إن تفسيرنا للآيات الواردة في قصة آدم عليه السلام من سورة البقرة قد بلغت ٥٣ صفحة من الجزء الأول من تفسير المنار (صفحة ٢٣١ إلى ٢٨٤) وأكثره لشيخنا الأستاذ الإمام قدَّس الله روحه، فانتزع طعان مجلة الأزهر منها عبارة واحدة فرعية محكية جعلها أصل الموضوع وعقيدة لصاحب المنار في الملائكة بقول الزور؛ وإنما هي حكاية حكاها الأستاذ الإمام عن بعض الناس ونقلها مؤلف التفسير عنه، فلو كانت كفرًا لكانت من باب حاكي الكفر ليس بكافر فكيف بالحاكي عن الحاكي، وإننا نلخص الموضوع في خمس مسائل بعبارة مختصرة يفهمها كل قارئ. المسألة الأولى إن آيات محاورات الملائكة للرب عز وجل في خلق آدم عليه السلام من المتشابهات الواردة في شأن عالم الغيب، وإن لعلماء المسلمين في مثلها طريقتين: (إحداهما) : طريقة السلف وهي التنزيه الذي أيَّد العقل فيه النقل ... وتفويض الأمر إلى الله تعالى في فهم حقيقة ذلك مع العلم بأن الله يعلمنا بمضمون كلامه ما نستفيد به في أخلاقنا وأعمالنا وأحوالنا ويأتينا في ذلك بما يقرِّب هذه المعاني من عقولنا ومخيلاتنا. (والثانية) : طريقة الخلف وهي التأويل، يقولون إن قواعد الدين الإسلامي وُضعت على أساس العقل فلا يخرج شيء منها عن المعقول، فإذا جزم العقل بشيء وورد في النقل خلافه يكون الحكم العقلي القاطع قرينة على أن النقل لا يُراد به ظاهره ولا بد له من معنى موافق يحمل عليه فينبغي طلبه بالتأويل. (قال الأستاذ) : وأنا على طريقة السلف في وجوب التسليم والتفويض فيما يتعلق بالله وصفاته وعالم الغيب، وإننا نسير في فهم الآيات على كلتا الطريقتين لأنه لا بد للكلام من فائدة يُحمل عليها؛ لأن الله عزوجل لم يخاطبنا بما لا نستفيد له معنى. هذه عبارة الأستاذ الإمام التي أوردتها في ص ٤٢ من مجلد المنار الخامس، ثم في ص ٢٥٢ من جزء التفسير الأول، ثم زدت عليها قولي: (وأقول) أنا مؤلف هذا التفسير: إنني ولله الحمد على طريقة السلف وهديهم عليها أحيا وعليها أموت إن شاء الله تعالى؛ وإنما أذكر من كلام شيخنا وغيره ومن تلقاء نفسي بعض التأويلات لما ثبت عندي باختباري للناس أن ما انتشر في الأمة من نظريات الفلاسفة ومذاهب المبتدعة المتقدمين والمتأخرين جعل قبول مذهب السلف واعتقاده يتوقف في الغالب على تلقيه من الصغر بالبيان الصحيح وتخطئة ما يخالفه، أو طول ممارسة الرد عليهم. ثم وضحت هذه المسألة في صفحة ٢٥٣ برمتها، فبيَّنت فيها للقارئ المؤمن أن الخير له أن يطمئن بمذهب السلف ولا يحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبه إلا بتأويل يرضاه أسلوب اللغة العربية فلا حرج عليه باتفاق أهل السنة سلفهم وخلفهم. *** المسألة الثانية مذهب السلف في الملائكة قال الأستاذ الإمام: أما الملائكة فيقول السلف فيهم أنهم خلق أخبرنا الله تعالى بوجودهم وببعض عملهم، فيجب علينا الإيمان بهم، ولا يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم، فنفوض علمها إلى الله تعالى، فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك؛ ولكننا نقول إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطير إذ لو كانت كذلك لرأيناها، وإذا ورد أنهم موكلون بالعوالم الجسمانية كالنبات والبحار؛ فإننا نستدل بذلك على أن في الكون عالمًا آخر ألطف من هذا العالم المحسوس، وأن له علاقة بنظامه وأحكامه، والعقل لا يحكم باستحالة هذا، بل يحكم بإمكانه لذاته ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به. اهـ من الصفحة ٢٥٤ج أول تفسير، فهل يتفق هذا مع زعم مجلة الأزهر أننا نقول إن الملائكة عبارة عن القوى الطبعية؟ ثم تكلم فيمن بحثوا في جوهر الملائكة، وقفى عليه ببيان فوائد الخطاب بينهم وبين الله تعالى وهي أربع تُراجع في ص ٢٥٤ و٢٥٥ منه، وقفى على هذا بطريقة الخلف، ومن تكلم منهم في حقيقة الملائكة وكون قصة آدم على طريقتهم (وردت مورد التمثيل لتقرب من أفهام الخلق ما تفيدهم معرفته من حال النشأة الآدمية وما لها من المكانة والخصوصية) . *** المسألة الثالثة أنواع الملائكة قال رحمه الله: نطق الوحي ودل العيان والاختبار على أن الله تعالى خلق العالم أنواعًا مختلفة، وخصَّ كل نوع غير نوع الإنسان بشيء محدود معين لا يتعداه، فأما ما لا نعرفه إلا من طريق الوحي كالملائكة فقد ورد في الآيات والأحاديث ما يدل على أن وظائفه محدودة، قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ} (الأنبياء: ٢٠) {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ المُسَبِّحُونَ} (الصافات: ١٦٥-١٦٦) {وَالصَّافَّاتِ صَفاًّ * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً} (الصافات: ١-٢) ... إلخ {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً * وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً * فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً * فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: ١-٥) على قول من قال: إن المراد بها الملائكة، إلى غير ذلك مما يدل على أنهم طوائف لكل طائفة وظيفة محدودة، وورد في الأحاديث أن منهم الساجد دائمًا والراكع دائمًا إلى يوم القيامة اهـ (من ص ٢٥٩ منه) أفلا يُعَد هذا نصًّا صريحًا في افتراء مجلة الأزهر علينا بأننا نقول: إن الملائكة عبارة عن القوى الطبعية. *** المسألة الرابعة في الملائكة والشياطين والخواطر قال الأستاذ الإمام في الملائكة والشياطين ما نقلته عنه في الصفحة ٢٦٦ وما بعدها من جزء التفسير الأول ملخصًا (والعبارة لي) : تقدم أن الملائكة خلق غيبي لا نعرف حقيقته؛ وإنما نؤمن به بإخبار الله تعالى الذي نقف عنده ولا نزيد عليه، وتقدم أن القرآن ناطق بأن الملائكة أصناف لكل صنف وظيفة وعمل، ونقول الآن إن إلهام الخير والوسوسة بالشر مما جاء في لسان صاحب الوحي صلى الله عليه وسلم، وقد أُسنِدا إلى هذه العوالم الغيبية، وخواطر الخير التي تسمى إلهامًا، وخواطر الشر التي تسمى وسوسة - كل منهما محله الروح، فالملائكة والشياطين إذًا أرواح تتصل بأرواح الناس، فلا يصح أن نمثل الملائكة بالتماثيل الجثمانية المعروفة لنا (لأن هذه [١] لو اتصلت بأرواحنا؛ فإنما تتصل بها من طرق أجسامنا، ونحن لا نحس بشيء يتصل بأبداننا لا عند الوسوسة، ولا عند الشعور بداعي الخير من النفس، فإذًا هي من عالم غير عالم الأبدان قطعًا) والواجب على المسلم في مثل هذه الآية الإيمان بمضمونها مع التفويض أو الحمل على أنها حكاية تمثيل، ثم الاعتبار بها بالنظر في الحِكَم التي سيقت لها القصة. (وأقول) : إن إسناد الوسوسة إلى الشياطين معروف في الكتاب والسنة، وأما إسناد إلهام الحق والخير إلى الملائكة فيؤخذ من خطاب الملائكة لمريم عليها السلام، ومن حديث الشيخين في المُحَدَّثين وكون عمر منهم (والمحدثون بفتح الدال وتشديدها الملهمون) ومن حديث الترمذي والنسائي وابن حبان وهو (إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة: فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ} (البقرة: ٢٦٨) قال الترمذي: حسن غريب لا نعلمه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص، والرواية (إيعاد) في الموضعين كما أن الآية من الثلاثي في الموضعين، فما قالوه في التفرقة بين الوعد والإيعاد أغلبي فيما يظهر وإلا فهو غير صحيح، واللمة بالفتح: الإلمام بالشيء والإصابة. *** المسألة الخامسة وهي مثار شبهة مجلة الأزهر جاء في صفحة ٢٦٧ وما بعدها منه ما نصه: قال الأستاذ: وذهب بعض المفسرين مذهبًا آخر في فهم معنى الملائكة، وهو أن