للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


الاتفاق الإنكليزي التركي
على خليج فارس وشط العرب

نلخص هنا بعض آراء الجرائد الأوربية والعثمانية والمصرية في الاتفاق
ومطامع الدول:
جاء في رسالة لمندوب المقطم في الآستانة (نشرت في ٢٠ جمادى الآخرة
و٢٦ مايو) بعدما ذكر مواد الاتفاق ما نصه:
هذا هو أساس الاتفاق العثماني الإنكليزي وإلى القراء الآن بعض مطالب
فرنسا التي لم تر الجرائد الباريسية ضررًا من نشرها.
أولاً: أن تصدر الإرادة السنية بإنشاء مستشفيات فرنسوية على أساس اتفاق
سنة ١٩٠١ بين حكومتي الآستانة وباريس.
ثانيًا: أن يحافظ على شروط هذا الاتفاق في المستقبل.
ثالثًا: أن تعامل المكاتب الفرنسوية معاملة المكاتب العثمانية فيما يتعلق
بالشهادات وبالإعفاء من دفع الأموال الأميرية.
رابعًا: أن لا يسجن فرنسوي في المملكة العثمانية في غير سجون القنصليات.
خامسًا: أن يعترف بالتبعية الفرنسوية للتونسيين والمراكشيين.
سادسًا: أن يلجأ إلى التحكيم في بعض المسائل المختلف عليها بين الحكومة
العثمانية وفرنسا.
سابعًا: أن تعطى فرنسا امتيازًا بإنشاء فروع السكك الحديدية الآتية:
أولا: في أرمينية:
أ - خط سمسون سيواس.
ب - خربوط - ديار بكر.
ت - ديار بكر - أرضروم - طرابزون.
ثانيا: في سورية:
أ- مد سكة حديد الشام من رياق إلى جهات الجنوب.
ب - تقسيم نقل البضائع بين فرع سكة حديد الحجاز التي تبتدئ من حيفا
وسكة حديد الشام التي تبتدئ من بيروت، والعناية بحماية المصالح الفرنسوية وفتح
ميدان واسع لها لتنمو في تلك الأنحاء.
ثامنًا: أن تعطى فرنسا امتيازًا بإنشاء المرافئ التالية، وهي مرفأ أنابولي
وهركله على البحر الأسود وطرابلس وحيفا ويافا في سورية.
ويظهر أن ألمانيا لم تكتف بما لها من الامتيازات المهمة في سكة حديد بغداد
وغيرها في البلاد العثمانية فإنها تسعى الآن لنيل مطالب اقتصادية في فلسطين لم
أتمكن من معرفتها.
وأما روسية فلها آمال كبيرة في البلاد الأرمنية ستعلم في العاجل القريب، إن
لم تتنبه الوزارة العثمانية الحاضرة لسوء العاقبة، وتتدارك المسألة الأرمنية بالحكمة
والعزم والتساهل.
وعلى ذكر المسألة الأرمنية أقول: إن الحكومة لم تتمكن بعد من إنجاز وعدها
للمجلس الملي الأرمني فالحال في ولايات الأرمن تزيد سوءا يومًا فيومًا ولا يعلم
أحد ما سيقرره المجلس الملي في اجتماعه الآتي يوم الجمعة القادم. فإذا عجزت
الحكومة عن المحافظة على حياة الأرمن وأموالهم فلا بد من تفاقم الخطب واتخاذ
وسائل لا تؤمن مغبتها على الدولة فتتحمل الوزارة الحالية بتهاملها هذا تبعة كبيرة
ليس في أوربة أو أفريقية بل في الولايات الأناضولية، وفي قلب البلاد العثمانية.
* * *
الاتفاق وآراء الجرائد الإنكليزية
قال المقطم في ١٢ رجب ما نصه:
أرسل إلينا صديق لنا من إنكلترة قصاصات من المقالات التي أنشأتها بعض
الصحف الإنكليزية على أثر اتفاق الكويت عن احتمال التفاهم بين إنكلترا وألمانيا
واتفاقهما فآثرنا تلخيص ما ورد فيها لأهميته:
قالت جريدة الكومندايتور: دلتنا نتيجة المفاوضات التي دارت بين حكومتنا
وحكومة برلين على بعض المسائل المعقدة في الشرق الأدنى على أنه أيسر لنا أن
نسوي المسائل المهمة المختلف عليها بيننا وبين ألمانيا من أن نسوي بعض المسائل
القليلة الأهمية كمسألة مسقط مع صديقاتنا وتعني بذلك فرنسا.
