ووجه الحاجة إليها وتقاسيمها (والكلام على تربية الأمم والإسلام , والتربية الدينية والإسلام , وتربية الإرادة) (خطبة ارتجالية ألقيت في مدرسة العلوم الكلية بعليكره) أيها النواب الجليل، أيها الأساتذة والوجوه الأجلاء، والطلاب النجباء: شرفتموني بدعوتكم إياي إلى الخطابة فيكم، فلم أر بدًّا من إجابة دعوتكم والشكر لكم، وقد اخترت أن يكون كلامي في التربية التي هي من علمكم وعملكم، وإن كنت في ذلك كمن ينقل التمر إلى البصرة - كما يقال في المثل - ولو شئت لتكلمت في موضوع ليس لكم فيه علم تفصيلي كحالة المسلمين في بلادنا، ولكن بحث التربية أهم والحاجة إليه أشد، فرأيت أن أعرض على مسامعكم شيئًا من رأيي فيه؛ لأنني أشتغل به علمًا وعملاً كما تشتغلون، فإن وافق رأيكم حمدت الله تعالى على اتفاقنا في هذا الشأن العظيم على بُعد الدار، واختلاف اللسان، وإن خالفه رجوت أن تنبهوني وتبينوا لي ما ترون أنه الصواب فأستفيد من علم إخواني وتجاربهم ما أنا في أشد الحاجة إليه، والحقيقة بنت البحث كما يقولون. تنقسم مباحث التربية إلى عدة أقسام باعتبارات مختلفة، فمن ذلك انقسامها بحسب الموضوع إلى: تربية الجسد، وتربية النفس، وتربية العقل. ومنه انقسامها بحسب الموضع إلى: تربية المنزل، وتربية المدرسة. وانقسامها بحسب المربي إلى: تربية الأم والأب للولد، وتربية الأستاذين للتلاميذ، وتربية المرء لنفسه. وانقسامها بحسب المربَّى إلى: تربية الأفراد وتربية الأمم , وهنالك أقسام أخرى أصلية أو فرعية كبحث التربية الدينية ونسبة المسلمين فيها إلى غيرهم من أهل الملل، وبحث تربية استقلال الفكر والإرادة وهو من فروع تربية العقل وتربية النفس. أما وجه الحاجة إلى التربية فلا أُراني في حاجة إلى الإفاضة فيه لأجل الإقناع به , فإن هذا قد صار عند أمثالكم من قبيل البديهيات التي لا نزاع فيها، وإنما أذكركم ببعض آيات القرآن الحكيم في ذلك للتذكير بهدايته العليا وموافقته لما يدل عليه العقل والتجارب، وتقتضيه طبيعة الاجتماع البشري. قال الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (النحل: ٧٨) : يعني أن الله تعالى خلق كل فرد من أفراد الإنسان جاهلاً لا يعلم شيئًا مما يحتاج إليه لإقامة بناء حياته الشخصية والنوعية , فكان في مبدأ خلقه وأول نشأته دون سائر أنواع الحيوان التي يخلقها الله تعالى عالمة بما تحتاج إليه بالفطرة متوجهة إليه بالطبع، ولذا قال تعالى في آية أخرى: (وخلق الإنسان ضعيفًا) , فالإنسان من هذه الجهة أضعف من الحيوانات حتى ما كانت بنيتها منها أضعف من بنيته، ولكن الله تعالى أعطاه من المواهب والقوى ما إن استعمله فيما خلق لأجله كان أقوى المخلوقات في هذه الأرض , يسخر الحيوانات القوية لمنفعته , ويستخدم قوى الطبيعة في أعماله، وبهذا كان في مجموعه خليفة لله في أرضه، يظهر أسرار خلقه وسننه الحكيمة فيها، وقال تعالى في خلقه بهذه المزايا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (التين: ٤) , وهو لا يرتقي في معارج الكمال بمزاياه إلا بشكر الله تعالى على نعمة الحواس والمشاعر الظاهرة، والعقول والوجدانات الباطنة، وعبر عنها بالأفئدة في الآية حسب استعمال العرب، وإنما الشكر عليها هو استعمالها فيما خلقت لأجله من تحصيل العلم بالمنافع والمضار والمصالح والمفاسد لأجل العمل بما تقتضيه الفطرة من اجتناب المضرة والمفسدة، واختيار المنفعة والمصلحة، على بصيرة وعلم. العبرة في الآية أن الشكر من أعمال الإنسان الاختيارية، لا من المواهب الفطرية، وقد أرشدنا القرآن، ودلنا العلم والاختبار على أن الإنسان يستفيد من حواسه وعقله بقدر تعاون أفراده على ذلك بالبحث والعمل واستفادة المتأخرين مما وصل إليه علم من قبلهم واختبارهم , حتى لا يضطر كل منهم إلى استئناف الاختبار لكل ما يحتاج إليه من الضروريات، فلا يفرغ حينئذ أحد منهم إلى الترقي في معارج الكماليات. وجملة القول في هذه المسألة: أن الله تعالى وهب الإنسان المشاعر والمدارك الظاهرة: كالسمع والبصر والباطنة: كالعقل والوجدان، وجعلها آلات له يرتقي بها إلى ما هو مستعد له من الكمال، ووكله في ذلك إلى نفسه، وناط سعادته أو شقاوته بعلمه وعمله، فكان محتاجًا بمقتضى فطرته إلى أن يقوم بعض أفراده بتربية الآخرين وتعليمهم حتى لا يطول عليهم أمد الجهل، والخطأ في العمل، وإنما يكمل ذلك بجعل التربية والتعليم فنَّين ينفرد بهما من يتقنونهما. كما أنعم الله تعالى على أفراد الناس بالحواس والعقول، أنعم على جملتهم بعلم آخر أعلى من العلوم التي يستفيدها كل فرد بكسب وبحثه، وهو الوحي الذي أيد به رجالاً منهم بإفاضته عليهم من لدنه بغير كسب ولا بحث، فكان كالعقل للنوع - كما قال الأستاذ الإمام - ولولاه لما ارتقى البشر إلا في الزمن الطويل، بالسير الناقص البطيء، {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} (البقرة: ٢١٣) . هذه إشارة إلى ما تقتضيه فطرة البشر من الحاجة إلى التربية والتعليم، نقرنها بإشارة أخرى إلى مكانة التربية والتعليم من دين الفطرة الذي ختم الله به الأديان، وهو دين الإسلام، وأكتفي في بيان هذا بقوله تعالى في سورة الجمعة: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ *} (الجمعة: ٢-٣) وقوله تعالى في سورة البقرة: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} (البقرة: ١٥١) , فقد بين الله تعالى أنه أرسل رسوله ليكون مربيًا معلمًا، فإن التزكية هي التربية الفُضلى التي تكون بها نفس الإنسان زكية كريمة متحلية بالفضائل، مطهرة من الرذائل، والكتاب مصدر بمعنى الكتابة: أي يعلمهم أن يكونوا كاتبين لما يعلمونه؛ ليحفظ وينتشر، وأن يكونوا حكماء عارفين بالعلوم النافعة التي ترتقي بها أفرادهم وجماعتهم، وليس