مجموع ما ورد في الملائكة من كونهم موكلين بالأعمال من إنماء نبات وخلقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك - فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة، وهو أن هذا النمو في النبات لم يكن إلا بروح خاص نفخه الله في البذرة فكانت به هذه الحياة النباتية المخصوصة وكذلك يقال في الحيوان والانسان، فكل أمر كلي قائم بنظام مخصوص تمت به الحكمة الإلهية في إيجاده؛ فإنما قوامه بروح إلهي سُمي في لسان الشرع مَلَكًا، ومن لم يبال في التسمية بالتوقيف يسمي هذه المعاني القوى الطبيعية إذ كان لا يُعرف من عالم الإمكان إلا ما هو طبيعة أو قوة يظهر أثرها في الطبيعة، والأمر الثابت الذي لا نزاع فيه هو أن في باطن الخلقة أمرًا هو مناطها ، وبه قوامها ونظامها، لا يمكن لعاقل أن ينكره، وإن أنكر غير المؤمن بالوحي تسميته ملكًا، وزعم أنه لا دليل على وجود الملائكة، أو أنكر بعض المؤمنين بالوحي تسميته قوة طبيعية أو ناموسًا طبيعيًّا؛ لأن هذه الأسماء لم ترد في الشرع، فالحقيقة واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن المسميات [وإن كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودًا لا يدرك كنهه، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح، ولكن أعرف قوة لا أفهم حقيقتها، ولا يعلم إلا الله علام يختلف الناس، وكل يقر بوجود شيء غير ما يرى ويحس ويعترف بأنه لا يفهمه حق الفهم، ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه، وماذا على هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب وقد اعترف بما غيب عنه لو قال أصدق بغيب أعرف أثره وإن كنت لا أقدِّر قدره، فيتفق مع المؤمنين بالغيب، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي، ويحظى بما يحظى به المؤمنين؟] اهـ ما قاله الأستاذ الإمام في المسألة وهو محل التهمة، وهذه العبارة التي بين العلامتين هكذا [] قد كتبها بقلمه كالتي قبلها. *** خلاصة ما تقدم من الرد على هذه البهيتة (١) إن عقيدتنا وعقيدة شيخنا الأستاذ الإمام في الملائكة هي عقيدة سلف الأمة الصالح، وهي أنهم من عالم الغيب الذي نؤمن بكل ما جاء في كتاب الله، وثبت عن رسوله صلى الله عليه وسلم من أخباره، من غير تأويل ولا زيادة ولا نقصان ولا رأي ولا قياس، وقد أكثرنا من الشواهد على هذه العقيدة، وخلاصتها أن الملائكة من عالم الأرواح العاقلة المستقلة، وأنهم أنواع لكل منها وظائف وأعمال خاصة به لا نبحث عن حقيقتها بآرائنا. (٢) إن علماء الكلام ومن تبعهم من المفسرين والفقهاء يتأولون أكثر أخبار الغيب من صفات الله وأسمائه ومنها بعض ما ورد في الملائكة. (٣) اتفاق علماء السلف والخلف في الأمة على تأويل شيئًا منها تأولاً مبتدعًا لا ينقض شيئًا من أمور الدين القطعية المجمع عليها المعلومة من الدين بالضرورة وهو مذعن للأمر والنهي يكون معذورًا في تأوله فلا يحكم بكفره. (٤) إننا نقلنا عن أستاذنا في تفسير قصة آدم أن بعض المفسرين من علماء الخلف المتأولين ذهب إلى أن مجموع ما ورد في نوع الملائكة الموكلين بالأعمال (من إنماء نبات وخلقة حيوان وحفظ إنسان وغير ذلك لا في كل أنواع الملائكة فيه إيماء إلى الخاصة بما هو أدق من ظاهر العبارة) وخلاصة هذا الايماء أن الروح الإلهي الذي قام به نظام هذه الأعمال هو أمر وجودي خفي لا ندرك حقيقته، وأن المعنى الإيمائي - لا المطابقي لمعنى النصوص - يتفق مع قول الذين يثبتون هذا الروح الخفي من المنكرين للوحي وعالم الغيب، ويعبرون عنه بالقوى الطبيعية في الأشياء؛ لأنهم إذا سئلوا عن حقيقة هذه القوى يعترفون بأنهم لا يعرفونها، وبهذا يكون الخلاف في التسمية، فالمؤمنون بالوحي يسمون ما به نظام هذه المخلوقات بالملائكة، ومن