للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


صلاة الظهر بعد الجمعة
والخلاف في الدين

(س٢٠) ومنه: هل يجوز لأحد أن ينهى أهل بلدتنا (سنغافورة) وأشباهها
كما حدث الآن عن إعادة الظهر بعد الجمعة أم لا يجوز؟ لأنهم يعتقدون أنها سنة
متمسكين بقول العلامة ابن حجر الهيتمي في الجمعة من الإيعاب بعد كلام قرره فيه:
وعلى كل فالاحتياط لمن صلى جمعة ببلد تعددت فيه لحاجة ولم يعلم سبق جمعته
للكل أن يعيدوها ظهرًا خروجًا من هذا الخلاف ... إلخ، ولأنه أي النهي يوقعهم في
محظورات منها وقوعهم في أعراض أهل العلم الذين أمروهم بإعادتها وأعادوها
بأنفسهم في تلك البلدة وغِيبتهم كبيرة بالإجماع، ومنها مفاسد آخر كالنزاع والشقاق
المتولد بين أهل تلك البلدة بسبب الطعن في علمائهم المتقدمين وغير ذلك فيكون هذا
الرجل سببًا لذلك، نعوذ بالله من غضبه.
(ج) تعلمون أن الخلاف واقع بين علماء الشافعية بعضهم مع بعض وبين
علماء سائر المذاهب، كما وقع بين الأئمة ومن فوق الأئمة من علماء الصحابة -
رضي الله عن الجميع - ولا شك أن كل من ذهب إلى شيء فهو يرى مخالفه فيه
مخطئًا، ومن كان غير معصوم فهو عرضة للخطأ، وقد نقل عن الصحابة والأئمة
أنهم أخطأوا في مسائل ثم ظهر لهم الصواب فرجعوا إليه، ومنها ما هو أهم في الدين
من إعادة الظهر بعد الجمعة احتياطًا أو غير احتياط فإذا كان هذا سببًا للوقوع في
أعراضهم فمن يسلم لنا. قالوا: إن ابن عباس رجع في آخر حياته عن القول بجواز
المتعة فهل كان هذا سببًا للوقوع في عرضه ممن كانوا سمعوا منه الفتوى بالجواز
وعملوا بها؟ هل كان أهل العراق يقعون في عرض الإمام الشافعي؛ لأنه يرجع عن
مذهبه القديم بعدما عاد إلى مصر. كلا إن هذا من عمل السفهاء، وما كان لأهل العلم
أن يحفلوا بقدح هؤلاء السفهاء، ولا بمدحهم فيتركوا بيان العلم والدين لأجلهم، وهذه
سنة الله تعالى في أهل البغي والشقاق. يظهر تفرقهم وخلافهم بعد ظهور الحق {وَمَا
تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (الشورى: ١٤) {وَمَا تَفَرَّقَ الَذينَ
أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَةُ} (البينة: ٤) {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ
أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
مِنَ الحَقِّ بِإِذْنِهِ} (البقرة: ٢١٣) فعلى المؤمن بل من خواص المؤمن أن يأخذ
بالحق متى ظهر له ويرشد إليه متى عرفه لا يخاف فيه لوم لائم ولا خوض آثم وإذا
كان قد سبق له عمل بخلافه عن خطأ في الاجتهاد فهو مثاب على نيته وإن كان قد
أمره بذلك عالم فذلك العالم أيضًا مثاب إن كان قد تحرى الحق بقدر طاقته وهو
يستحق الدعاء والثناء لا السب والطعن.
وإذا حاسب السائل نفسه ورجع إلى وجدانه يتبين له أن الذي أكبر هذه المسألة
في نفسه وفي نفوس الكثيرين من أهل سنغافورة وجاوه هو تعودهم صلاة الظهر بعد
الجمعة، فالأمر من قبيل حكم سلطان العادة الذي ذكرناه في جواب السؤال السابق،
وإلا فلو كان المسلمون يهتمون كل هذا الاهتمام بكل مسألة حتى ما قاله بعض الفقهاء
المتأخرين: إنها من الاحتياط؛ لكان اهتمامهم بما أجمعت عليه الأمة من المحرمات،
والمكروهات والواجبات والمندوبات أعظم وأشد وأين هم من ذلك؟ فو الذي
أحيا سلفهم بإتباع الحق حيث كان، والاعتصام به بقدر الإمكان، وأماتهم بابتداع
البدع، والتفرق في الدين إلى شِيَع، لو أنهم كانوا يعلمون بما أجمعت عليه الأمة؛
لكانوا في هذا العالم هم السادة الأئمة، ولكانت الأمم التي أزالت ملكهم وورثت
عزهم، تابعة لهم خاضعة لأمرهم {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (النساء: ١٤١) {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي
الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} (النور: ٥٥) الآية.