وراء هذا التعليم وتلك التربية غاية، إلا ما يترتب على الكمال فيها من سعادة الدنيا والإخرة. *** تربية الأمم ورسالة خاتم النبيين أنتقل من هذه المسألة إلى كلمة أقولها في تربية الأمم وهي من أقسام التربية التي بينتها في بدء الكلام فأقول: المراد بتربية الأمم إحداث انقلاب عام فيها ونقلها من طور إلى طور أعلى منه وأرقى في الحياة المادية والمعنوية، وهذا العمل هو أشق الأعمال البشرية وأرقاها، وهو يتوقف على علم صحيح واسع يقلُّ في الناس مَنْ يتقنه، وعلى بصيرة نافذة يندر في البشر من يؤتاها، وعلى أعوان كثيرين من أهل هذه البصيرة والعلم يعملون بالتعاون والإخلاص، وما كل عليم بصير يتقن العمل بعلمه ويفلح فيه، وإن كان عمله دون إصلاح أحوال الأمم، وتغيير أحوالها الاجتماعية، وإنما تتغير أطوار الأمم عادة بالتدرج البطيء في الزمن الطويل. إن علوم الاجتماع البشري والأخلاق وطبائع الأمم والسياسة والتربية وغيرها من العلوم التي يحتاج إلى معرفتها رجال الإصلاح الذين يربون الأمم، قد صارت مدونة تدرس في معاهد العلم , وهي مقتبسة من كتب الأديان ومن التواريخ والتجارب، والمتقنون لها في الشعوب المرتقية كثيرون في أنفسهم وإن كانوا أقل من المتفنين لغيرها، ولكن لا يوجد فيهم من يقدر على إحداث انقلاب سريع أو تغيير في أحوال أمة من الأمم البدوية دع الأمم الحضرية، وإنما يحاولون مثل هذا التغيير بإنشاء المدارس الكثيرة وتعميم التربية والتعليم، وتعاقب القائمين بذلك عدة أجيال. إذا تصفحنا تاريخ البشر رأينا أن أبدع مثال وأغرب صورة من مُثُل تربية الأمم وصورها هو ما كان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: أميٌّ نشأ لم يقرأ كتابًا، ولم يمسك بيده قلمًا، بل لم يكن يوجد في بلده الذي نشأ فيه كتاب يقرأ (بالمعنى الذي يفهم الآن من كلمته كتاب) وهو مجموعة صحف كتب فيها كثير من المسائل) وقال بعض المؤرخين: إنه لم يكن يوجد في مكة قبل بعثته أحد يعرف الخط إلا ستة رجال ما تعلموه في مدرسة، ولا قرأوا به علمًا، وإنما ألجأتهم الضرورة إلى ذلك بالاتجار، ومخالطة بعض الشعوب في الأسفار، نبيّ هذا شأنه وشأن قومه في الأمية، والبعد عن أسباب العلم والحضارة، نهض بتربيتهم وهو في سن الكهولة، فتم التغيير والتبديل قبل انقراض الجيل بهداية هذا القرآن الحكيم، وتربية هذا النبي الأميِّ العظيم، ثم حمل هذه الهداية الذين تربوا بها في الكبر، إلى أهل الحضارة والبداوة من شعوب البشر، فما دخلوا قطرًا من الأقطار محاربين أو مسالمين، إلا وجذبوا أهله إلى دينهم ولغتهم من غير مدارس تنشأ، ولا كتب تقرأ، ولا مجالس للجدال تعقد، ولا أموال ولا منافع تبذل، ولا سيف للإكراه على الدين يستلّ، وإنما كانت سيرتهم الطاهرة وآدابهم العالية هي التي تجذب الأمم إليهم، وتقسر سرائرها على الاقتداء بهم، وتقود عقولها إلى الدخول في زمرتهم، وقد شهد لهم ولمن تبعهم من بعدهم علماءُ الإفرنج المنصفون ومؤرخوهم المحققون، قال الحكيم الفرنسي غوستاف لوبون صاحب كتاب (حضارة العرب) : ما عرف التاريخ فاتحًا أرحم ولا أعدل من العرب. وقد بينت كيفية نشأة الإسلام وانتشاره في خطبتي الختامية لاحتفال ندوة العلماء. أريد بذكر هذا المثال الخارق للعادة من تربية الأمم أن أذكر لكم آية على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم تفوق جميع ما أوتي النبيون من الآيات التي لأجلها آمن بهم الناس، فإنها آية علمية عملية، تدل على التأييد الإلهي دلالة عقلية حسية، وأما نحو قلب العصا حية وإبراء الأعمى والأبرص فليست دلالة على النبوة من هذا القبيل، وقد آمن بسببها من آمن من الناس؛ لأنهم اعتادوا أن يخضعوا لمن يظهر على يديه أمر يعلو قدرتهم، لاعتقادهم أن ذلك لا يكون إلا من القدرة الإلهية، والسلطة الغيبية، وكانوا بذلك يقبلون هداية الأنبياء عليهم السلام فيحصل المقصود من بعثتهم , وقد ضرب أبو حامد الغزالي في كتابه (القسطاس المستقيم) مثلاً للفرق بين الآية العلمية التي هي العمدة والأصل في الدلالة على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم والآيات الكونية التي كان يحتج بها الأنبياء السابقون عليهم السلام فقال: إذا ادعى رجل أنه طبيب ودعا المرضى إلى قبول معالجته واستعمال أدويته , واستدل على صدقه في دعواه بقلب العصا حية لا يكون دليله كدليل من يدعي مثل دعواه ويدعو إلى مثل دعوته , مستدلاًّ على صدقه بكتاب ألفه في علم الطب , ثم بمعالجته طائفة من المرضى بما في ذلك الكتاب من بيان طرق العلاج والأدوية وشفائهم بذلك في أقرب وقت وأسرعه. نشأ نبينا صلى الله عليه وسلم أميًّا بين قوم أميين , ولم يُعْنَ في صباه وعهد شبابه بما كان يُعنى به فصحاء قومه وأذكياؤهم من الشعر والخطابة، والمبارات في المفاخرة والمماتنة، ثم قام في سن الكهولة يدعو قومه وسائر الأمم إلى إصلاح ما فسد من عقائدهم وأخلاقهم وأحكامهم وسياستهم وأحوالهم الشخصية والاجتماعية، وقال: إن الله أوحى إليه من العلم ما يكفل ذلك , ووعده أن يؤيده فيه , فهو يربي قومه العرب ويزكيهم بالقرآن ويعلمهم الكتاب والحكمة , وهم ينشرون دعوته ويبثون حكمته في الأمم، فيفتح الله لهم المشرق والمغرب، وينقل الله بهم الأمم والشعوب من حال إلى حال أعلى وأرقى - من الوثنية والعبودية والذلة والظلم وفساد الأخلاق والآداب والجهل إلى التوحيد والعدل والحرية والآداب والفضائل والعلم وثمراته , وقد كان ذلك فهل يعقل أن هذا مما يقدر عليه أميٌّ مثله بعلمه الكسبي واستعداده الشخصي؟ كيف ونحن نرى الدولة القوية بالعلم والنظام والسلاح تستولي على قطر من الأقطار أو شعب من الشعوب بالقوة القاهرة , ثم تقبض بكلتا يديها على جميع أسباب حياته الحسية والمعنوية، ومصالحه الجسدية والروحية، وتحاول أن تربيه تربية جديدة، مهتدية في ذلك بالسنن التي هدتها إليها علوم الاجتماع والسياسة، فتمنعه من قراءة ما ينافي غرضها من الكتب والصحف، وتنشئ له المدارس في كل بلد من قبلها، وتبث في كل منها دعاة دينها، فيعلمون الصغار في هذه المدارس لغتها ودينها وتاريخها وكل ما يشغل النفس والعقل بها ويحوِّل المتعلمين عن دينهم ومقومات أمتهم ومشخصاتها إلى انتحال ما تحاول الدولة الفاتحة أن تحدثه لهم من المقوِّمات والمشخصات، ثم نراها لا تكتفي بتكوين الصغار تكوينًا جديدًا، بل تحدث في نفوس الكبار كل ما يستطاع من الأحداث التي تزعزع كل ما كانوا عليه من مقومات أمتهم ومشخصاتها كتغيير العادات والأزياء، ونشر الجرائد التي تشغل الأذهان والأفكار بعظمة تلك الدولة وأمتها وآدابها وسياستها، يتولى كل هذه الأعمال رجال استعدوا لها، وحذقوا علومها في المدارس العالية، ثم تمرّ الأجيال ولا تستطيع دولة من هذه الدول الفاتحة بالعلم والقوة أن تحوِّل أمة عن دينها ولغتها كالتحويل الذي أحدثه الإسلام في جيل واحد بتحويل عدة أمم عن دينها ولغاتها وعاداتها بدون استعانة على ذلك بالمدارس والجرائد، ولا بغير ذلك من الأسباب الصناعية التي هدت إليها العلوم الاجتماعية، أليس هنا برهان علمي قطعي على أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان مؤيدًا من الله تعالى فيه وأنه من خوارق العادات؟ بلى إنه أعظم الخوارق وأقواها، وأظهر المعجزات وأسماها، وحسبنا منه الإشارة إليه، والتذكير به. *** تربية البيوت والأمهات أنتقل من هذا إلى كلمة وجيزة في تربية البيوت، تعلمون أيها الفضلاء أن تربية البيوت هي الأساس الذي يُبنى عليه ما بعده، وأن الأمهات هن اللواتي يقمن بها، وماذا نفعل في أمر هذه التربية ونساؤنا قد استحوذ عليهن الجهل بكل ما تتوقف عليه التربية من العلوم والآداب الدينية والدنيوية , بعد أن كن يضربن مع الرجال في القرون الإسلامية الأولى والوسطى بكل سهم، وينلن حظهن من كل علم؟ لأن الإسلام فرض العلم على الرجال والنساء جميعًا، ولم يجعل بين الفريقين فرقًا في التكاليف إلا ما هو خاصّ بكل منهما بمقتضى الفطرة أو طبيعة الاجتماع (وكأحكام الحمل والولادة الخاصة بالنساء وفنون القتال الخاصة بالرجال) . لا يمكننا أن نقيم التربية القويمة على أساسها إلا إذا ربينا النساء وعلمناهن ما يتوقف عليه قيامهن بتربية أولادهن، وقد اضطرب المسلمون في هذه المسألة فبعضهم يدعو إلى تقليد الإفرنج في تعليم نسائهم وتربيتهن , وهم يظنون أننا إذا ربينا نساءنا على نمط تربية نسائهم، وعلمناهن لغاتهم، نكون في دنيانا مثلهم في دنياهم، وهذا جهل بعلم الاجتماع وطبائع الأمم عظيم، وخطأ في علم التربية والأخلاق كبير، والصواب أننا نهدم بهذا التقليد مقوماتنا ومشخصاتنا الملية والقومية ولا نستطيع أن نبني به مثل مقوماتهم الاجتماعية، فعلينا أن نربي بناتنا على آداب ديننا وفضائله وأحكامه، وأن نعلمهن لغة ديننا ولغة وطننا، وتاريخ أمتنا وديننا، وعلم التربية وتدبير المنزل والحساب وقانون الصحة، وشيئًا إجماليًّا من شئون العالم وأحوال العمران يعرفن به حاجات العصر الذي يعشن فيه , ويدخل في هذا علم خرت الأرض وتقويم البلدان (الجغرافية) والتاريخ العام. هذا هو الذي لا بد منه لكل امرأة، وقد يحتاج إلى تعليم بعضهن العلوم العالية التي لا بد منها كالطب والجراحة , ولا سيما القسم النِّسائي منه المتعلق بالحمل والولادة، وكفنِّ التعليم , فإن اللائق بآداب الإسلام أن تكون المرأة هي التي تعلم البنات وتطبب النساء , وكما نحتاج إلى الطبيبات والمعلمات منا نحتاج إلى المربيات في البيوت فإن أمراءنا وكبراءنا ومقلدتهم من سائر طبقات الأغنياء لجئوا إلى المربيات الأوربيات , يلقون إليهن بأفلاذ أكبادهم من الذكور والإناث فيربينهم على آداب وأخلاق غير آداب ملتهم وأخلاقها، ويعلمنهم لغات غير لغات أمتهم ودينهم، ولا خير لهم في هذا ولا لأمتهم، لأنهم يتشكلون بشكل لا يتفق مع شكلها، فتنفصل منهم وينفصلون منها، فإن للنفوس في أفكارها وعقائدها وأخلاقها ورغباتها أشكالاً كالأشكال الهندسية , فإذا كنا لا نستطيع أن نقيم بناء رصينا محكمًا منتظمًا من حجارة بعضها مثلث وبعضها مربع وبعضها كروي , فكذلك لا نستطيع أن نكون أمة عزيزة راقية من أفراد تختلف أشكال نفوسهم العقلية والنفسية وما يترتب عليه من اختلاف أعمالهم وعاداتهم، نعم إن هؤلاء الذين تربيهم النساء الإفرنجيات قد يكونون أرقى في الآداب الاجتماعية العصرية والنظافة من أمثالهم الغفل المهملين، الذين يوكلون إلى ما يقتبسونه من العشائر والمعاشرين، وفضل السيف على العصا لا يعدُّ فضلاً كبيرًا، وإنما نطلب تربية نكون بها أمة حية عزيزة متحدة كغيرنا من أمم الحضارة، ولن ندرك هذا بمثل هذا التفرنج التقليدي في كبرائنا، بل هذا أقوى ما يحول بيننا وبين ما نريد. *** تربية المدارس يجب أن تكون عنايتنا بتربية المدارس أشد من عناية غيرنا؛ لأننا وقد تعذرت علينا التربية الأساسية الأولى بجهل نسائنا , نربي تلاميذ سرى الفساد إلى أخلاقهم، والخرافات إلى عقولهم، ولكننا لم نقم بهذا الواجب , ولم تُعن مدارسنا بالتربية النفسية ولا بالتربية العقلية التي هي وظيفتها الأولى. لا أعني بالتربية العقلية تعليم العلوم التي يرتقي بها العقل , فإن التعليم - وإن كان يدخل في مفهوم التربية العام الذي يشمل تربية الجسم والنفس والعقل - قد خص بهذا الاسم دون سائر أنواع التربية , وصارت المقابلة بين التربية والتعليم من المقابلة بين العام والخاص , وإنما أعني بالتربية العقلية أن يتوخى في أسلوب التعليم استقلال عقول الطلاب في الفهم والحكم في المسائل، وتحرير الحقائق , وأن لا يعوَّدوا أخذ المسائل