للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد عبده


القوة والقانون [*]
من مقالات الأستاذ الحكيم الشيخ محمد عبده الشهير

قبل الكلام على خصائص هذين الركنين لهيئة الوجود الإنساني، نريد أن نبين
حقيقة كل منهما؛ ليكون القارئ على علم بما يلقى إليه بعد، فلا يخطئ الغرض ولا
يجاور المرض، ولا تلحقه شبهة توقعه في ظلام الحيرة، وغيهب التردد - أما
القوة فلا نعني بها إلا ما يستعمل لجلب الملائم، ودفع المكروه سواء كان من شخص
واحد أو جماعة متآلفة أو شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، وسواء كانت آلة
تحصيل الملائم ورفع المصادم هي القوة البدنية مجردة عن سواها، كما تراه في
السباع الضارية والحيوانات الكاسرة، أو هي منضمة إلى السيوف القاطعة والآلات
المحرقة، وغير ذلك مما يستعمله الإنسان في مواطن الغلبة والصيال.
أما القانون فهو الناموس الحق الذي ترجع إليه الأمم في معاملاتها العمومية،
وأحوالها الخصوصية، وهيئاتها النفسانية أعم من أن يكون متعلقاً بروابط المماليك
وعلائقها، أو منوطًا بالسياسة الداخلية، كالإدارة المدنية والتدابير المنزلية، أو باحثًا
عن الأخلاق الفاضلة، وما ينبغي أن يتحلى به الإنسان منها، وما يجب أن يبتعد عنه
من أضدادها، وسواء كان في أمة واحدة أو أمم متعددة.
وهاتان الحقيقتان هما موضوع كلامنا الآن، أما القوة فكانت شرعة الأمم
الغابرة والشعوب السالفة، وقت أن كان الإنسان جبلي الطبع، لا يمتاز عن غيره من
أنواع الحيوانات إلا بالفصل المميز، أعني: قابلية النطق المجرد عن نور
المعارف وشعار التمدن، فكانت له الحاكم الفيصل، يرجع إليها في تحصيل غرضه
ونوال مطلوبه، وباختلافها وتفاوتها اشتدادًا وضعفًا وتقدمًا وتقهقرًا كانت تختلف
الأمم وقتئذ في الشرف والضعة والسطوة والفقر والغنى، من غير نظر إلى شيء من
وسائل تلك الوجوه مهما كانت طرائقها، فكان الرجل يمتاز بين قومه بصفة الإقدام
والجراءة وكثرة السلب والنهب والبتك والفتك، وكانت القبيلة التي هي أشهر القبائل
في هذه الصفات تعرف بالمجد الأثيل، والشرف الباذخ، والمكانة العالية، فيدين لها
مجاوروها، ويخضع لسطوتها كل أمة قرع أسماعها ما هي عليه من علو المنزلة وشدة
الأنفة وقوة الشمم، وتساق إليها الهدايا من تخوم الأقطار وشاسع البلدان، وتأتيها
الغنائم أفواجًا يقتادها رجالها الأبطال من ساحات الصدام والنزال، ولم تزل
الأزمان الغابرة محكومة بسلطان القوة، تقلب الأمم على جمر الخوف والاضطراب،
وتضرب بصولجانها جراثيم القلوب الضعيفة، فتلقي بها في مهاوي الذل والهوان،
حتى خضعت لها الأمم، ودانت لها الشعوب، وصارت هي الديان المسيطر على
كل شئ، فإذا تمت لقوم تبعتها السلطة التامة والحكم المطلق، فيتسلطون بقدر
مكنتهم على ما شاء الله من الشعوب والقبائل، ويتخيرون واحدًا منهم سلطانًا أو ملكًا،
قد امتاز بالتهور والجراءة وجلالة المنظر والنضارة، يملكونه زمام الحكم والسلطة،
ثم ينتخبون من عشائرهم رجالاً يعدونهم حفاظ الملك وأرباب النجدة والنصرة
على العدو والعدة لفتح الممالك والأمصار، ويتسلطون بهؤلاء على بقية من هم تحت
سلطانهم بالرهبة والقساوة، لئلا يتخلصوا من ربقتهم فيذعنون لملكهم قهرًا لا طوعًا،
وينظرونه مقتًا لا حبًّا، ويحملون إليه الخراج وهم صاغرون، وذلك دون مراعاة
طرق عادلة أو أحكام مؤسسة على أصول المساواة واستعمال الشفقة والمرحمة، بل
بحسب ما تقتضيه القوة التي سفكت الدماء، وذللت الشعوب، وانتهكت حرمات
الأمم وسجنت حرية الإنسان في مطمورة الرق والاستعباد.