وقالت جريدة الديلي كرونكل: ونحن نرجي الآن أن يعقد اتفاق بين إنكلترا
وألمانيا يكون متممًا للاتفاق الذي عقدناه مع الباب العالي إذ على هذا الاتفاق يتوقف
كل شيء عملناه إلى الآن، ولا يغنينا تعيين مديرين إنكليزيين في مجلس إدارة سكة
حديد بغداد ولا جعل البصرة منتهى سكة حديد بغداد فتيلاً من غير هذه الاتفاق.
أما المسألة الأولى من هاتين المسألتين فهي على شيء من الأهمية، ولكن
الثانية قليلة الأهمية جدًّا في اعتبارنا؛ لأن البصرة، وإن تكن مدينة داخلية، فهي
واقعة على نهر كبير يصلح للملاحة ولها طريق نافذ إلى خليج العجم.
وقالت جريدة منشستر غارديان: أما من جهة الكويت فإننا قد اعترفنا بسيادة
الدولة العلية عليها، ولكنا اتخذنا كل الحيطة لمنعها من إتيان أي عمل يشتم منه أن
لها أقل حق فيها. على أننا دفعنا ثمنًا باهظًا جدًّا مقابل هذه الاتفاق، وهو أننا وعدنا
الباب العالي بأن نسمح له بزيادة الرسوم الجمركية [١] .
نعم إن هذه الزيادة تتناول جميع الدول على السواء بلا فرق ولا تمييز ولكنها
ستكون سببًا في إضعاف التجارة الأوربية في السلطنة العثمانية وتقليل مقطوعيتها
ولا سيما التجارة الإنكليزية فإن خسارتها ستكون أكبر من خسارة كل تجارة سواها.
فهل كانت مسألة الكويت وخوفنا على خليج العجم مساويين لهذه الخسارة؟
وهل زيادة الرسوم الجمركية أفضل وسيلة لزيادة إيراد الخزينة العثمانية وتحسين
حالها؟ إننا نرتاب في ذلك كثيرًا.
وقالت الديلي جرافك: لا ندرك الحكمة من جعل البصرة نهاية لسكة حديد
بغداد بدلا من الكويت بعد تصريح الهرفون جاكو ناظر خارجية ألمانيا. فقد قال هذا
الناظر: إن ألمانيا لا توافق على هذا الإبدال إلا إذا جعل شط العرب صالحًا
للملاحة، ومفاد ذلك أن ألمانيا ستجد أمامها بابًا مفتوحًا يوصلها إلى خليج العجم كما
لو كانت في الكويت تمامًا ولكن من غير أن تنفق نفقات طائلة في تمديد الخط
الحديدي إلى هناك.
وهناك مسألة أخرى تفتقر إلى إيضاح وجلاء وهي أن ألمانيا أعيد إليها الحق
بمد سكة حديد بغداد إلى البصرة، وقد كانت تنازلت عنه سنة ١٩١١ مقابل منحها
امتيازًا بمد فرع أو فروع من خط سكة بغداد الرئيسي غربًا إلى الإسكندرونة فهل
يفهم من الاتفاق الجديد أن هذا الامتياز قد نزع منها الآن أم هو باق بيدها؟ فإذا كان
باقيًا بيدها فتكون ألمانيا قد خرجت من المقارعة السياسية التي دارت على نهاية
سكة حديد بغداد غانمة غنيمة كبيرة، فإن ترسيخ قدمها في الإسكندرونة يعد ربحًا
كبيرًا في حد ذاته فكيف بها إذا وقد رسخت قدمها في الإسكندرونة والبصرة جميعًا
(ليتأمل العاقل) .