العلمية بالتسليم والتقليد، فبهذا تتربى العقول وتنمو الأفكار ويتخرج العلماء المستقلون الراسخون. إنما سبب تقصيرنا في التربية المدرسية فَقْد الأساتذة الأكفاء القادرين عليها أو ندرتهم، فإنه يقل في المتعلمين منا من تربى تربية صالحة يُرجى نفعها، وإنما يقوم بناء التربية على أساس القدوة والتأسي بالمربي والاستفاضة من ينبوع فضائله وصفاته (وفاقد الشيء لا يعطيه) , وقُصارى ما يمكن أن يطالب به العقلاء من نظار المدارس وأساتذتها هو أن يتكلفوا ما يجب عليهم من ذلك تكلفًا عسى أن يصير ما يتكلفونه خلقًا لهم أو لتلاميذهم، وأن يرشدوا إلى العناية بتربية أنفسهم. *** تربية المرء لنفسه أيها الطلاب النجباء: إنني أخصكم بالخطاب والتذكير في هذا القسم من أقسام التربية , سمعتم قولي في تقصير مدارسنا في التربية ورأيي في سببه، وأزيدكم على ذلك أن المدارس التي هي أرقى من مدارسنا في الأمم التي هي أرقى في الحضارة والعلوم من أمتنا، لا تستقل بتخريج الرجال العظام ولا بتكميلهم في التربية والتعليم , فإن كثيرًا من المتخرجين في مدارس أوربة الجامعة يكونون لصوصًا وفوضويين وفجرة يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء , المدارس تفتح للطلاب أبواب العلم، وتدلهم على طرق العمل لأنفسهم ولقومهم أو جنسهم، ولكنها لا تبوئهم تلك البيوت، ولا تقودهم في تلك الطرق حتى توصلهم إلى غايتها، وإنما ذلك عليهم لا على المدارس، وأن بعض المديرين لشئون المدارس أو المسيطرين عليها قد يريدون من تربية النابتة وتعليمهم ما لا تريده تلك النابتة لأنفسها لو عقلته وعرفت عاقبته , فينبغي للأذكياء من طلاب العلوم أن يكونوا على بصيرة في تعلمهم وتربيتهم، وأن يعلم كل واحد منهم أنه لا ينال الكمال الممكن إلا بجده الشخصي وعنايته بتربية نفسه وتكميلها. ربُّوا عقولكم على الاستقلال في الفهم، والاستدلال على المطالب، لتكونوا علماء بأنفسكم، لا نقلة تحكون علم غيركم، ليكن العلم صفة من صفاتكم لا صورًا خارجية تعرض على مرآة أذهانكم. ربُّوا أنفسكم على الفضيلة والتقوى وعلو الهمة وقوة الإرادة ومضاء العزيمة، لتكونوا كملة في أنفسكم، وقدوة صالحة لأمتكم، إنني أعلم أن أكثر طلبة العلم منكم ومن غيركم يطلبون العلم لأجل المعاش لا لأجل تكميل النفس بالفضيلة، ولا لأجل النهوض بالأمة، وأعلم مع ذلك أن الناس معادن كمعادن الذهب والفضة (كما ورد في الحديث الشريف) وأن من كان معدنه شريفًا وجوهره كريمًا لا يرضى لنفسه إذا عرف مزايا جوهرها أن تكون في مرتبة المعادن الخسيسة. لا أقول إن من يطلب العلم الدنيوي لأجل الكسب يكون خسيسًا مذمومًا؛ فإن الكسب مطلوب بل ضروري ولا بد في إتقان أسبابه من العلم، فمن يطلب العلم ليكون حاكمًا أو طبيبًا أو مهندسًا أوصيدليًّا أو تاجرًا أو قائمًا بغير ذلك من أعمال العمران - حقيق بأن يكون محمودًا في علمه وعمله، ولكنه لا يفضل من هذه الجهة العوام والأميين الذين يعملون ما لا يتوقف على تعليم المدارس من أعمال العمران كالفعلة وصغار الصناع والزراع من حداد ونجار وخباز ووقاد في سفينة أو قطار أو حمام، كل من يؤدي للأمة عملاً من الأعمال التي تحتاج إليه يكون جديرًا بالشكر والثناء على قدر إتقانه له وبذل جهده فيه، وباللوم والذم على قدر تقصيره فيه، ووقوفه دون الغاية التي يستطيعها من إتقانه، ولكن المتعلمين في المدارس العالية يجب أن تكون خدمتهم لأمتهم أرقى من خدمة الفعلة والصناع من العوام، يجب أن يكون نفعهم متعديًّا، يجب أن يكونوا قدوة لغيرهم في الفضائل والآداب، والقيام بالمصالح العامة، والمنافع المشتركة، يجب أن يكونوا بذلك مربين لها، وعمالاً بيتكم لرفع شأنها، ولا يكونون كذلك إلا إذا عنوا بتربية أنفسهم على الفضيلة والتقوى، فإننا نرى كثيرًا من الذين تعلموا في أرقى مدارسنا ومدارس أوربة العالية كانوا بفساد تربيتهم وبالاً على الأمة إما بسوء أخلاقهم واتجارهم بمصالحها، وإما بفسقهم واستهانتهم بشريعتها وشعائرها، فيجب أن تراعوا في ترلأنفسكم، نسبتكم إلى أمتكم ونسبتها إليكم، وأن تتقوا التقليد الذي يبعدكم عن مقوماتها ومشخصاتها، وتوخُّوا أن تكونوا معها كبيوت النحل المسدسة الشكل لكي يتصل بعض طبقاتها ببعض ، وإن تمايزت الطبقات أو الأفراد في أنفسها بالعلم والحكمة كما تمتاز بعض بيوت النحل بوجود العسل فيها على ما لا عسل فيه. لا يتفاضل البشر في شيء كما يتفاضلون في نفع الناس والقيام بمنافعهم العامة ومصالحهم المشتركة، وإن أمتنا لتشكو من قلة العاملين للمصلحة العامة ما لا تشكو من قلة العالمين بها، فلو كان فينا كثيرون يعملون بما يعلمونه من مصالح الأمة ومؤثرون ذلك على أهوائهم لما كنا في هذه الحال السوءى التي نشكو منها , قال بعض علماء أوربة وكبرائها للأستاذ الإمام: إننا نرى فيكم من نذاكرهم فيجاروننا في كل علم , ونراهم يفهمون المصالح والأمور كما نفهمها سواء، فما هي علة تأخركم عنا؟ الجواب الذي اتفق عليه العالمان المسلم والإفرنجي أن علة ذلك هي كثرة العاملين للمصحلة العامة في الإفرنج وندرتهم فينا. ينبغي لكل من كان كريم الجوهر عالي الهمة أن ينوي ويقصد المنفعة العامة في كل عمل يعمله، فإن أقل فائدة ذلك أنه يرقي نفسه ويزيده كمالاً وإن لم يتم له ما ينوي، لا يوجد عمل من الأعمال يتعذر فيه قصد المنفعة العامة، وإنني أضرب لكم مثلاً واقعًا على هذا من أغرب ما يؤثر عن الأمم الحية , حدثني الأستاذ الإمام أنه في بعض أسفاره أراد اختبار بعض أفراد الطبقة الدنيا من الإفرنج وكان راكبًا في سفينة إنكليزية , فسأل وقَّادًا فيها عن عمله الشاق وأجرته عليه، ثم سأله: هل ترجو ارتقاء في حياتك هذه؟ قال: نعم , إنني أفكر في عمل عظيم، وأسعى إلى ارتقاء كبير، قال الأستاذ: ما ذاك؟ قال الوقاد: إنك تعلم أن معادن الفحم الحجري محدودة، وأنهم يقدِّرون لها النفاد في قرون معدودة، فإنا نفكر في طريقة للاقتصاد في إنفاق الفحم تكون به أمتنا الإنكليزية أغنى الأمم به، وأستفيد أنا من هذا الاختراع ثروة كبيرة ومجدًا عظيمًا. فتأملوا - رعاكم الله - كيف توجهت همة ذلك الرجل الذي هو أدنى الناس حرفة وعملاً إلى أن ينفع أمته العظيمة الغنية وينمي ثروتها ويجعل الأمم والدول في حاجة إليها، وأن ينفع نفسه من طريق نفع قومه، وهو لم يتجاوز بذلك حدود عمله، ولم يدفعه الغرور إلى الاشتغال بما لا يعد من أهله، أفيعجز كل فرد من أفراد المتعلمين أن يكون له مثل هذه النية الحسنة، والهمة العالية؟ أيها الطلبة النجباء: إن شعوب البشر متقاربة في الاستعداد للكمال الإنساني، وإننا معاشر الشرقيين عامة، والمسلمين خاصة، ما سبقنا الأمم التي نراها الآن أعلى منا إلى العلوم والحضارة؛ لأن استعدادنا الفطري دون استعدادها، فعليكم أن تفكروا دائمًا في استعدادكم، وأن تستعملوه في طلب الكمال لأنفسكم وأمتكم، وأنتم قادرون على ذلك. ولم أر في عيوب الناس عيبًا ... كنقص القادرين على التمام واعلموا أن قيمة الذي يتعلم لأجل أن ينال قوتًا مضمونًا من الحكومة أو من غير الحكومة لا تكون إلا بقدر جثته التي يسعى لتغذيتها، وإنها لقيمة قليلة لا يفضل بها الثور ولا الحمار الذي يأكل أضعاف ما يأكل الإنسان، ولا يتألم كما يتألم الإنسان ومن تعلو به همته فيطلب أن يكون وجوده أوسع من محيط جسمه فإنه ينال ما يطلب، فإذا هو قام بنفع بلده كان وجوده بقدر بلده بحيث يكون ذكره مالئًًا له، وإذا هو قام بخدمة أمته كلها، بعمل نافع يعمله لها، فإن وجوده المعنوي يكون واسعًا بقدر سعة أمته كلها، بعمل نافع يعمله لها، فإن وجوده المعنوي يكون واسعًا بقدر سعة أمته كلها، لا يجهل ذلك قطر من أقطارها، وإذا هو استطاع ِأن ينفع جميع البشر فليفعل، فإن وجوده يكون بقدر العالم الذي انتفع به، وأمثال هؤلاء الرجال هم الذين يوزن الواحد منهم بأمة، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} (النحل: ١٢٠) , وقال في عباد له أعدهم لنفع الأمم: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ} (القصص: ٥) , وعلمنا أن ندعوه بقوله: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} (الفرقان: ٧٤) فعيكم أن تربوا أنفسكم على علو الهمة وخدمة الأمة لتكونوا من الأمة. إن الإنسان لا يكون قدوة في الخير نافعًا للناس إلا إذا كان فاضلاً كريم الأخلاق، وإن مساوي الأخلاق تشين العالم، أكثر مما يَشين الجهل رب الأخلاق الكرائم، ولا يفسد الأمم شيء كفساد أخلاق علمائها وحكامها وزعمائها، فإذا قصرتم في تربية ملكة الفضيلة في أنفسكم، فإنكم تضرون أكثر مما تنفعون بعلمكم، أما الطريق الذي ينبغي أن يسير عليه المرء في تربية نفسه فهو أن يلتزم الأعمال التي تطبع ملكتها في النفس ويتكلفها ويواظب عليها، ولا يتساهل في كبير ولا صغير منها، وأن يجعل له مراقبًا من إخوانه يذكره إذا نسي، ويلومه إذا تساهل، وأذكر لكم على سبيل المثال ما جربته بنفسي: قلت لرفيق لي في طلب العلم: إذا قدرت أن تحفظ عليَّ كذبة واحدة فلك حكمك في الجزاء عليها، قلت له هذا وما أنا بآمن على نفسي من فلتات اللسان، ونزغات الشيطان، وإنما أردت أن يكون ذلك حاملاً لي على شدة الاحتراس من الكذب الذي هو شر الرذائل وأشدها ضررًا، وأحمد الله أنه لم يستطع أن يحفظ في السنين الطوال التي عاشرني فيها كذبة ما، وما أبرئ نفسي ولا أزكيها بهذا، وإنما أريد أن أذكركم أيها الإخوة النجباء بما جربته واستفدت منه لعلكم تعتبرون. *** الفضيلة والتربية الدينية لا فضيلة إلا بالدين فمن لم يتربَّ تربية دينية لا يكون على شيء يُعتدُّ به من مكارم الأخلاق، وقد ينشأ بعض الناس على الفضائل والآداب الدينية , ثم يعرض له الشك في دينه أو الجحود في الكبر، ولكنه إذا استطاع التفلت من جميع عقائده، لا يستطيع التفليت من جميع فضائله، وقد يغتر هو بنفسه أو يغرُّ غيره بما بقي له من آثار صبغة الدين , فيقولون: إن الكفر قد اتفق مع الفضيلة، ويغفلون عما يحدثه له هذا الكفر من أنواع الرذيلة، وقد يسمون بعض الرذائل بأسماء الفضائل أو يعدونها منها. يوجد أفراد من الملاحدة في البلاد الغربية يزعمون أنه يمكن أن يستغنى في تربية النفس عن الدين، بأن يقام بناء الفضيلة على أساس العلم والعقل، بأن يقنع المربي من يربيه بأن الرذائل ضارة بفاعلها، أو بالهيئة الاجتماعية التي يعيش فيها، وأن الفضائل دعائم المصالح والمنافع، كأن يقال له: إن الكذب قبيح متى عرف به امرؤ بطلت الثقة به، ومن لا يوثق به تفوته منافع كثيرة، ويكون محتقرًا في أنفس الناس، ويقال له نحو هذا في مدح الأمانة والترغيب فيها، ويرون أن هذا النحو من التربية أفضل وأنفع من التربية الدينية التي أساسها عندهم التخويف من عقاب الآخرة، وقد سمعنا بعض مقلدتهم من المتفرنجين يلوكون أمثال هذه الكلمات ويتشدقون بها , ويرون أنهم ينطقون بالحكمة، ويرفعون قواعد الفلسفة. كان سبب حدوث هذه الأفكار في أوربة ما سبق من ضغط رجال النصرانية في القرون الخالية على رجال العلم وأحرار الفكر؛ إذ كانوا يقتلونهم تقتيلاً، ويحرقونهم بالنار أحياء، فكان من مقتضى سنة ردَّ الفعل أن يغلو أحرار الفكر من المارقين من النصرانية في ذم الدين والتنفير عنه، وقد وجدوا في كتب ذلك الدين وتقاليده وسيرة بعض رؤسائه مجالاً واسعًا للطعن والتنفير، ومع هذا كله لا يزال السواد الأعظم من الشعوب الإفرنجية كلها يربون أولادهم من النشأة الأولى على آداب الدين وفضائله , ولا سيما الإنكليز والجرمانيين منهم، ويخصون الإناث بمزيد العناية في التربية الدينية؛ لأنهن هن اللواتي يربين الأولاد في الطور