هذا هو رأينا في الخلاف في هذه المسألة الاحتياطية التي كبرت عند بعض
أهل سنغافورة وجاوه، حتى عدها بعض أهل الهوى والجهل منهم فتنة من فتن
المنار الذي بيَّن حكم الله فيها؛ إذ كتب واحد أو اثنان منهم لأمثالهم من أصحاب
الجرائد الذين لا يصلون ظهرًا ولا عصرًا، ولا يفهمون كتابًا وسنة، يستفتحون بهم
على المنار ويطلبون منهم الرد عليه أو تحريض العلماء على ذلك، والمنار يطلب
في كل عام غير مرة من كل عالم يرى فيه شيئًا مخالفًا للكتاب والسنة أن يكتب به
إليه. وقد زعم الكاتبان أن المنار هو الذي فرَّق بين الناس في الدين وجرَّأهم على
سب الأئمة والسلف، والمنار هو الداعي لإزالة الخلاف بالاعتصام بالكتاب والسنة
والاقتداء بالسلف ولا نعرف داعيًا إلى ذلك بالقول والكتابة والنشر غيره ففي أي جزء
وفي آية صحيفة منه تكلم في السلف والأئمة؟ {إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاقٌ} (ص: ٧)
يُعرف منه أن المشاغبين في مسألة صلاة الظهر بعد الجمعة لا يتبعون إلا الهوى؛
فإن الكذب والبهتان والغيبة لا سيما لخدمة الدين وأهل البيت النبوي من أكبر
المحرمات بإجماع المسلمين، وأما صلاة الظهر بعد الجمعة فهي مسألة خلافية بينَّا
الحق فيها من قبل. فهل من الاحتياط الذي قاله ابن حجر أن يكذبوا ويغتابوا
ويخوضوا في أعراض العلماء ويلصقوا ذلك بغيرهم.
قد أطلت القول في هذه المسألة؛ لأن الناس قد اهتموا بها عندكم أكثر مما
تستحق، وهؤلاء أهل مصر أكثرهم شافعية ولم يهتموا لها بعض الاهتمام وهذه سنة
الله في الخلق يهتم الناس على قدر جهلهم بالأمور التي لا يترتب عليها نفع ولا ضرر
ويتركون عظائم الأمور ولا يبالون بها أرأيت أيها الأخ السائل أيهتم
قومك بالإنكار على تارك الصلاة أو مانع الزكاة كما يهتمون بمن يصلي الظهر بعد الجمعة احتياطًا ويتركها لاعتقاد أنه لم يكلف بها وفاقًا لأكثر المسلمين؟ إذا كان
هؤلاء قد تركوا كل ما حرَّمه وكرهه الدين وقاموا بكل ما قدروا عليه من أحكام الدين
فرائضه وسننه وآدابه لأنفسهم ولأمتهم فلهم الحق في الاهتمام بهذه المسألة، وإنني
أعتقد حينئذ أنهم يكونون سعداء مرضيين عند الله صلوا الظهر بعد الجمعة، أم لم
يصلوها، وإن كانوا قد قصروا في شيء من الفرائض والسنن المتفق عليها أو
يرتكبون شيئًا من المحرمات التي لا خلاف فيها فزعمهم الاهتمام والعناية بالدين؛
لأجل مسألة خلافية لم يقل بها إلا الأقلون من المسلمين زعم باطل لا سبب له إلا
التمسك بالعادة والتعصب على المخالف بغيًا وانتصارًا للنفس.
والخلاصة: أن من اعتقد أن شيئًا غير مشروع فعليه أو فله أن يبينه للناس
غير مُبَالٍ بِلَغَط اللاغطين، واختلاف الجاهلين، والله ولي المتقين.
أما سؤالكم في سماع الدعوى في بيع الرهن؛ فليس من موضوع المنار البحث
في الأحكام القضائية غير الدينية، وظاهر أن الدعوى لا تسمع ممن سكت عنها المدة
التي حددها الإمام أو نائبه.