للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الانتقاد على المنار
في بحث اختلاف الأمة

جاء في مجلة دين ومعيشت الإسلامية التي تصدر في البلاد الروسية ما
ترجمته.
كنا ترجمنا في العدد ٢٧ من المجلة مقالة من مجلة المنار في حديث:
(اختلاف أمتي رحمة) ، ووعدنا ببيان كون بعض الكلمات منها لا يطمئن به
الخاطر؛ فإنجازًا للوعد نبين فكرنا في المسألة: تقول المنار في آخر المقالة:
(ولكن لما جاء دور التقليد والتشيع والتعصب للمذاهب حلت النقمة، وتفرقت
الكلمة، وذهب الريح والشوكة، إلى أن وصلنا إلى هذه الدرجة من الضعف: ذهب
ملكنا الكبيرة وصارت المملكة الكبيرة من ممالكنا تقع في قبضة الأجانب) يريد
بقوله هذا: إسناد السبب في ضعف الإسلام، وكون أهله متفرقين شذر مذر إلى
انقسامهم إلى مذهبي: السنة والشيعة والمذاهب الأربعة المشهورة؛ بسبب اختلاف
الأئمة في الأحكام، وإلى أن كل فرقة من أتباع الأئمة الأربعة تقلد إمامها، بذلك
يسند الغيب إليهم. هذا الفكر خطأ من المنار على ما نظن، والسبب في ضعف
العالم الإسلامي وصيرورته إلى تلك الحال؛ هو كون المسلمين مغلوبين أمام
خصلتين من أقبح الخصال في الشريعة الإسلامية واتصافهم بهما: الأولى منها
الحمية الجاهلية؛ أعني بها الاهتمام بالقومية والجنسية العربية والتركية والفارسية
والهندية والتتارية والجركسية وأمثالها، وتقديم كل قوم وملة حفظ قوميتهم ومليتهم
على حفظ الوحدة الإسلامية، والقرآن يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ
إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ} (آل عمران: ١٠٣) .
(وهنا فسر معنى الآية بالتتارية ثم قال) : معلوم عند كل من يطلع على
كتب التفاسير والتواريخ أن العرب قبل مجيء الإسلام؛ كانت قبائل وطوائف كل
واحدة منها عدوة للأخرى تعيش بالقتل والنهب (وبعبارة أخرى. كانوا يمضون
الأوقات بالقتل والنهب) وبعد مجيء الإسلام تركوا العداوة فيما بينهم واتحدوا
وتآخوا حتى اضطربت أطراف الأرض بقوتهم وشوكتهم، وإذا أسلم أناس من أي
ملة كانوا عدهم العرب إخوانًا لهم، وكذلك الذين أسلموا؛ بسبب هذا الاتحاد
والتآخي، لم يبق بين المسلمين للعصبية ولا الرومية ولا الفارسية ولا غيرها من
القوميات والجنسيات، وعاش المسلمون كلهم كما يعيش الإخوان مع إخوتهم.
الزمان لا يدوم على حال واحدة، بل لا بد من التقلب من حال إلى حال؛
فالفرس الذين ذهبت الدولة من أيديهم بشوكة الإسلام، كانوا مسلمين كسائر الناس،
ولكن البعض منهم لا سيما الذين لم تذهب لذة الإمارة من أفواههم، لم يهضموا في
نفوسهم رياسة العرب الذين كانوا قبل الإسلام غير معدودين من البشر على
اعتقادهم. فأرادوا إلقاء الفتن بين المسلمين؛ ومن ورائه حفظ قوميتهم ومنصب
الرياسة في ملتهم بأي طريق كان، هكذا أخذوا يعملون بالحمية الجاهلية.
للوصول إلى تلك الأماني ألقوا الفتنة أولاً بين العرب، وأخذوا يفضلون طائفة
منهم ويستخفون بالآخرين. فبهذه الكيفية حملوا العرب أنفسهم على زرع بذور
التفرقة بينهم الممنوعة بالآيات القرآنية المار ذكرها؛ وللإيهام بحسن أعمالهم
ومشروعيتها أظهروها في روح الذين دعوا الناس إلى لعن الخلفاء الأولين
وتكفيرهم؛ لأنهم غصبوا الخلافة من عليّ كرم الله وجهه، وكانت من حقه.
وهذه الأعمال منهم إنما يريدون بها سترة حميتهم الجاهلية وإبداءها في صورة
حسنة؛ كشيء مشروع في أعين الناس وأصل الخلاف ليس هناك، هم في الحقيقة
لا يرون كون الخلافة في عليّ كما لا يرون كونها في أبي بكر أو عمر، بل تلك
الأعمال منهم كما قلنا إلقاء للفتنة بين العرب والأمل باختطاف شيء من الرياسة لهم
أثناء الفتن، بناء على ذلك ما كان ذلك الاختلاف بعد مجيء دور التشيع كما قال
صاحب المنار، بل كان موجودًا قبل التشيع، ولكن ظهر في الميدان صباغ التشيع؛
لتقوية ذلك الاختلاف فقط.