الأول من حياتهم، ويؤثر عن الفيلسوف سبنسر - أكبر علماء الاجتماع والتربية في هذا العصر - أنه قال ما معناه: إن بعض الناس يريدون تحويل تربية الفضيلة عن أساس الدين إلى أساس العلم، وإذا وقع هذا بالفعل يقع به الناس في فوضى أدبية لا يعلم أحد عاقبتها [١] . ما لنا ولكلام الناس وأفعالهم، إننا نعلم بالنظر والاختبار أن إقناع جميع طبقات الناس بنفع الفضائل وضرر الرذائل وحملهم على العمل المطرد في ذلك مما لا سبيل إليه، ولا مطمع فيه، فالولدان لا يعقلونه، وبُلداء العوام وجماهير الشعوب الهمجية لا يقتنعون به، وأكثر الأذكياء يجعلون أنفسهم معيار المنافع والمضار، فيؤثرون ما ينفعهم وإن أضر بغيرهم، ويطبقون ذلك على قانون فضيلة المنافع بالتأويل، فإذا قدر الواحد منهم على أكل مال غيره بالباطل أو خيانته في عِرْضه وأمن اطلاع الناس عليه خان في المال والعرض، وأوَّل ذلك في نفسه بأنه هو أحق بالمال وأجدر به؛ لأنه يضعه في مصارفه التي هي أنفع للناس وله، ويزعم أن صاحب المال لا يقدر على أن يأتي بمثل نفعه وعمله، ولا يأبى أن يقول: إن الخيانة في العرض لا ضرر فيها، لأنه يفسر الفضائل والرذائل بحسب الشهوة والهوى، وقد صرح أمامي من يعدّ في الطبقة العليا من حرية الفكر بأن أكل مال الناس بالباطل - أي بدون مقابل ولا تراضٍ - يعد من الفضيلة، إذا كان سارقه أو ناهبه أو الخائن فيه ينفقه فيما يراه أنفع للهيئة الاجتماعية مما ينفقه فيه صاحب المال، ولا يخفى على عاقل أن الناس يختلفون اختلافًا كبيرًا في النافع والأنفع وضدهما، فما يراه بعضهم نافعًا يستحق الشكر قد يراه بعضهم ضارًا يستحق فاعله القتل، فإذا لم يكن لهم دين يحكم كتابه بين الناس فيما إختلفوا فيه، وجروا على استباحة كل منهم ما يرى أنه ينفع به ما لا ينفع غيره، ألا يكونون في فوضى وخيانة تفسد عليهم أمرهم، حتى يأذن الله بهلاكهم؟ يقول غوستاف لوبون في كتابه (روح الاجتماع) : إن بعض القضاة عندهم في (فرنسة) أحصى عدد المجرمين الذين حكمت عليهم محكمة الجنايات , فكان ثلاثة أرباعهم من المتخرجين في المدارس العالية والربع من عوام الناس، ونحن نعلم أن الذين لا يجرمون من هؤلاء المتعلمين الماديين لا يصدهم عن الإجرام والجناية الفضيلة , وإنما يصد بعضهم خوف الفضيحة أو عقاب الحكومة إذا ظهرت الجناية، وبعضهم اشتغاله بعمل يصرف عنها، وعن الشعور بالحاجة إليها، وبعضهم تأثير التربية الدينية الأولى، ولا يكاد يتعفف عن الرذيلة أحد تدفعه شهوته إليها وتقربه أسبابها منها، إلا المتدين الذي يراقب الله تعالى ويخشاه، أو الفيلسوف العالي النفس إذا ثبت عنده أنها رذيلة، وإلا فإننا نرى سيرة كثير من الفلاسفة ملوثة بالرذائل الكثيرة، وهذا من معنى قولنا: إن الفضيلة القائمة على قواعد الدين تكون عامة ينتفع بها جميع طبقات البشر في بداوتهم وحضارتهم بقدر حظهم منها، وأما الفضيلة العقلية النفعية المحضة فلا تكون إلا خاصة ببعض أفرادهم الممتازين، على ما يعرض فيها من سوء التأويل. أضرب لكم مثلاً رجلاً فقيرًا بائسًا من بلدنا (القلمون) يكنى (أبا حطب كان يحمل الخضر والفاكهة على ظهره ويصعد من بساتين القلمون أو طرابلس الشام إلى جبل لبنان , ينتقل بها من قرية إلى قرية؛ ليبيعها ويأكل من ربحها، شب وشاب على ذلك , هذا الرجل البائس وَجد مرة في شارع من شوارع ميناء طرابلس خالٍ من الناس كيسًا كبيرًا مملوءًا بالنقود الذهبية (الليرات) فتناوله ووضعه في سلة الخضر التي يحملها على ظهره , وبقي يسير الهوينا على عادته إلى أن رأى في الطريق رجلاً روميًّا ملهوفًا يعدُو ويصيح (خرب بيتي) فعرف الرجل المسكين بالقرينة أنه صاحب الكيس فناداه - وهو لا يلتفت إليه - فقال: (يا خواجة تعالَ يا خواجة) فأقبل عليه الرومي فسأله ماذا ضاع لك؟ قال: كيس من الذهب فيه كذا من الليرات، فأخرج له الكيس وقال: أهذا كيسك؟ قال: نعم نعم , قال: خذه، فأخذه الرومي ولم يعطه شيئًا، فسأله بعض الناس: لماذا أعطيت هذا الرومي الخبيث الكيس وهو لم يعلم أنه كان معك، ولو أخذته لأغناك عن بيع الخضر طول عمرك؟ فقال: إذا كان هو لم يعلم أنني أخذت الكيس فإن الله علم بذلك وهومطلع عليَّ. هذا ما فعله البائس الفقير (أبوحطب) بوازع الدين وهو مطمئن القلب منشرح الصدر، أفرأيتم لو كان قد تلقى من بعض الفلاسفة الماديين أنه لا إله ولا دين ولا حياة للناس بعد هذه الحياة , وأن الأمانة واجبة عقلاً؛ لأن الهيئة الاجتماعية لا تصلح بدونها، أكان يعطي الكيس لذلك الرومي؟ وأكثر هؤلاء الأروام عندنا أشرار شرسون لا يحبهم الناس ولا يرجون منهم خيرًا؟ لا والله، بل لو وجده بعض القضاة الماديين الذين عهد إليهم إقامة ميزان العدل والحق لأكلوه فرحين مستبشرين. أكتفي بهذا البيان الوجيز في إثبات كون تربية النفس على الفضيلة لا تتم إلا بالدين، وكون كل دين من الأديان أعون عليها من تلك الفلسفة الناقصة، التي لا يمكن أن تكون عامة، وإن كانت الخرافات والتقاليد الوثنية في أكثر الأديان تنافي كثيرًا من الفضائل، وتكون مثارًا لكثير من الرذائل. *** الفضيلة في الإسلام وقاعدة درء المفاسد وجلب المصالح أيها الأساتذة والطلاب الكرام: إن عذر من قال من علماء الإفرنج بالرغبة عن التربية الدينية إلى التربية العلمية هو أنهم وجدوا في الدين الذي نشأوا فيه وسائر الأديان التي عرفوها خرافات كثيرة , تضل العقل وتحول بين البشر وبين كمال الانتفاع بمواهبهم وما سخره الله لهم من الكون، وتفسر وجدانهم على قبول ما يضرهم ولا ينفعهم، ولو عرف هؤلاء العلماء حقيقة الدين الإسلامي من كتاب الله تعالى وسنة رسوله التي جرى عليها لما قالوا ذلك القول ولما ذهبوا إلى ذلك المذهب على الإطلاق. لو عرفوا الإسلام من كتابه وسنته - لا من سيرة أهله في