الرضا بهذه البدع والمنكرات، فإنك ترى أن قبره كعبة ثانية، تطوف بها الناس كما تطوف بالكعبة، ويزيدون على ذلك الدعاء وطلب الحوائج من السيد نفسه معتقدين أنه هو الذي يفعل ذلك بنفسه، لما تلقوه من القصص والحكايات في ذلك، التي منها: أن رجلاً أضل جاموسة له أو سرقت منه، فجاء إلى قبر السيد وطلبها منه، فلم يجئه بها، فأغلظ عليه في القول وأهانه بالكلام وهدده بانتقام الحكومة منه، فلم يلبث بعد ذلك إلا قليلاً حتى رأى القبر يضطرب، وسمع خوار الجاموسة من تحت الستار الذي على القبر، ثم خرجت الجاموسة من القبر وتمثلت بين يديه، فأخذها من المسجد وانصرف. فمثل هذه الأساطير التي ترويها الآباء للأبناء، ويقرهم عليها شيوخ العلم والإرشاد هي التي قادتهم بسلاسل التقليد إلى الاعتقاد بأن السيد يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وتفضيله على الأنبياء، بل نقل عن اثنين من الجهلة كانا يتساءلان عن المفاضلة بين السيد والنبي صلى الله تعالى عليه وسلم؟ فقال أحدهما للآخر: (اسكت يا واد دا السيد أفضل من ربنا) ! ! ! (تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا) ، وهذه الحكايات سارت بها الركبان، وعرفها أهل الشرق والغرب، كل هذا والعلماء ساكتون حذرًا من الوقوع في إنكار الكرامات، والاعتراض على الأولياء الذي يخشى معه أن يتصرفوا بهم ويوقعوهم في الرجز الأليم. ثم إن للوليات من هؤلاء أعمالاً غير التي أشرنا إليها، ذلك أنهن يفضن الخيرات والبركات على الناس بواسطة المصافحة والتقبيل والعناق، ويقذعن عند ذلك بألفاظ من الفحش لا يليق أن تحكى فضلاً عن أن تسطر في الأوراق. رأى كاتب هذه الكلمات بعينه ولية منهن صبيحة الوجه، وفي معصمها أَسْوِرَة، وفي أصابعها خواتيم، وفي عنقها عقود، وقد جمع رأسها إلى رأسَيْ رجلين والتفَّت الأيدي على الأعناق، فكان عناقا مثلثاً ... ورأى منهن فتاة مدت يدها لمصافحته فأعرض عنها، فوثبت عليه كالثعبان وقبَّلته في وجهه قبلات متتابعة. وفعلت ذلك مع غيره أيضًا. كل هذا يجري في بيت الله على مرأى من العلماء ومسمع، وهم له مقرون، وبه راضون، يحذرون أن يغضب عليهم السيد إذا غضبوا لله وانتصروا لدينه وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. إن سكوت العلماء بل مشايعتهم لعاملي هذه الأعمال بترك دروس العلم وتخلية المسجد لهم، وغشيانهم مجالسهم من غير نهي ولا إنكار وتهنئتهم بهذا الموسم الشريف والدعاء لهم بالحياة لمثله أعوامًا وأحوالاً - كل ذلك وأمثاله أوقع في أذهان العامة أن هذه الأعمال من مهمات الدين التي تضاعف بها الحسنات وتمحى معها السيئات، فلقد أنكرت بعض المحرمات التي رأيتها على عصابة ممن في المسجد فأجابني بعضهم قائلاً: (أبو فراج ساحتو واسعة) فسألته الإفصاح عن هذه العبارة وبيان معناها فقال: (يعني ما علهشي هم العلماء قالوا: إن لمس المره في أيام المولد ما ينقضشي الوضوء) ولعمري إنه جدير بأن يقول هذا، فإن لديه كل حجة لو عرضها على منبر جامع السيد أمام الآلاف المحشورة فيه من شيوخ العلم والطريق وغيرهم لظلت أعناقهم لها خاضعين. ولم ينبس أحد ببنت شفة في تكذيب روايتها أو بيان أنها لا تفيد المطلوب على تقدير ثبوتها، وما هي إلا حكاية من الحكايات التي تروى عن كرامات السيد وتؤخذ مسلمة، سواء كان راويها عدلاً أم فاسقًا عاقلاً أم مجنونًا. وهذه من المزايا التي يميز الجماهير بها ما يؤثر عن الأولياء من العجائب والخوارق على ما يؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الحكم والأحكام. وتلك الحكايات كثيرة، وكلها ترجع إلى شيء واحد، وهو أن من يعترض على منكر يحصل في مولد السيد فلا بد أن ينكب بنكبة أو يصاب بمصيبة، وقد غلا بعضهم غلوًا كبيرًا حيث زعم أن في ذلك خطراً على العقيدة، وأن المعترض لا يكاد يموت على الإيمان، وجهل القائلون بهذا والمصدقون به أن هذا الخطر من الاعتراض لا يحيق إلا بهم؛ لأنهم هم الذين نقصوا السيد