* * *
كلام جريدة الطان الفرنسية في الاتفاق
ترجمت جريدة الأهرام مقالة لجريدة الطان في موضوع الاتفاق، وخطبة
ناظر خارجية إنكلترة بينت فيه مقدماته ونتائجه ونكتفي ببيان حقيقة واحدة من
الحقائق التي استنتجتها منها،وهي:
السادس: أن الاتفاق بين إنكلترا وتركيا يعقبه اتفاق آخر بين إنكلترا وألمانيا،
وقد قال السير غراي في خطابه: إن بين ألمانيا وتركيا اتفاقات خصوصية بشأن
سكة بغداد، ونحن لا دَخْلَ لنا في تلك الاتفاقات الخصوصية، والآن نعقد نحن
اتفاقات مع تركيا لا دخل لألمانيا فيها، ولكن يجب أن نعلم أن هذه الاتفاقات لا
تمس الحقوق المخولة لها من تركيا، فالاتفاق المراد عقده بين إنكلترا وألمانيا يقصد
منه تسوية المسائل المختصة بسكة بغداد تسوية نهائية، قالت الطان، والسير
غراي صادق في قوله: فإنه متى تمت الاتفاقات الجديدة تسوى مسألة تلك السكة
نهائيًّا، وقد كنا منذ زمن طويل نتوقع هذه التسوية بسبب خطأ سياستها في السنين
السابقة، ولقد كانت فرنسا وإنكلترة في سنة ١٩٠٩ اتفقتا على طلب امتياز خط
حديدي بين حمص وبغداد والبصرة غير أن معارضة المسيو بومبار في ذلك
المشروع أفضت إلى توقيف المفاوضات في سنة ١٩١٠ ثم أهمل المشروع إهمالاً
تامًّا ولا يمكن الآن إعادته إلى بساط البحث، ولا يحق لنا الآن أن نشكو من إنكلترا؛
لأنها حاولت تسوية تلك المسائل دون إشراكنا معها فقد أعرضنا في الماضي عن
الاشتراك معها فموقفنا الآن هو نتيجة خطأ سياستنا في الماضي، ولا أمل الآن في
أن يتمكن وزير الخارجية الفرنساوية من صون مصالح فرنسا في الأجزاء الآخرى
من السلطنة العثمانية. (تأمل واعتبر) .
الأهرام: هذا ما قالته الطان وقد تناولت صحف أوروبا كلها هذا الخطاب
فعقدت عليه الفصول الطويلة وأجمعت صحف إنكلترا على أن الاتفاق يملك إنكلترا
طريق الهند وهذا كافٍ.
* * *
الاتفاق ومغانم الإنكليز والألمان
مقالة افتتاحية للأهرام تصرفنا في عنوانها فقط وهذا نصها:
عرف من أخبار المصادر التي يوثق بها، ومن أقوال الصحف التي يعول
على أقوالها، بل من خطاب السير أدوارد جراي المنشور بين التلغرافات أن الباب
العالي رضي في الاتفاق الجديد بينه وبين إنكلترا أن يترك كل دعوى من دعاوي
السيادة على الكويت وقطر وجزر البحرين ومسقط وعمان، واعترف لإنكلترا
بالحق المطلق في إنارة الخليج الفارسي وخفارته، وحقَّق لها كل أمنية وكل مطلب
في شط العرب، وثبت حقوقها المختصة بالملاحة في دجلة والفرات، كل هذا
وغير هذا مما سبق نقله وبيانه وإيضاحه في هذه الجريدة.
تلك الأماني التي أدركتها إنكلترا وتلك الغنائم التي نالتها بدت عظيمة جدًّا
لأعين الدول الأخرى الكبرى صاحبات المرافق والمصالح في البلاد العثمانية.
ورأت تلك الدول أن الحكومة العثمانية نفسها فتحت الباب وأوسعت المجال للمطامع
والمطامح ومهدت السبيل لعرض المطالب والرغائب، رأت ذلك فإذا بالمطالب تكاد
تغمر الباب العالي؛ وإذا ببعض الدول تريد أن تأخذ من الباب العالي، ومن إنكلترا
أيضًا حصة أو تعويضًا.
أبدت ألمانيا في هذا المجال، وهي صديقة تركيا الصادقة المخلصة، أنها لا
تعرف للقناعة والاعتدال والاكتفاء معنى، وهي التي تطلب التعويض الكبير بملء
فيها، مع أنه إذا كانت إنكلترا في الاتفاق الجديد تأخذ من دولتنا كثيرًا فهي في الوقت
نفسه تعطي ألمانيا على حساب دولتنا ما هو أكثر وأوفر وأغلى قيمة وأعظم شأنًا.