هذا ما ولدته القوة في تلك الأعصار الخالية التي كانت مشحونة بظلمات
الجهالة، مسربلة بجلابيب الغباوة، مغمورة في بحار الوحشية، وما أظن تلك
الشريعة المشار إليها كانت خاصة بأمة من الأمم، أو صنف من أصناف البشر، بل
كانت عامة بين أبناء الإنسان على اختلاف أجناسه وتباين مواطنه، فكنت ترى عامة
القبائل وكافة الشعوب مقسمة إلى ممالك متعددة، وإمارات متباينة، تجول فيها يد
القوة، ويحكمها مجرد الرهبة، ويطويها الخوف وينشرها الفزع ويشملها
الاضطراب والاختلال، وتتبادلها أيادي السلب، يبيت ضعفاؤها غير أمنين على
أنفسهم، ويصبح أقوياؤها غير مطمئنين على حياتهم، فانبعثت في قلوب هؤلاء
الأوزاع الذين ضربتهم يد السطوة بعصى القوة علة الضغف، ودبت فيها سخائم
الحقد، فاختلفت الأغراض، وتباينت المشارب، وتفرقت القلوب، وتنوعت وحدة
الإنسان الحقيقية إلى أنواع لا يجمعها سوى جامعة الحيوان الناطق، وتبدلت فطرته
السليمة إلى أخلاق لا مناسبة بينها وبين جوهره المقدس الشريف.
ولقد تمكنت سطوة القوة في قلوب أولئك الشعوب وارتسمت صورها في
مخيلاتهم، وانسحبت معانيها إلى ذاكراتهم، وصارت محفوظة في خزانة حافظاتهم،
قائمة نصب أعينهم، حتى توهموها مقلب القلوب والأحوال، حافظ القوى والأكوان،
إليها مرجع الحوادث، وعليها تدبير النوازل والكوارث، فاحتسبوها المدبر في
المكونات بأجمعها، وصوروا تماثيل على صور مختلفة، وأنواع متباينة، تشير
ظواهرها إلى القوة وتؤدي هيئاتها معاني العظمة والسطوة، ووضعوها في أماكن
عبادتهم ليؤدوا لها فرائض السجود والركوع، ويقربوا إليها القرابين من نوع الإنسان
وأنواع الحيوان، وهذه أصنام العرب والصين والعجم، وآثار قدماء المصريين،
وآلهة اليونانيين المصنوعة على أشكال الحيوانات العادِية والملوك العاتية، يشرح
التاريخ أحوالها، فلا داعي إلى الإسهاب في تفاصيل شؤونها، ومن تتبع تواريخ هذا
الإنسان الوحشي بإمعان وتبصُّر ظهر له أن القوة هي التي دوخت قوى الإنسان
السلمية وبددتها أحدثت به من القبائح ما أحدثت، ولولا أن القانون كسر سورتها
وذلل صعوبتها لما أشرق نور الحق على صفحات الوجود، ولا تمتع الإنسان في
الأزمان الأخيرة بلذة الراحة والسعادة، فالحق للقانون لا للقوة.
وبينما الإنسان تائه في أغوار الاستعباد في هاتيك الأزمنة أزمنة القوة
والاستبداد، والجور والعيث والعار، ليس له حق يصان، ولا عر ض إلا ويهتك
ويهان - إذ أشرقت عليه قرائح الذين جادت بهم مراحل الفضل، وعرفوا بمناهج
الخير، فأبصر من طلائع أفكارهم ما يهديه إلى سبيل الرشاد، ويوقظ فكرته إلى
التماس الصواب من أبواب السداد، فعلم أن القوة هي منحة جليلة، ونعمة كبيرة،
يستعين بها على حاجاته الضرورية، ولوازم معيشته المرضية، قد غرزها الله
تعالى بالاتحاد والائتلاف، حتى إذا عجز الفرد الواحد عن ما لا طاقة له عليه من
نفائس المطالب، وجلائل الرغائب استعان بعشيرته ثم بقبيلته ثم بأمته التي يجمعها
دين أو ملك، ثم بجميع أفراد نوعه، وإن القوة إذا لم تكن على قانون لا تتعداه،
وخط لا تتخطاه، بأن استعملت على أي وجه، وفي أي زمان أو مكان، لا ينال
ثمرتها المحبوبة، وغايتها المطلوبة، فأسف على ما كان، ونزع من رقدة الغفلة
يحاول لها النظام المعبر عنه بالقانون، فكان نورًا يهتدى به، وقائدًا رشيدًا يسلك
بالإنسان إلى ما أهله له من الكرامة والنعيم، فاتبع سبيله المهتدون، ومال عن سننه
الضالون.