حيث جعلوه زعيم الفاسقين، وقواد الفاجرين، ورئيس العاملين على هدم الدين. (نعوذ بالله من هذا الجهل الفاضح) ، أما والله لقد طاشت سهامهم، وامتلخت أحلامهم (انتزعت عقولهم) ، وضل رشادهم، وعظم فسادهم، فإذا حدثتهم بما ينابذ الشرع والعقل قبلوه، وإذا جئتهم بما يؤيدهما رفضوه ولم يتقبلوه. وأهون ما يحكون عمن اعترض على ما يحصل في مسجد السيد أيام مولده ثم رجع إلى الإقرار، وانضوى إلى أهل الرضى والتسليم: أن رجلاً من المغرب جاء لزيارة السيد في أيام المولد، فشاهد من المنكرات ما ضاق له صدره، وعظم عليه أمره، فترك الزيارة، وخرج مغاضبًا ومنكرًا ولاية السيد، إذ لم يتصرف بهؤلاء العصاة الذين ينتهكون حرمة حماه، ويأتون المحرمات في مشهده ومغناه، فلما انتهى إلى البحر بالت بغلته في الماء فتأثر ذلك (أي خرج إثره) رجل خرج من الماء وقال للمغربي: يا رجل قد نجست الماء، فأجابه، وهل ينجس البحر، فقال له: وهل السيد إلا بحر، فكيف يعكره أو ينجسه ما رأيت؟ فرجع المغربي يحدث بما رأى، وقد أيقن أن الذي خرج من الماء وكلمه بهذا القول الهراء هو السيد البدوي. وأنا أروي لهم رواية صحيحة المتن والسند، فهل يقبلها منهم أحد، أم يرفضونها، لأنها أليق بمحاسن الدين، وفيها تعظيم صحيح للأولياء والصالحين، وهي: كان بعض طلبة العلم العقلاء يحضر العلم في الجامع الأحمدي في طنطا من نحو ٣٠ سنة، ولما كانت أيام المولد أراد أن يصلي مع بعض أشياخه في جامع السيد، فقام الشيخ وتوضأ من ميضأة الجامع وهي متغيرة اللون والطعم والريح من النجاسة، فأبى أن يأتم به تلميذه وكان جاء المسجد متوضئًا، بل صرح له بالإنكار وبأن صلاته مع النجاسة والوضوء بالماء النجس غير جائزة، فأتم الشيخ به، ولما فرغا من الصلاة قال له الشيخ: لا بد أن تصاب بنكبة لاعتراضك وأنا لولا أن نفسي تعاف الشرب من ماء مجاري كنف جامع السيد لشربت منها، فقال له التلميذ: إذا كان السيد وليًا لله، بل إذا كان مسلمًا حقيقيًّا (وهو كذلك) فإنه يغار على الدين، ويكون ما قلته أنا هو المرضي عنده، وإذا كان غير ذلك فلا أبالي برضاه وسخطه، وهذا إذا فرضنا أنه رقيب ومهيمن على الأعمال، يرضى لحسنها ويسخط لقبيحها، وإنني أخاف عليك أيها الأستاذ أن تصاب ببلاء لاستهانتك بمراعاة الشريعة وإقدامك على مخالفتها، وأقول هذا مع الأسف لاحتياج مثلي إلى إرشاد مثلك، وتفارقا وفي اليوم التالي حاول التلميذ العاقل الاجتماع بشيخه حيث كان يلقاه في المسجد، فلم يجده وبعد السؤال علم أنه مريض في إحدى الخيام، فذهب لعيادته فألفاه مثقلاً بالدثر الغليظة، وهو يرتعد من الحمى مع لفح الهجير واتقاد السعير حيث كان ذلك في المولد الكبير (في أغسطس) ، وأخبره أنه منذ فارقه بعد الصلاة جاء ذلك المكان فعاجلته الحمى فيه، فقال له التلميذ: وها أنا ذا صحيح مُعافًى، فمن الذي عوقب على الاعتراض والإنكار؟ ثم نقله من خيمته واعتنى بخدمته. فيا معاشر الناس إن كنتم تعتقدون أن الأمراض والمصائب تأتي من ارتكاب الخطايا واقتراف المعاصي، فالمعاصي والخطايا هي ما ترونه وتأتونه في مسجد السيد، وإن كنتم تعتقدون أن الله تعالى يعاقبكم في الدنيا والآخرة على إنكار المنكر والأمر بالمعروف والعمل به، إذا حصل ذلك في جوار السيد فقد نبذتم دين الله تعالى وراء ظهوركم، كما أنكم تنكبتم طريق العقل، وأساطيركم التي تسمونها كرامات وتعدونها من الآيات البينات أيضًا ليس فيها على ما تدعون برهان مبين، ولا تقوى على سلطان العقل والدين المبين، لا سيما وهي معارضة بحكايات أصح منها رواية وأقوى دراية عن الذين أنكروا هذه المنكرات وأثّموا فاعلي هذه السيئات، ولم يصابوا على ما عملوا بسوء، ولا صب عليهم العذاب، ومنهم من كشف عنه السوء واكتنفته النعمة، بل منهم من ابتلي إثر التهاون بحقوق الشريعة الشريفة وترك الإنكار على من أخل بها بالمرض، كما سمعت في الحكاية الواقعة التي قصصتها آنفًا فاعتبروا يا أولي الأبصار. ((يتبع بمقال تالٍ))