لقد مر على البلاد المصرية زمن طويل ورياح الحوادث تدك مبانيها، وتنسف أراضيها، وتغرق سفنها، وتفعل فيها الأفاعيل، ولا جرم فهي الريح العقيم، التي لا تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، عصفت صرصرًا عاتية، فتركت القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، ولم تكد تُبقي لمعالمهم من باقية، لكن عهدنا برياح الحوادث والكوارث أنها كالرياح الطبيعية، منها ما يأتي بالعذاب والخراب، ومنها ما يجيء بالخير والبركات، وكم من بصير موفق استفاد من البلاء، فعاد عليه بالسعادة والنعماء، وكم من مخذول أخرق أصابته النعمة فأساء استعمالها؛ فكانت عليه نقمة، فما بالنا نُغتال من جانب الفائدة، ونشقى من حيث تُرتجى لنا السعادة، وغيرنا يستفيد حتى من الغوائل، ويربح من حيث يتوقع الخسران؟ كيف أمست معارفنا عافية، ومدارسنا دارسة، وتعليم أولادنا أخوف ما نخافه على استقلال بلادنا؟ كيف صرنا نَفرَق من المعارف وهي روح حياة الأنام، أن تأول بنا إلى الموت الزؤام، وكفاك بإضعاف اللغة إضعافًا ينتهي بالإعدام. أما آن لمرار الرجاء بالحكومة أن تسحل، ولحبال الآمال بمعارفها أن تُقطَّع، ويرجع المصريون إلى رشادهم، ويعتمدوا على قوتهم الشعبية واستعدادهم؟ أما آن لهذه الرياح التي تعصف في بلادهم أن توقظ قومًا نيامًا، وتثير في جوّهم سحابًا رُكامًا، يجودهم بالغيث الذي تحيا به الأرض بعد موتها، وتعشوشب الأحراز بعد إقفارها، وتزدهي بكل زوج بهيج؟ ، بلى قد رأينا في أوائل هذا العام قزعًا من سحاب الهمم في جو مديرية جرجا، وقد لاحت قزعة أخرى من عهد قريب في جو الإسكندرية، وإن بريق الأمل والرجاء يلمع في هذه وتلك، يبشر بأن وراءه ربيعًا، وغيثًا مريعًا، لكنه يأتي رويدًا رويدًا. كعهدك في صوب العهاد مرتبا ... رذاذًا وتهتانًا إذا ما تحدَّرا أعني بهذا ما ذكرناه في العدد الخامس عشر من الجمعية التي تألفت في مديرية جرجا بهمة سعادة مديرها الفاضل، وما كان من نجاحها في افتتاح المدارس الوطنية الأهلية، وما بشرتنا به الجوائب (الأخبار الطارئة) الأخيرة من نشاط أهل الإسكندرية لمثل ذلك، وتأليف جمعية للاكتتاب، وجمع النقود لإنشاء مدرسة للبنين والبنات، وما ظهر على العمل من علائم النجاح وأمارات الفلاح. طلب أهل الإسكندرية من الحكومة أن تنشئ لهم أربع مدارس من قبل نظارة المعارف، فأجابت النظارة بعدم إمكان إجابة سؤالهم لإعسار خزينتها الآن، فأخذت الأريحية بعض سكان (باب الحديد) و (محرم بك) من ذلك الثغر وحرَّكتهم الحمية الوطنية لجمع المال بالاكتتاب وإنشاء مدرسة للبنين والبنات، فلم تمضِ طائفة من الزمن حتى جمعوا نحو مائتي جنيه، وقد عرضت اللجنة المنتدبة لذلك على جمعية العروة الوثقى أن يجعلوا لديها ما يجمعونه من المال، ويعهدوا لها بفتح المدرسة، فأجابت الجمعية سُؤْلهم وقررت فتح المدرسة وتعيين المعلمين والمعلمات لها، وقد أصاب الأهالي الغرض في تفويض هذا الأمر لجمعية العروة الوثقى، فإنها بالمكان الذي يعرفه الجميع من السداد والانتظام. تبشرنا هذه الأعمال الغُرَر في الجهات المختلفة من القطر بأن العناية الإلهية قد أعدت النفوس لنهضة عامة وأن وراء