قد يدهش القارئ إذ لم يسمع أن إنكلترا أعطت ألمانيا شيئًا ولكن من ينظر إلى
مضمون الاتفاق أو ما عرف منه حتى الآن يتبين له أن إنكلترا صدقت بصفة نهائية
على سكة حديد بغداد الألمانية وعدلت عن المعارضة والمقاومة والمعاكسة أو إقامة
العراقيل في سبيل ذلك المشروع الخطير، وهي بذلك التصديق على سكة بغداد
الألمانية قد أعطت ألمانيا ما لا تقدر قيمته ولا تحصَى فوائده، وهذه الحقيقة تنجلي
عند البحث في مشروع سكة بغداد.
فمساحة سكة بغداد الألمانية تقارب ثلاثة آلاف كيلو متر، تبدأ من حيدر باشا
على البوسفور وتنتهي عند البصرة على شط العرب ومن مراجعة عقد الامتياز الذي
نالته الشركة الألمانية والاتفاقين اللذين عقد أحدهما سنة ١٩٠٨ والثاني سنة ١٩١١
يتبين أن الشركة حصلت على الحق في مد الفروع الكثيرة أو الخطوط المتفرعة من
تلك السكة، ومن ذلك فرع بين حلب وأورفه وفرع بين بغداد وخانكين الواقعة
على حدود إيران وفرع يمد إلى مرعش وفرع إلى عينتاب وفرع إلى ماردين وفرع
إلى أربيل، وفروع أخرى تتكون منها الصلة بين السكة الأصلية والبحر المتوسط
وتنتهي عند نقطة واقعة بين مرسين وطرابلس الشام. وتلك الفروع هي التي تزيد
مساحة السكة الأصلية إلى ثلاثة آلاف كيلو متر، وتلك السكة وفروعها تتخلل
آسيا الصغرى وأعالي سوريا وما بين النهرين والعراق العربي وتجتاز من البلاد
العثمانية الجهات والأقاليم التي فيها مصادر الحياة والثروة والخير.
وليس ذلك كل ما نالته شركة سكة حديد بغداد الألمانية فإنها فوق ذلك حصلت
على حق إنشاء بعض المواني والمرافئ والأرصفة اللازمة لرسو السفن والمخازن
اللازمة لتخزين البضائع على تلك الأرصفة وفي بنود الاتفاق بينها وبين الباب
العالي أن الحكومة العثمانية تأذن لها بتسيير السفن في دجلة والفرات بحجة نقل
عمالها والقصد الظاهر من ذكر هذه الحجة أن لا تقلق إنكلترا على مصالحها في
دجلة والفرات، ولكن وراء هذه الحجة مقاصد كبيرة تضمرها ألمانيا.
وفوق ذلك كله يحق للشركة أن تستخرج المعادن على مدى عشرين كيلو مترًا
عن جانبي السكة وهي بذلك تحصل على كنوز لا يمكن تقدير قيمتها. ثم إنها يحق
لها أن تقطع من الغابات المجاورة للخط كل ما تحتاج إليه من الأخشاب، ويحق لها
أن تنشئ المخازن والفنادق ومعامل الكهرباء وغيرها عن جانبي الخط. ويحتمل
كثيرًا أن تنشئ المستعمرات الألمانية في كل جهة طيبة الهواء والماء خصبة
الأرض من الجهات التي تجتازها تلك الخطوط. ولقد كان مديرو الشركة كتبوا إلى
ناظر العثمانية كتابًا في سنة ١٩٠٣ وعدوا فيه بأن لا يجلبوا النزلاء الأجانب أو لا
ينشئوا المستعمرات الألمانية في الجهات المجاورة للسكة، ولكن المارشال فون
درغولتز باشا صرح منذ عامين بأن السلطان السابق عبد الحميد كان آخر حكمه يود
أن يرى النزلاء الألمان يزدادون ويكثرون في آسيا الصغرى ورجال الحكومة
العثمانية الآن لا يقاومون ألمانيا من هذه الوجهة.