هذه الأزمنة - لوجدوا في أصوله كل ما يرونه نافعًا من تربية النشء على اجتناب الرذائل والمفاسد لضررها، والتزام الفضائل ومراعاة المصالح لنفعها، فإن بناء الأحكام والأعمال على قاعدة درء المفاسد والمضار وجلب المنافع ومراعاة المصالح، من القواعد الإسلامية المتفق عليها، ومن أصول ديننا أن الله غني عن العالمين رحيم بهم , فما حرم عليهم شيئًا إلا لأنه ضارّ بهم، ولا أوجب عليهم شيئًا إلا لأنه نافع لهم {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} (البقرة: ١٨٥) وقال تعالى فيمن آمن من أهل الكتاب: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: ١٥٧) , وأن المعروف هو ما عرفته العقول القويمة، والطباع السليمة والمنكر ما أنكرته، والطيب ما يطيب للناس لنفعه ولذته والخبيث ضده، وقد ضبط بعض علمائنا أشتات المنافع بخمس كليات وهي: ١- حفظ الدين. ٢- وحفظ النفس (أي حفظ ذوات الناس أن يعتدى عليهم بالقتل أو الإيذاء) . ٣- وحفظ العقل. ٤- وحفظ العِرْض. ٥- وحفظ المال. إن القرآن الحكيم قد قرن فريضة العبادات المحضة ببيان منافعها فقال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ} (العنكبوت: ٤٥) أي أن الذي يقيم الصلاة على وجهها المطلوب تعلو نفسه وتزكو بمناجاة الله وذكره وتلاوة حكم القرآن وعبره، وتصير مراقبته تعالى ملكة له، حتى تنفر نفسه من الفواحش والمنكرات، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (البقرة: ١٨٣) , فبين أن الصيام يقصد به تربية ملكة التقوى , وهي أن يملك الإنسان نفسه وهواه فيسهل عليه اتقاء ما يضره ويشينه في دينه ودنياه، وذلك أن من تعود ترك الشهوات التي لا يستغني عنها لحفظ شخصه وحفظ نوعه وهي الأغذية والوقاع يكون أقدر على منع نفسه عن غيرها من الشهوات والأهواء الضارة غير الضرورية، ومما جاء فيه عن الحج قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} (الحج: ٢٨) إلخ؛ وأما الآيات في فوائد الزكاة , وبذل المال في سبيل الله - وهي سبيل الحق والخير - فكثيرة , فإذا كان هذا الكتاب الحكيم يعلل أمهات العبادات ببيان منافعها وفوائدها فهل يأبى أن تعلل الأحكام الدنيوية والآداب الاجتماعية بالمنافع والفوائد؟ كلا إنه أرشدنا إليها بمثل قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (فصلت: ٣٤) , ومثل قوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} (البقرة: ٢٥١) . أيها الإخوة الكرام: لا يمكنني في هذا الوقت القصير أن أطيل الشواهد على موافقة أصول الإسلام وفروعه للعقل والفطرة البشرية ومصالح الناس ومنافعهم , وإنما أقول: إنني مستعد لإقامة الحجة على كل من يدعي خلاف ذلك فمن عرضت له شبهة فيه فليوردها عليَّ في حال القرب، وليكتبها إليَّ في حال البُعد، وأنا زعيم إن شاء الله بكشفها وإقناعه فيها , إذا كان طالبًا للحقيقة بالإخلاص , وقد جربت هذا مع كثير من الشرقيين والغربيين. كان لي صاحب في مصر من أحرار الإنكليز اسمه متشل أنس كان وكيلاً لنظارة المالية، وقد جرى بيننا مذاكرات كثيرة في المسائل الدينية وغيرها , وكان كثيرًا ما يعترض على بعض المسائل الدينية في الإسلام أو في كل دين , وكنت إذا بينت له حقيقة الإسلام فيها يتعجب ويقول لي تارةً: (هذه فلسفة لا دين) وتارةً: (هذا رأيك وفلسفتك ما هو الإسلام) وقال لي مرة: (إذا كان هذا هو الإسلام فأنا مسلم) ومرة أخرى: (إما أن أكون أنا مسلمًا وإما أن تكون أنت كافرًا) ومرة ثالثة: (ما أسمع مثل هذا الكلام المعقول عن الإسلام إلا منك أو من الشيخ محمد عبده أفلا يوجد مسلمون غيركما) ومرة رابعة: (أرأيت إذا سألت عن هذا بعض علماء الأزهر أيقول هذا الذي قلته؟ إذا قال هذا علماء الأزهر فأنا أكون مسلمًا) . إنني بهذه التجارب وبما أعلم من حقيقة الإسلام وموافقته لفطرة البشر ومصالحهم ومن حاجهم إلى الدين بمقتضى فطرتهم، وبما في القرآن من الوعود الصادقة - بهذا كله أعتقد أن الإسلام سينتشر في جميع الأمم الغربية والشرقية، وما حجب أمم الحضارة عن محاسن الإسلام إلا سوء حال المسلمين والجهل بحقيقته وتنفير دعاة الدين ورجال السياسة عنه وعنه أهله. إننا نحن المسلمين قد صرنا حجة على ديننا بما فشا فينا من البدع والخرافات ولو كنا مستمسكين بعروته، محافظين عل سنته، لعم الخافقيْن، فإن انتشاره السريع في العصر الأول لم يكن إلا بحسن حال أهله وفضائلهم وأعمالهم كما أشرنا إلى ذلك في الكلام على نشأة الإسلام , وفصلناه بعض التفصيل في خطبتنا الختامية لاحتفال جمعية ندوة العلماء، وقد وصلنا إلى دركة من الانحطاط صار فيها الوثنيون في هذه البلاد أرقى من المسلمين علمًا وعملاً واتحادًا، هؤلاء الذين لا يزال الملايين منهم يسيرون في الأسواق والشوارع مكشوفي العورات، عراة الأجسام، حفاة الأقدام، موسومي الجباه بأصباغ الأصنام، بل صار هؤلاء الذين يعبدون الأحجار والأنهار والأشجار والقرود يطمعون في إدخال المسلمين في دينهم، وقد صاروا يتصدون إلى دعوتهم، وقد بلغني هنا أنه دخل في دينهم طائفة ممن يعدون من المسلمين، وإن لم يكونوا منهم إلا في الأحكام الرسمية، والإحصاءات الجغرافية، ولا يوجد شعب إسلامي محتاج في حياته السياسية والاجتماعية إلى الدين كاحتياج مسلمي الهند، فإنهم إذا أحيوا الإسلام فيما بينهم تعود كثرة الوثنيين إلى قلة وقلة المسلمين إلى كثرة (وإنما العزة للكاثر) كما قال الشاعر العربي. هذا وإنه لا حياة للإسلام، إلا بإحياء هداية القرآن، ولا تحيا هداية القرآن إلا بإحياء اللغة العربية، ومن حسن حظكم أن حكومتكم راغبة في إحياء لغة دينكم، فإذا قصرتم فيها فلا عذر لكم، عليكم أن تحيوها في هذه المدرسة التي هي أكبر المدارس الإسلامية في الهند، عليكم أن تتعلموها كما تتعلمون