هذا الطل البكور وابلاً عامًّا غدقًا (كثيرًا) وظهر خطأ من يقول: إن جماهير المصريين لا يبذلون الأموال إلا في سبل الشهوات واللذات والزينة الباطلة والفخفخة الكاذبة، وكل ما يسمى الإنفاق فيه إسرافًا وتبذيرًا. إن المصريين لا قيمة عندهم للمال، وإلا لما أسرفوا فيه وبذروه، نعم إنهم ككل البشر لا يبذلون المال إلا في اجتلاب المنافع واجتناب المضار، بحسب إدراكاتهم وعاداتهم التي تربوا عليها عملاً وتخلقًا؛ فإن الأعمال كلها - ومنها الإنفاق - تنشأ إما عن الانفعال الطبيعي، وإما عن الاعتقاد الراسخ في النفس بالعمل والعادة، فاختلاف العمل وفساده إنما يأتي من فساد التربية الذي يرى الحسن قبيحًا، والضار نافعًا، ألم تر إلى هؤلاء الشبان المسترسلين في الفجور، المستهترين في العشق الفاسد، كيف يتبارون في تنازع الكؤوس والأكواب، ويتنافسون في الاستئثار بالبغايا والقحاب، ولولا أنهم يرون ذلك فضيلة ويعتقدونه كمالاً لما تفاخروا في المسابقة إليه، وتفانوا في إحراز الغاية منه، نعم إنهم لا يطلقون عليه لقب الفضيلة والكمال؛ لأن الاستعمال اللغوي والاصطلاح الشرعي لهما الغلبة في المواضعة اللسانية وقد مضت سنة الأولين في فساد الأديان والقوانين المدنية، وسائر الروابط للأمم بأن الفساد يطرأ أولاً على الأخلاق والآداب النفسية، ثم على الأعمال البدنية بالتدريج، وآخر ما يبقى للأمة المنحطة من دينها وآدابها وقوانينها الاصطلاحات اللفظية والشارات والشعائر العامة، لكنها تبقى ألفاظًا لا معاني لها، وأفعالاً لا فائدة منها، أو كما يقول الصوفية: قشورًا بلا لُباب، وأشباحًا بغير أرواح. ما ذكرنا من مناشئ الأعمال إنما هو في الأعمال التي تندفع إليها النفس من ذاتها مع الارتياح إليها وترجيح فائدتها عن إذعان وطمأنينة. وإن من خصائص الإنسان أن يقدر على الإتيان بعمل لا يكون مندفعًا إليه من طبيعته، ولا ترتاح إليه نفسه، وإنما يتكلفه تكلفًا إذا ترجح عند عقله أنه يدفع عنه بلاءً، أو يعود عليه بنعماء، فإذا كان السواد الأعظم من المصريين عادم التربية الصحيحة التي تدفع إلى الإنفاق على تعميم المعارف التي فيها سعادته - فهو ليس فاقدًا للإنسانية التي من خواصها أن يتكلف الإنسان العمل النافع تكلفًا إذا اقتنع بفائدته. فإذا قام خيار المصريين وأصحاب العقل والفضيلة الملتهبون غيرةً على وطنهم وألفوا جمعية كبرى للاكتتاب العام وجمع المال من جميع أنحاء القطر - فلا شك أنهم يلاقون إقبالاً ويصادفون نجاحًا؛ لأن الكثير من الناس يعتقدون أن نجاح البلاد واستقلالها إنما يكون بالتربية والتعليم، وأن تعليم الحكومة على قصوره قد اصطبغ بالصبغة الأجنبية، فصار الخوف منه على البلاد أكثر من الرجاء به، وإذا ظل على سيره الذي هو عليه الآن فلا يمضي زمن طويل إلا ويكون ضررًا بحتًا، وبلاءً صُراحًا قاضيًا على الاستقلال، قاطعًا للأمل في الاستقبال، ومَن عدا هؤلاء، فإنهم وإن لم يكونوا مدركين هذه الحقائق وأمثالها، فقد أعدهم لإدراكها الشعور العام بثقل وطأة الأجنبي وضغطه على بلادهم واستئثاره بمنافعها الكلية من دونهم، والجرائد الوطنية الصادقة تنبههم على ما غفلوا عنه، وتعلمهم ما جهلوه من