وبواسطة تلك السكة وفروعها وتلك الشروط وتلك الحقوق التي حصلت عليها
ألمانيا تستطيع نشر نفوذها وبسط يدها وإرساخ قدمها وإدراك مآربها الاستعمارية في
بلدان مترامية الأطراف أعيا بعضها الفاتحين وأعجز المغيرين في الأزمنة السالفة،
وكل ذلك دون أن تريق ألمانيا نقطة دم ألماني، وقد تأسست شركة سكة بغداد برأس
مال لا يزيد على مائة وخمسين ميلون فرنك ولم يدفع منه إلا قيمة النصف فقط،
ومع ذلك لم يفشل المشروع ولا رجعت ألمانيا القهقرى في هذا السبيل بل خدمها
حسن الحظ وحالفها النجاح وساعدتها إنكلترا نفسها على تحقيق أمانيها فماذا يكون يا
ترى بعد عشرين أو ثلاثين عامًا حين تتوطد قدم ألمانيا ويعظم نفوذها ويرسخ في
تلك البلدان الشاسعة الواسعة؟ ومهما عززت إنكلترا مركزها في الخليج الفارسي
فإن المنائر الإنكليزية في ذلك الخليج لا يمكن أن تكون قلاعًا منيعة أو حواجز متينة
تصد تيار المطامع الألمانية. فألمانيا قد حصلت على ما لم يحصل عليه غيرها
ومستقبلها يهدد مستقبل سواها.
فمن الغريب - وهذا حظها - أن تطلب الآن تعويضًا.
* * *
التنازل عن العراق
جاء في عدد السبت ٢ رجب من المؤيد تحت هذا العنوان ما نصه:
كتب (مسلم) في أحد أعداد المؤيد الماضية مقالة قال فيها: كيف يتأثر القوم
لوقع المصاب وهم الذين تبرعوا بهذه العملية المؤلمة لسواهم، وهي علمية بتر هذه
البلاد الخليج الفارسي والعراق من جسم السلطنة العثمانية، وقد تمت هذه العملية
وجرائدهم ساكتة صامتة لا تبدي حراكًا كأن الحادث لا يستحق أن تراق فيها نقطة
من حبر على صفحات تلك الجرائد.
وأنا لم أكن يومئذ على رأي حضرة (المسلم) فيما قاله عن جرائد الآستانة؛
لأنني خدعت بما قرأته من المقالات الطوال في الاحتجاج على ضم النمسا جزيرة
(أطه قلعه) إلى أملاكها، وقد بلغ عويل صحف الآستانة في هذه المقالات درجة
استغربتها جريدة عزم التركية التي تصدر في الآستانة فقالت في عدد يوم ١٩ مايو:
لا ندري هل القيامة قامت؟ هل ذهبت البقية الباقية من أملاكنا في أوربا؟ هل
احتل الأعداء عاصمتنا؟ هل أخذت الخلافة من يدنا؟ هل رفعت سوريا لواء
الثورة؟ أم استولى الإنكليز على بغداد؟
لا لم يحصل شيء من هذا ولكن (أطه قلعه) ذهبت، وعليها تبكي الصحف
هي تبكي على أطه قلعه التي خرجت من يدنا منذ ربع قرن.
إلى هذا الحد بلغ اهتمام صحف الآستانة بحادث أطه قلعه ولذلك لم أر معقولاً
أن تسكت عن حادث الخليج الفارسي والعراق، فلما قرأت مقالة المسلم الفاضل
صرت أبحث فيما وصل إلينا من جرائد الآستانة هل هي تسكت حقيقة عما تم في
العراق، وإذا هي سكتت فهل تعتذر، وماذا عسى يكون عذرها؟
بقيت على هذه الحال إلى أن وصل مع البريد الأخير عدد ٢٥ مايو من جريدة
وظيفة وهي الجريدة التي تتكلم بلسان العنصرية التركية وقد صارت في المدة
الأخيرة أكثر صحف الآستانة حرية وشجاعة؟ أو هي أقلهن تذبذبًا وتملقًا في هذا
الوقت الذي لم تبق فيه صحف معارضة هناك، فرأيتها تعتذر عن سكوتها بقولها:
إن المعاهدة الإنكليزية العثمانية التي عقدت بين صدرنا الأسبق حقي باشا
والسير آرثر نيكولسون مستشار ناظر خارجية إنكلترا لم يبلغنا خبرها إلا من
المصادر الأوربية؛ لأن الباب العالي لا يزال على ديدنه الغريب في كتم الأخبار
عن الأمة.