أما تقليد الأئمة الأربعة، فليس له أدنى مناسبة لذلك الاختلاف؛ والدليل على
ذلك أنه لم يوجد في وقت من الأوقات فتن تنحر إلى الحرب بسبب الاختلاف في
الحنفية والشافعية أو المالكية ولا الحنبلية، لا ترى حربًا من الحروب الإسلامية إلا
وتجد سببها الأول ترجيح القومية والملية على الوحدة الإسلامية. وإذا قلنا بلسان
العرب فهو الحمية الجاهلية، والإثبات ذلك يكفي النظر في حال تركيا الآن: فتنة
في اليمن، وعصيان في الدروز، وشق عصا الطاعة في الألبان، كل تلك
الاضطرابات ليس سببها الاختلاف في كون بعضهم مسلمًا أو غير مسلم، أو في
كون بعضهم شافعيًّا أو حنفيًّا. بل السبب في الكل تلك القومية والملية.
كنا ذكرنا في أول المقالة خصلتين، وقلنا: إنهما السبب في وصول العالم
الإسلامي إلى تلك الدرجة من الضعف، الخصلة الأولى قد بيناها. وأما الثانية فهي
حب الرياسة. كون تلك الخصلة من الأخلاق الذميمة في الشريعة الإسلامية مبين
بالتفصيل في كتب الأخلاق. فلا حاجة هنا إلى البيان من تلك الجهة، كل قوم
يريدون رياسة قومهم على الآخرين دون غيرهم. ولا يتجنب في ذلك أي عمل
يمكن مجيئه من يديه، وكذلك كل فرد من أفراد القوم يريد أن يترأس في قومه دون
غيره، وهذه الخصلة شائعة جدًّا بين الجهلاء ولا سيما بين غير الممدنيين في ديار
القزاق والباشقرط، فهم يجتهدون في نيل منصب بولص وأستر شينه (كلاهما
منصب حاكم في درجة واحدة) حتى ينجر الأمر في بعض الأوقات إلى الحنابلة كل
ذلك أمام العيون، شيوع حب الرياسة بين أفراد قوم، لا شك في كونه يجلب
أضرارًا جسيمة على القوم، وذلك حقيقة ثابتة بتجارب عديدة، نيل شخص غير
منتظر الظهور في الميدان على منصب الرياسة وقت تخاصم اثنين فيها يصادف
كثيرًا جدًّا، ولا يكون نصيب المتخاصمين فيها إلا إضاعة الوقت وصرف القوى،
كذلك الدولة المتشكلة من الأقوام الكثيرين إذا شاع في أبنائها حب الرياسة أو
تطاول كل قوم إلى اتخاذ رئيس فيما بينهم، فلا شك في سريان الضعف إلى تلك
الدولة من جميع أطرافها، وتلك حقيقة ثابتة بتجارب عديدة ومعروف لكل من يطالع
كتب التواريخ. ولا حاجة إلى مراجعة كثير من الكتب ليعرف، بل يكفي قليل من
التفكير في أسباب دخول ممالك الهند المتشكلة من الأقوام العديدة مقدارهم ثلاثمائة
مليون أو زيادة في قبضة الإنكليز وعددهم ثلاثون مليونًا فقط.
الأقوام والقبائل في الهند، كانوا لا يتحملون رياسة الأقوام الآخرين من
جيرانهم، وكانت الحروب الدموية لا تنقطع فيما بينهم في نصب رئيس من أنفسهم
دون الأقوام الآخرين، ففي ذلك الوقت جاءتهم الإنكليز، وقالت لهم: (اتركوا
الحرب فيما بينكم ولا تقاتلوا من غير جدوى، كلكم لا تصلحون للرياسة أبدًا،
ولنجرب نحن أمر الرياسة عليكم) حتى أخذوا جميع الهند في أيديهم الصغيرة من
غير مشقة أو بمشقة قليلة، وصاروا رؤساء عليها يحكمون. فالسبب في استسلام
هؤلاء الأقوام الذين لا يعد عددهم ولا يحص إلى الإنكليز وهم عدة ملايين ليس
اختلافهم في الحنفية والشافعية أو النسبية أو الشعبية، بل السبب من غير شك
خصلة حب الرياسة المذمومة المزوجة بالاختلاف في القومية والملية.
نظن أن صاحب المنار المحترم؛ لا شك يعرف أكثر منا سبب دخول
الإنكليز مصر التي ولد فيها وتربى في قبضة الإنكليز، السبب في ذلك من غير
شك ليس اختلافهم في الحنفية أو الشافعية؛ لأن المصريين كلهم شافعيو المذهب إلا
القليل اليسير، بل السبب فيها أيضًا تلك الخصلة الذميمة خصلة حب الرياسة،
وبعد ذلك لا حاجة بنا إلى قراءة تواريخ تونس أو الأندلس، فنحن ما عرفنا كيف
نؤول كلام رشيد رضا أفندي المحترم؛ حيث يقول: السبب في دخول ممالك
الإسلام في يد الأجانب التقليد والتشيع. والحال أن تلك الأسباب المار ذكرها في
الميدان أمام كل الناس، لذلك قلنا: إن هذا الفكر خطأ من المنار، وما قلنا ذلك إلا
تأدبًا وإلا ما يعوزنا الكلام لمقابلة تلك الكلمات من المنار؛ لأن المذاهب الأربعة قد
توورثت (أو تنوقلت) عن الأولين إلى الآخرين منذ عشر قرون أو أكثر قرنًا بعد
قرن، وما قال أحد في قرن من القرون لا سيما العلماء بعدم لزوم تلك المذاهب،
بل عدوها عين الرحمة كما يقول الحديث.اهـ.