أما الإنسان الذي ساعده التوفيق بالانقياد لأحكام القانون، فإنه حفظه باطنًا
وظاهرًا، وتمسك به غائبًا وحاضرًا، حتى صار ركنًا من لوازم حياته، وعدة
لمقاصده وغاياته، ولهج لسانه في بكره وعشياته، إلى أن عرف به واجباته
الحقوقية، وفرائض معيشته العمومية والخصوصية، وأمن به من مصائب الظلم
ونوازله، والجور وغوائله، واطمأن به على نفسه وعرضه وماله، فسكن قلبه بعد
اضطراب، وقرت عينه برياض الأمن والأمان، وتولد فيه أمل حمله على إدمان
العمل، فأعمل فكرته الخامدة، وأجرى حركته الراكدة، ولا زال يرتاد مواطن العلم
ومعاهده، ويقتنص بحيالة الاستكشاف كل فائدة، ويستعمل قواه في حل المبهمات،
ويستطلع ببصيرته ما خفي من مجهول الكائنات، إلى أن حداه العلم إلى معرض
الاختراع والإبداع، فطار على جناح البخار بدل الشراع، واستخدم النضار
لقضاء الأوطار، واستعمل البرق على بعد الديار، رسولًا للأخبار، وجعل المدافع
والقنابل ليبيد بها مضاديه ومعانديه، وانغمس في النعيم مطعمًا ومشربًا وملبسًا
ومسكنًا، إلى غير ذلك مما أتيح له من محاسن الحضارة، ولطائف الرفاهة
والنضارة، ولا زال يضرب في تخوم البلاد ويذلل بقوة عزمه أخلاق العباد إلى أن
أصبحت البسيطة في قبضة زمامه، ولا غرو فإن فائدة الاتحاد والائتلاف، وباعثه
الوفاق لا الاختلاف، وهو الآن كما بدأ يحافظ على القانون بإنسان مقلته، ويصرف
في حراسته ما يدخل تحت قوته، فإنه ملاك سعده، وأساس مجده، ومنتهى جده.
أما الذي ضرب عن القانون صفحًا، وطوى عنه كشحًا، فهو هو على رذالة
أخلاقه وبساطة أفكاره، يصبح مضغة تحت أضراس الظلم، ويمسي كرة لصولجان
البغي، فليحيَ صاحب القانون على بساط النعمة الهني.
فيا أيها الذين ينحرفون عن القوانين ويعدلون عن طرق النظامات لغرور وقتي،
ارفقوا بأنفسكم واعتبروا بمن يماثلكم في الصورة الإنسانية، وانظروا إليهم كيف
عظموا القوانين، ورفعوا شأن الحقوق، فأصبحوا في غاية من القوة والعزة،
فانهضوا لمجاراتهم في الصدق إن كنتم تعقلون، وإياكم والتمادي فيما تسوله النفوس
من الاغترار بظاهر من السلطة فالأيام تغلب وتقلب، لكن صراط الحق واحد
وسالكه لا يضل إن عثر يومًا استقام أعوامًا، أما طرق الاعوجاج فهي وعرة خطرة
كثيرة الغوائل، سالكها معارض لمدبر العالم سبحانه وتعالى في أحكامه فإنه عز
شأنه قد أقام الكون بنظام الحكمة، ورتب لكل شيء حدودًا هي سور بقائه وسياج
دوامه، فإن خرج عنه انحدر إلى مهاوي العدم والفناء، ومن تأمل الكون الأعلى وما
فيه من الكواكب والشموس والأقمار، ثم نظر إلى العالم الأسفل وما احتوى عليه من
نبات وحيوان يشهد في الجميع لكل نوع منها قانونًا خاصاً في سير وجوده، تقوم
البراهين القاطعة على أنه لو انحرف عنه لحكم عليه السلطان القهر الإلهي بالعدم
والانقلاب وأنه يباهر حكمته قد جعل للهيئة الإنسانية حدودًا عامة، هي الشرائع
وقوانين الآداب التي تحدد سير الإنسان في معيشته الخاصة نفسه، أو معاملته مع
غيره، وقد أودعها العلماء والحكماء بطون كتب التهذيب والتربية البشرية، بعد أن
نطقت بها الشرائع الإلهية، وقد شهدت التجارب بالأخبار المتواترة، عن الأمم
الماضية والمشاهدة الحالية في الأوقات الحاضرة، أن من تخطى حدود هذه الحقائق
رماه القهر الإلهي بسهم لا يخطئ مرماه، فالقانون هو سر الحياة وعماد سعادة الأمم،
وإن القوة لا تأتي بثمرتها الحقيقة إلا إذا عضدت باتباع الشرع والقانون العام الذي
أقر العقلاء بوجوب اتباعه.