الأخطار التي تتهددهم، والأرزاء التي تتوعدهم، هذا ما عنيناه بقولنا: إن العناية الإلهية قد أعدت النفوس لنهضة عامة. وإذا تألفت الجمعية برئاسة أحد العظماء الذين تركن إليهم النفوس، وتطمئن بهم القلوب، كدولة الوزير الخطير رياض باشا، وكانت تحت رعاية الحضرة الخديوية الفخيمة، وأقيمت لها لجان فرعية في أنحاء القطر على نحو ما كان من جمعية الإعانة العسكرية السلطانية، وسايرتها الجرائد المحلية في جميع سبلها وشعابها: تكرر النداء، وتواصل الحداء، وترفع للمحسنين رايات الثناء، إذا كان هذا كله فلا تسل عما تصادف الجمعية من إقبال، وما تجمع من مال. إن بعض الناس ينفق في هذا السبيل ابتغاء مرضاة الله تعالى، وبعضهم يجود عن أريحية وكرم سجية، وبعضهم يبذل رغبة في اقتطاف ثمار الثناء، وطمعًا بتخليد اسمه في سجل الأسخياء، ومنهم من يعطي محبةً في تعزيز وطنه وإعلاء شأنه، ومنهم من يحبو مجاراة لجيرانه، ومباراة لأقتاله وأقرانه، ومنهم من يرضخ بالقليل، خوف القال والقيل. ولا إخال أحدًا من الوجهاء والمشاهير يمسك يده عن البذل في هذا المشروع، وهو يعلم أن الممسك فيه مذموم ومذؤوم، عند أهل الدين وأهل الدنيا، عند المتمدنين والمتوحشين، بل عند الله وملائكته ورسله والناس أجمعين. إذا تسنى للمصريين تأليف هذه الجمعية وأسسوا إدارة معارف وطنية، يسهل عليهم تحويل الأوقاف الخيرية الأهلية المخصصة لمثل هذا العمل إلى صندوق الجمعية، ومطالبة نظارة المعارف بما تأخذه من مال الأوقاف كل سنة لتنفقه على المكاتب الأهلية (وهذا ما اقترحه المؤيد الأغر) وتحول الجمعية تلك المكاتب إلى إدارتها وتنفق عليها مراعية لشروط الواقفين، أو تبقى تابعة لإدارة نظارة المعارف فيجري عليها نظام النظارة كغيرها بأن تكون عامة لجميع المصريين مسلمين وغيرهم، وينفق عليها من صندوق المعارف الذي هو من مال جميع المصريين. فيا أيها المصريون اعتبروا بحال إخوانكم الهنديين الذين فرطوا وقصروا فاعتورتهم المصائب وانتابتهم النوائب، حتى علاهم الوثنيون، ووطأهم الأوروبيون، فندموا على تضييع الفرص، وهبوا لاغتنامها بعد نوم طويل وخمول مستغرق، اعتبروا بمن هو أقرب، لينظر المسلمون منكم إلى الأقباط يروا أن لجمعيات الأقباط وهي عديدة ومتشعبة في جميع القطر نحو أربعين مدرسة سوى المدرسة الكلية للبطريقخانة، وليس للمسلمين إلا جمعية خيرية واحدة، وكل ما لها من المدارس أربع فقط، ونسبة الذين يتعلمون في أوروبا من الأقباط سواء كان على نفقاتهم الخصوصية أو نفقة السكة الحديدية أو المعارف إلى أمثالهم من المسلمين كنسبة الجمعيات الخيرية والمدارس الأهلية إلى كل فريق، مع أن الأقباط لا يبلغون في الحقيقة عشر المسلمين عدًّا، والمسلمون أوفر منهم ثراءً وأكثر سخاءً (كما قلنا من قبل) وأوقافهم الخيرية أوسع من أوقافهم. أيها المصريون قد سنحت لكم الفرصة فلا تضيعوها، وفتحت لكم أبواب العناية، وما عليكم إلا أن تلجوها، إن الزمان لكم بالمرصاد فيوشك أن يعارضكم غدًا بما يعرض عنه اليوم، وأن يمنعكم بعد حين ما يمنحكم الآن، فبادروا الزمان قبل فوات الإمكان {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان} (المائدة: ٢) .