لا يؤمنون بالوحي يسمونها القوى الطبيعية، والجامع بين التسميتين أن ذلك أمر يعرف بأثره ولا تعرف حقيقته. فالأستاذ يحكي هذا عن بعض المفسرين وأنهم قالوه من باب الإيماء والإشارة لا من باب التفسير للنص أو الظاهر من العبارة. وصرح بأن غرضه منه أن من يميل إليها ويطمئن إليها قلبه لا يكون كافرًا خارجًا من هذه الملة السمحة، فهو لم يكن موافقًا لهم على هذا الإيماء بل لم يكن موافقًا لهم على ما قالوه من أن هذا النوع من الملائكة هم المراد بمثل قوله تعالى: ( {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} (النازعات: ١) إلى قوله: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً} (النازعات: ٥) فإنه فسر هذه الأشياء في سورتها بالكواكب لا بالملائكة. (٥) إن محرر مجلة مشيخة الأزهر والعضو في هيئة كبار علمائه يرى هذا كله ثم ينشر في هذه المجلة أن الشيخ رشيد رضا قد قرر في مجلته وتفسيره أن الملائكة في جملتهم عبارة عن القوى الطبيعية واحتج عليه بحوار الملائكة لربهم في خلق آدم عليه السلام وبآيات أخرى، ليفهم قراء هذه المجلة التي رزئ بها الاسلام أن صاحب المنار ينكر أن يكون لله ملائكة غير هذه القوى الطبيعية. فإن كان هذا العلامة لم يفهم مما ذكر كله على جلائه ووضوحه وتكراره والتكرار يعلم ... (ما نستهجن ذكره ولا يجوز تغيير الأمثال) ويؤثر في الأحجار، كما قال الشاعر: أما ترى الحبل بتكراره ... في الصخرة الماء قد أثرا أقول: إذا كان لم يفهم من هذا كله أن صاحب المنار ناقل عن ناقل عن بعض المفسرين المتأولين المخالفين لاعتقادهما الثابت بما تقدم من الشواهد الصريحة وغيرها، فصرح لعدم فهمه وتمييزه بين المنقول للتقريب، والمقول المعتقد مع التأكيد، بان صاحب المنار هو الذي يعتقد لما نقله عمن نقله عن غيره، دون ما صرح بأنه اعتقاده الذي يدين الله به - فكيف يوثق بعلمه وفهمه ويجعل مدرسًا في الأزهر ومحررًا في مجلته؟ وإن كان قد فهم هذا كله وتعمد تحريف الكلم عن مواضعه، وافتراء الكذب على صاحب المنار بالطعن في عقيدته، انتقامًا لنفسه، بعد أن بين صاحب المنار في مجلته خطأه وجهله بتصحيح بعض الأحاديث التي صرح أو سع الحفاظ علمًا بالجرح والتعديل بوضعها، وعدم تمييزه بين دعاء العبادة الخاص بإله العباد وربهم والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه خلقة، وبين دعاء العادة واستغاثة الناس بعضهم ببعض في الأمور الكسبية، وعدم تمييزه بين السنة والبدعة. أقول: إن كان قد فهم هذا كله واستباح معه هذا الانتقام بالتحريف والافتراء والبهتان فكيف يوثق بدينه وبنقله، وبأمانته على العلم، ورحم الله الشاعر الذي قال: إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم يجب على الأمة أن تسأل شيخ الأزهر عن هذا فإن لم يجبها كما امتنع إلى الآن عن الإذن لإدارة المجلة بنشر ما أرسلناه إليها من الرد على هذا البهتان، ليرجعوا إلى بسط شكواهم إلى السلطة العليا المسيطرة على مشيخة الأزهر لعلها تنصفهم منه وأختم هذا بأنني قد رددت في المنار على من قال بمثل ما نقله الأستاذ الإمام عن بعض المفسرين أو قريب منه وهو تسمية بعض القوى الطبيعية بالملائكة تأكيدًا لفضيحة المفتري ومجلة الأزهر. *** رد المنار على من زعم أن بعض العوالم الطبيعية وقواها من الملائكة إن المنار كان ولا يزال بالمرصاد لمتأولي نصوص الكتاب والسنة بما يخرجها عما فهمه الصدر الأول، وقد قال الدكتور محمد توفيق صدقي في كتابه (دروس سنن الكائنات) إن كلمة مَلَك أصلها مألك ومعناها الرسالة، فهي تطلق على كل رسول مما يرسله الله إلى هذا العالم من المادة أو قواها فما يرسله منها يصح أن يسمى ملكًا بلا نزاع فالريح تسمى ملكًا أو رسولاً من الله ولذلك قال تعالى في الرياح {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} (المرسلات: ١) إلخ، وإن أنواع المكروبات الخفية المؤثرة في تغيير بعض الأشياء وتحولها وفي الأمراض كلها من قبيل الملائكة والجن. وقد نشرت له هذا في ص ٦٠٣ من مجلد الثامن عشر وعلقت عليه في الحاشية بالرد الآتي.