اللغة الإنكليزية بالتكلم والقراءة والكتابة، إذا كنتم محتاجين إلى اللغة الإنكليزية لأجل دنياكم، فأنتم محتاجون إلى اللغة العربية لأجل دينكم ودنياكم، فالحياة الصورية المادية، لا تقوم وتثبت وتنمَّى إلا بالحياة الأدبية المعنوية، وإلا فإن الوثنيين قد سبقوكم في جميع العلوم والأعمال الدنيوية، وهم أكثر منكم عددًا، وأوفر مددًا، فلم يبق أمامكم إلا قوة دينكم، تبلغون بها ما تريدون في دنياكم وآخرتكم؛ لأنها قوة الحق والخير وهي أكبر قوة في الكون. *** العزيمة وتربية الإرادة أشرت في سابق كلامي إلى ما يجب من تربية الإرادة، وإحكام ملكة العزيمة، وهذا النوع من التربية هو العزيز النادر الذي يقل فينا من يفكر فيه، وفي الحاجة الشديدة إليه، وقد رأيتني مضطرًا إلى التنويه بعد تذكير الطلبة النجباء بالواجبات التي تطالبهم بها أمتهم وملتهم، فإن ضعيف الإرادة يستكبر هذه الواجبات، حتى يعدها من المحال، الذي لا يدرك ولا ينال، وأما قوي الإرادة فإنه يراها من أقرب الأمور منالاً , وأسهلها طريقًا، وهو لا يأبى ركوب الصعاب، واقتحام العقاب، في المهامِه الطامسة الأعلام، البعيدة الأرجاء، إذا ظن أنه يدرك بها الأمل وينال الرجاء. أيها الطلبة النجباء: لا يتفاضل الناس في شيء تظهر به مزاياهم كتفاضلهم في قوة الإرادة، وما آتى الله الإنسان قوة يعلو بها شأنه، ويظهر بها استعداده كقوة الإرادة، بقوة الإرادة تصرف الإنسان في الطبيعة، وسخر لمنافعه أنواع الخليقة، وعمل بعض أفراده من الأعمال ما لا تعمله الأمم في الأجيال، وقد عبر بعض كبار الصوفية عن سرِّ الله الأعظم في إرادة الإنسان بكلمة كبيرة جدًّا , قد يستنكر ظاهرها , ويعد إساءة أدب مع البارئ عز وجل , ولكن هذا إن عد من لوازم الكلمة فهو ليس مرادًا لمن قالها , تلك الكلمة الكبيرة هي قوله: (إن لله عباد [٢] إذا أرادوا أراد) يعني: إن أصحاب الإرادة إذا جزموا إرادتهم بأن كذا لا بد أن يكون , فإن ذلك يكون سببًا كافيًا لأن يكون وتتعلق إرادة الله تعالى به بحسب سنته في خلقه، فكأن إرادتهم شعبة من الإرادة الإلهية، أولئك أصحاب العزائم الذين تشهد لهم أعمالهم العظيمة ولا شهادة أبلغ من شهادة الأعمال. أيها الشبان النجباء: اعلموا أن من فقد إرادته فقد نفسه، وكان آلة في يد غيره أو تابعًا لهوى نفسه ، ولا يمكن أن يكون رجلاً عظيمًا، ربوا إرادتكم بحملها على ترك الهوى الباطل، وتعويدها حمل المكاره في سبيل الحق والخير، لتكونوا مالكين لأنفسكم لا مملوكين لها، ومن كان عاجزًا عن التصرف في نفسه، فهو جدير بأن يكون أعجز عن غيره، ضعيف الإرادة لا يكون إلا نذلاً جبانًا، والجبان لا يكون إلا خائنًا أو منافقًا، فعليكم بالشجاعة والعزيمة والنجدة وعلو الهمة، فبغير هذه الصفات لا تظهر مزايا الإنسانية فيكم. لا تهولنكم الواجبات التي تطلبها الأمة منكم , فإن الإرادة الصادقة لا يقف أمامها شيء، الإرادة الصادقة أعظم قوة خلقها الله في هذه الأرض، فلا تغفلوا عن تربيتها في أنفسكم والاستفادة منها في بلادكم، وقل من صدقت إرادته في طلب شيء ولم ينله، اللهم إذا طلبه من أسبابه، ودخل عليه من بابه، إن مدرستكم هذه شاهد من أصدق الشواهد على صحة ما أقول، فأنتم تعلمون أن مؤسسها السيد أحمد خان - رحمه الله تعالى - قد صادف في سبيلها المصاعب، واحتمل المتاعب، ولولا قوة إرادته وثباته لقضي عليها في طفوليتها، فهو بما كان عنده من العزيمة والثبات قد غالب المصاعب وصارعها، حتى غلبها وصرعها، ووصلت المدرسة إلى الدرجة التي ترونها من السعة والعظمة ويرجى لها المزيد، فهل كان يخطر مثل هذا في بال أحد من الجبناء أصحاب الإرادة المريضة في طور تأسيس هذه المدرسة؟ ولو قصد السيد أحمد خان ما هو أعلى من ذلك وأعم فائدة لناله بقوة الإرادة، وقد علمتم أن المدرسة أنشئت لغرض لا بد للمسلمين في الهند منه فكانت الطريق الموصل إليه، وأن هذا الغرض ليس هو كل المطلوب لأمة مثل أمتكم هي في بلادكم على خطر اجتماعي واقتصادي بسبق الوثنيين لكم في العلم والثروة والاتحاد على كثرتهم وقلتكم. إنني كررت النذر ورددت الذكرى عسى أن تسمو بأصحاب الاستعداد همتهم إلى تربية أنفسهم، وإعدادها لخدمة أمتهم وملتهم، وعدم الرضا لها بالضعة والخمول، والقناعة بترفيه هذا الجسد الحيواني باللباس والقوت، كونوا قدوة صالحة لأمتكم بالفضيلة والتقوى والمحافظة على شعائر الدين وفرائضه، كونوا مستقلين في عقولكم وأفكاركم، مستقلين في إرادتكم، بحيث لا تخافون في سبيل الحق والمصلحة لومة لائم، وإياكم والتقاليد والبدع الغريبة التي تبعد أهل ملتكم عنكم وتبعدكم عنها، كونوا جامعين لا مفرقين، كونوا مرغبين للأمة في العلوم العصرية التي تنمي الثروة، وترقي جميع مرافق البشر ومنافعهم، ولا تكونوا بسيرتكم الشخصية منفرين لهم منها، إن المسلمين في بلادكم انقسموا في كل بلاد دخل فيها التعليم الأوربي إلى ثلاثة أقسام: قسم فتن بالجديد ممقت كل القديم، وقسم جمد على القديم فهو ينفر من كل جديد، وقسم معتدل بينهما، يأمر بالمحافظة على القديم النافع وترك الضار منه بالتدريج، وإضافة ما لا بد منه من الجديد بشرط حفظ مقومات الأمة ومشخصاتها والحذر من فنائها في غيرها، فكونوا من المعتدلين الجامعين , فأنتم في قومكم أعرف من غيركم بالحاجة إلى هذا الجمع، وخطر الخلاف والتفرق، وأمامكم الأمة الإنكليزية في سيرتها وأخلاقها عبرة لكم لا تضاهيها عبرة، إنها لا تترك شيئًا من عاداتها ولا تقاليدها ولو إلى أحسن منه إلا إذا اضطرت إليه , فإنها تأتيه بالتدريج وإلا أصرت عليه كما تصر على مقاييسها ومكاييلها , ولا تتركها إلى المقاييس والمكاييل التي هي خير منها، والعاقل من اعتبر بغيره والله الموفق وإياه أسأل أن يتم النفع بكم لأمتكم إنه سميع مجيب.