ولذلك لم تصل إلى يدنا أخبار صريحة عن هذا الأمر المتعلق بقطر عظيم من
أقطار الوطن العثماني وهي بلاد الجزيرة، وكل ما علمناه عن ذلك إنما قرأناه في
جريدة التيمس الإنكليزية.
هذا هو عذرها. أما مواد هذه المعاهدة بين جماعة الاتحاديين ودولة الإنكليز
فقد أوردتها تلك الجريدة التركية كما يأتي:
تحوي المعاهدة بيننا وبين الإنكليز أربعة أمور: اثنان منها في مصلحة
الإنكليز واثنان في مصلحتنا:
فأول الأمرين اللذين في مصلحة الإنكليز اعترافنا لهم بحق حماية مقاطعة
الكويت وتنازلنا عن السيادة التي لنا على شبه جزيرة قطر والبحرين، وهذان
القطران لم تحدد مناطقهما ولم تعين أراضيهما وإننا أعطينا الإنكليز وظيفة تقرير
الأمن في خليج البصرة، ووسَّطناهم في حل الاختلافات التي بيننا وبين أمير
المحمرة، واعترفنا لهم بحق حماية تلك المقاطعة.
وبالاختصار إننا اعترفنا لحكومة جلالة ملك الإنكليز وإمبراطور الهند بتنازلنا
له عن خليج البصرة وسواحله.
ذلك هو أحد الأمرين اللذين في مصلحة الإنكليز، وأما الأمر الثاني فيتعلق
بالسياحة وسير السفن على طول نهري الفرات ودجلة ومجرى شط العرب، وهو
مجمع البحرين، والاعتراف بكل ما حصل عليه الإنكليز من الحقوق والامتيازات
هناك. وأنت تؤلف لجنة لتنظيم وإدارة الأصاكل والمواني وتسيير السفن في
مجاري هذه الأنهر حيث تخترق داخلية البلاد وأن يشترك الإنكليز اشتراكًا جديدًا في
هذه اللجنة.
على أن هذا الأمر الثاني لا يزال مظلمًا بالنسبة إلى الأمر الأول، لا سيما
والإنكليز كانوا قد حاولوا فيما مضى أن يكون لهم حق احتكار تسيير السفن في
نهري الفرات ودجلة ومجرى شط العرب فقام أهل العراق وقعدوا لهذا الأمر،
وعارضوا في إتمامه أشد المعارضة حتى اضطروا مجلس (المبعوثان) إلى رفضه.
ولما قرأنا ما قرأناه في هذه الأيام من مواد المعاهدة العثمانية الإنكليزية تذكرنا مسألة
الاحتكار، ولذلك قصدنا الصدر الأعظم محمود شوكت باشا وسألناه عما إذا كان
اعترف للإنكليز بذلك فأجابنا بأن هذا الأمر بقي مسكوتًا عنه.
على أن هذا إذا صح يكون للإنكليز حق الأرجحية ومعنى ذلك أن على
الحكومات العثمانية أن تعضد في المستقبل النفوذ والسلطة الإنكليزية من مصب شط
العرب إلى منتهى سير السفن في نهري دجلة والفرات.
وصفوة القول أن الإنكليز قد تمكنوا أولا من بسط حكمهم إلى مصب شط
العرب وصاروا أصحاب النفوذ والقدرة على ما يلي ذلك من بلاد الإنجليز تلك هي
حصتهم.
أما حصتنا فهي أن الإنكليز كانوا يمانعون في إتمام ما وعدنا به الألمان من
تمديد سكة حديد بغداد إلى البصرة فأذنوا بذلك الآن بشرط أن يكون لهم عضوان في
مجلس إدارة شركة هذه السكة الحديدية وأن يكون للبضائع والتجارة الإنكليزية
نفس الامتيازات التي للبضائع والتجارة الألمانية تلك هي إحدى الفائدتين اللتين
استفدناهما من المعاهدة.
والفائدة الثانية التي حصلنا عليها من وزارة سن جيمس هي أن هذه الوزارة
وافقت على أن نزيد ٤ في المائة على الرسم الجمركي [٢] .