(المنار) ما قاله الكاتب في هذا البحث ضعيف لغة وشرعًا، إلا أنه مذهب له واصطلاح خالف فيه الناس كما قال، ولكن له فائدة لا جلها أجزنا نشره، وهي أن المغرورين بما أصابوا من علم البشر القليل بشئون الكون يتوهمون أنهم بذلك القليل من القليل قد أحاطوا علمًا بهذا العالم العظيم وبخالقه أيضًا، وإن ما لا ينطبق على علمهم لا يكون صحيحًا وإن كان ممكنًا في نفسه. فمثل هذه التأويلات تقطع ألسنة هؤلاء الواهمين المغرورين دون الاعتراض على النصوص، أو تزيل شبهاتهم فلا يصعب عليهم بين علمهم وبين الدين، ولا يكون أحدهم متدينًا مؤولاً، خير من أن يكون زنديقًا أو معطلاً. أما بيان ضعف ما ذكر لغة فلأن الألفاظ التي صارت حقيقة شرعية أو عرفية لا يجوز أن يدخل في مفهومها كل ما يناسب الأصل الذي اشتقت منه، وأما ضعفه شرعًا فهو أظهر، والملائكة من عالم الغيب الذي يجب على كل مؤمن الايمان به كما ورد في خبر الوحي من غير تأويل ولا تحريف، ويكفي في ذلك كونه ممكنًا عقلاً، والايمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان والأول هو الإيمان بالله تعالى فهل يدخل في مفهومه هذه الميكروبات التي يصفها هؤلاء الكتاب بالدنيئة الحقيرة؟ كلا، وأما إدخالها في مفهوم كلمة الجن فليس ببعيد لغة ولا ممنوع شرعًا فقد ورد أن الجن أنواع ومنه ما هو خشاش الأرض، ولا مانع في العقل ولا العلم من كون بعض عوالم الغيب من الملائكة موكلاً ببعض شؤون الكون وسببًا له، وتفصيل هذا البحث لا تتسع له هذه الحاشية. اهـ. *** شبهة لفظية يظنها الجاهل علمية نشرنا في صفحة ٢٥٥ من مجلد المنار الخامس سنة ١٣٢٠ تحت عنوان الملائكة والنواميس الطبيعية ما نصه: سأل سائل: إذا كانت الملائكة هي عبارة عن القوى المعنوية، والنواميس التي بها نظام العوالم الحية، فما معنى {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفاًّ} (النبأ: ٣٨) وأمثاله؟ والجواب: أن الذي تقدم في التفسير هو أن الملائكة عالم مستقل مستتر عنا، وإنما كان ذكر القوى والنواميس الطبيعية جذبًا لمنكري الملائكة إلى التصديق لأن بعض ما ورد يوافق ما يعتقدون فكيف يكفرون لاختلاف الألفاظ؟ لا أن الكلام كان إرجاعًا لنصوص الدين إلى أقوالهم. اهـ. وأقول الآن: إن هذه الشبهة التي عرضت لبعض الناس منذ ٣١ سنة وكشفنا له خطأه فيها فعقله ورضيه هي التي يقولها الشيخ يوسف الدجوي حتى اليوم يقول: إن التأويل الذي ذكر في تفسير المنار هو صريح في إرجاع نصوص الدين إلى أقوال علماء الطبيعة، لا إرجاعهم هم إلى نصوص الدين، فهل يقول هذا بعد كل ما تقدم رجل يعقل أو يفهم ما يسمع وما يقرأ له؟ بلغني أنه بنى على هذه الجملة في هذه الشبهة مقالاً طويلاً استدل فيه بها على تأييد بهيتته الأولى بالرغم من كل ما تقدم، وهي إننا نعتقد أن جميع الملائكة قوى طبعية وأننا نريد بذلك رد نصوص الدين إلى عقائد الطبعيين، وأراد نشرها في مجلة المشيخة فمنع شيخ الأزهر المجلة من نشرها لما فيها من تسجيل فضيحة المجلة وفضيحة الدجوي. وقد تعلق الدجوي من هذه الجملة بالإبهام والإجمال بكلمة (لأن بعض ما ورد يوافق ما يعتقدون) أي ما يعتقد المنكرون لوجود الملائكة فأراد أن يهدم بها جميع تلك النصوص الصريحة المفصلة المبينة التي كتب أكثرها بعدها! ! لأن مبلغ الدجوي وأمثاله من العلم محصور في التشكيك والمناقشات في العبارات الجزئية، دون تحقيق أصل الموضوع في المسائل العلمية كما تقدم. ((يتبع بمقال تالٍ))