فكيف يصح لذي شوكة أو صاحب سلطة أن يغتر بعد رؤيته هذه البراهين
الباهرة بقوته، أو يعجب بصولته، ويدع الأمور لإرادته ومشيئته، ويزدري ما
للقانون من حفظ القوة ونمو الثروة في من هم تحت إمرته، فيفعل ما تسول له نفسه،
ويأتي كل ما يسوقه إليه حسه، فيسري الإهمال في طبقات رجاله، ويجارون
حاكمهم في عوائده وأخلاقه، وتصير الأموال لديهم مباحة، والحقوق مبتذلة،
والأعراض منتهكة، ووسائل الربط والضبط معطلة، وعقد المواثيق والعهود محللة،
فيكثر فيما وليه غوائل الخسران، وتنمو به جوائح البهتان، حتى تصير أفراد
المحكومين أخلاطًا رعاعًا، لا فرق بين كبيرهم وحقيرهم إلا بوفرة الشهوات،
والتمكن من وسائل اللذات مع توافق في الفطرة، وتشابه في الغريزة، ولا يطول
عليهم ذلك العهد حتى يصبح الحاكم محاطًا بجم غفير من الغرماء يتجاذبونه بأيدٍ
طالما نقدته من خزائنها ما ظنه نزرًا يسيرًا في جانب إسرافه وتبذيره، وهو على
كاهل الأهالي حمل ثقيل العبء، لا تقدر أن تقله وتمسي عمارية البلاد تنعي محاسن
صبحتها أربابها طوامس المعالم مظلمة الأطراف، وليس فيها سوى نعاب اليوم،
وهمس الهوام، وحينئذ لا تسل عن العاقبة، فإنها أسر ونهب وبئس المآل.
ذلك ما يولده الغرور بالقوة والإعجاب بالسطوة، وترك القانون الذي عليه
سعادة العباد وخصب البلاد، فإذا أرادت تلك الأمة التي تصرف فيها ذوو البغي
والغرور على خلاف القانون أن تعيد لها مجدها الأثيل وعزها الأول، فلا بد لها من
إعادة شأن القانون، فتشيد منه ما هدمته يد الغرور، وبددته سطوة الفجور، وتأخذ
الوسائل النافعة لاستمالة قومها إلى التمسك بعراه، ومتابعة رشده وهداه، ولا تبارح
الحيل والتدابير لهذا الغرض، وما كان أغناها عن الإصلاح بعد الإفساد، والتعمير
بعد التخريب، ولكنها باعت القانون بثمن بخس، فكان جزاؤها أن تشتريه بنفوسها
العزيزة ودمائها الشريفة، حيث عرفت ما هي القوة، وما هو القانون، ولنا في هذا
الموضوع كلام يأتي بعد إن شاء الله تعالى.
(المنار)
إن مباحث هذه المقالة من (علم الاجتماع) الذي يستمد من علم
التاريخ، وقد جرى فيها مولانا الأستاذ على نهج السداد بجعل الكلام فيها عام في
القوانين، سواء كانت وضعية أم سماوية؛ لأن خلط الفنون الفلسفية وغيرها بالدين
الذي جرى عليه المسلمون أولاً أضر بهذه الفنون كما أضر بالدين، كما يعلم ذلك من
النظر الدقيق في التاريخ، ولا شك أن النسبة بين سلطة القوة وسلطة القانون وإن
كان وضعيًّا هو عين ما ذكره الأستاذ، وأما كون الحكم بالقانون الوضعي غير
مرض لله تعالى ولا مؤدٍّ لسعادة الآخرة، فهو ليس من مباحث هذا الفن، واعتقاد
المسلمين فيه معلوم، وقد ألمع إليه الأستاذ وأشار إلى تعظيم شأن الشريعة السماوية.