وهناك فائدة ثالثة للعثمانيين لم تذكر في نص المعاهدة وهي أن العثمانيين
اكتسبوا عطف السياسة الإنكليزية عليهم بصورة غير معينة أي أن الجفاء القديم قد
زال إلى زمان مؤقت وتلك فائدة أدبية لنا بدون شك.
وبعد أن أوردت هذه الجريدة التركية مواد المعاهدة الإنكليزية العثمانية علقت
عليها ما يأتي:
وإذا أردنا تحليل نتيجة هذه المعاهدة ودققنا النظر فيما كسبناه وخسرناه منها لا
نرى أن ذهاب قطر والبحرين والكويت وكل خليج البصرة من يدنا مما يستحق اللوم
والانتقاد؛ لأن مثل هذه المقاطعات تفيد دولة تريد أن تتوسع في قواها ولكنها على
عكس ذلك تضر بالدولة الضعيفة، ويعلم قراؤنا أننا على رأي القائلين بتكثيف
القوى العثمانية لا التوسع فيها، وسياسة التوسع في الملك والسلطة (انبرياليسم)
خارجة عن برنامجنا (يتكلم المحرر باسم حزب العنصرية التركية أي أن بقاء هذه
الأقطار البعيدة في حكم الدولة ضار بالدولة) لأننا مقتنعون بأنه لا يمكن الاطمئنان
على مستقبل الدولة بتوزع قواها بل بتقرب أجزائها، من أجل ذلك نحن لا ننتقد
أبدًا هذه السماحة التي أبداها حقي باشا.
أما عن الأمر الآخر فلا نقول الآن كلمتنا الأخيرة ما دام النص غير معلوم
عندنا، وقد ظهر لنا أن المفاوضات لا تزال غامضة من هذه الجهة ولكننا نقول من
الآن: ينبغي للذين تساهلوا بما وراء فنار الفاو أن لا يتسامحوا بما يليه، والذين
يفرون من الأمور الخشنة يجب عليهم أن يجتنبوا إحداث أمور خشنة، ولعل
السياسة العثمانية في لوندرة تظهر لنا مهارتها في هذا.
ونقول بشأن الأمرين اللذين هما في مصلحتنا: إن الأمر الأول وهو تمديد
سكة حديد بغداد إلى البصرة شيء كنا نتمناه من قبل لأنه يمدد لنا نفوذنا أيضا إلى
هناك، وإن دخولنا إلى الجزيرة بعد خروجنا من الروم إيلي شيء يسرنا جدًّا.
وبعكس ذلك مسألة الرسوم الجمركية فإننا نرى دولتنا تسلك فيها من القديم
مسلكًا مستقيمًا، ومحاولتها ضم ٤ في المائة على الرسوم الجمركية تدل على خطئها
في فهم الأمور الاقتصادية العثمانية. لا نحتاج إلى النجاح في ضم ٤ في المائة إلى
رسوم الجمرك بل نحتاج إلى تنظيم التعريفة وتأسيسها، أما ضم ٤ في المائة فهو
من مصلحة أوربا وليست هل التي ستدفع هذا الفرق بل الذي سيدفعه هم العثمانيون
الذين سيشترون بضائع الأوربيين، وكان ينبغي لنا عندما أعطينا أصدقاءنا حق
الحكم على الخليج وأذنَّا لهم باحتلال الجزيرة أن نجعلهم يعترفون لنا بتنظيم التعريفة،
وحق عقد المعاهدات التجارية، وبذلك كنا نخدم ثروة بلادنا، أما الآن فلا نزال
في موقفنا القديم، وهو أننا كلما أردنا أن نحصل على التعريفة ندفع عليها ثمنًا
باهظًا كهذا، لا سيما ونحن متفقون مع دول المحالفة الثلاثية على ذلك، وكان بقي
علينا أن نتفق مع دول الاتفاق الثلاثي، وكانت هذه فرصة لنا فأضعناها.
وبعدُ، فإني لم أطلع على رأي لجريدة تركية في حادث الخليج الفارسي
والعراق غير هذه الجريدة، وهو كما يرى القارئ مؤيد لقول حضرة المسلم في
صحف الآستانة وأصحابها، ولله في خلقه شئون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... (ميم)
((يتبع بمقال تالٍ))