التقى أحد التجار الأذكياء بصديق له من أهل العلم والوقوف على السياسة وأحوال الزمان؛ وكلاهما من العثمانيين، ودار بينهما الحديث الآتي: التاجر: نرى الجرائد وقد شغلت الناس بكلمتين ما كنا نسمعهما قبل هذا العهد، وهما: كلمة المركزية وكلمة اللامركزية، ونرى الناس قد اختلفوا فيهما اختلافًا كبيرًا؛ فمنهم من يقول: سعادة الأمة وحياة الدولة لا يسلمان إلا بالمركزية، ومنهم من يقول بالعكس، ولما كنت واثقًا بمعرفتك وصدقك أيها الأستاذ وبإخلاصك للدولة عولت عليك في كشف الحقيقة، فأسألك أولاً: ما هي المركزية واللامركزية؟ الأستاذ: المركزية عبارة عن كون رجال الحكومة العليا في عاصمة المملكة يتولون بأنفسهم أمر سياستها الخارجية وإدارتها الداخلية، فيكون بيدهم الحل والعقد، والدخل والخرج، والنصب والعزل. وعدم المركزية عبارة عن جعل الإدارة الداخلية لكل ولاية أو قطر من المملكة الواحدة في أيدي أهل تلك الولاية، وتكون رابطتهم بمركز الحكومة العام في الأمور العامة كلها كالسياسة الخارجية والحربية ومصلحتي البريد والبرق. التاجر: هل الممالك الأوربية والأمريكية من نوع المركزية أم من نوع اللامركزية؟ الأستاذ: بعضها من هذا النوع وبعضها من النوع الآخر؛ فجمهورية فرنسة مركزية وجمهوريتا سويسرة والولايات المتحدة لا مركزية، وكذلك إمبراطوريتا ألمانية والنمسة. التاجر: ما هو سبب الاختلاف في نوع إدارة هذه الممالك مع كونها كلها مرتقية في العلم والقوة والسياسة. الأستاذ: أما فرنسة فترى أن الإدارة المركزية تناسبها؛ لأن مملكتها كدار واحدة تسكنها أسرة واحدة. فهي ضيقة المساحة ومتصلة الأرجاء كلها بالسكك الحديدية وأهلها من جنس واحد ودين واحد وينطقون بلغة واحدة، وبقية الممالك المرتقية ليس لها كل هذه الصفات؛ فكان الأصلح لها والأدعى إلى عمرانها ورضاء أهلها واتحادهم وارتباط بعضهم ببعض أن تكون حكومتها من نوع اللامركزية. التاجر: ما هو الأصلح لدولتنا العلية؟ المركزية أم اللامركزية؟ الأستاذ: إن اللامركزية أصلح لها، بل لا صلاح لها بغيرها؛ لأسباب كثيرة إذا أمكن الجدال والمراء في بعضها، فلا يمكن في سائرها، إلا لمن أراد أن يسمي الضلالة هداية والباطل حقًّا. التاجر: تكرم عليَّ ببيان هذه الأسباب أو المهم منها. الأستاذ: إن هذه الأسباب قسمان: قسم منها لبيان كون اللامركزية أسهل طرق العمران وأقوى وسائل الترقي، والقسم الآخر لبيان كونها ضرورية للدولة؛ لا يمكن عمرانها ولا حفظها بدونه، وبحثنا الآن في الأول يعد من ترك الضروري للاشتغال بالكمالي، فيجب أن نبحث أولاً عما يقي بلادنا من الخراب والدمار المشرفة عليهما؛ لا أننا في عمران نبحث عما هو أكمل منه، فالولايات المتحدة الأمريكية كانت باللامركزية في مقدمة ممالك الأرض عمرانًا، ولو اختارت لنفسها الحكومة المركزية لأمكنها بها أيضًا أن تكون عامرة؛ لأنها على سعتها متصلة الأرجاء بالسكك الحديدية، ولها لغة واحدة، وتربى أهلها تربية واحدة أو متشابهة، فأين نحن منها ومن التشبه بها؟ أما الأسباب التي تجعل اللامركزية ضرورية للمملكة العثمانية فأهمها ما يأتي: (١) أن هذه المملكة واسعة المساحة بعيدة الأرجاء، نائية الأنحاء، حتى إن مساحة آسية الصغرى والبلاد العربية تضاهي بمساحتها ممالك الهند التي يعيش فيها أكثر من ثلاثمائة مليون، وهي على سعتها ليس فيها سكك حديدية تربط ولاياتها بالعاصمة التي صارت في الطرف منها، ولا بعضها ببعض، فتوقف أمورها الإدارية والقضائية وغيرها على أمر المركز ونهيه مفسد لها لبطئه، ولأسباب أخرى تعلم مما يأتي، فقد تحدث الحادثة المهمة كالثورة الأهلية والخروج على الحكومة في بعض البلاد، فلا يستطيع المركز العام أن يبدأ بتدارك ذلك إلا بعد عدة شهور، ولا أن ينتهي منه إلا بعد سنين، فأي فساد أشدّ من جعل أمور الأمن والعدل والتعليم والعمران مقيدة بهذا المركز السحيق. (٢) أن أهل هذه المملكة مختلفو اللغات، وأكثرهم لا يعرف لغة أهل المركز العام، ولا أهله يعرفون لغاتهم، وكذا سائر الشعب التركي الحريص على الاستئثار بجميع أنواع السلطة والحكم وإدارة جميع المصالح في جميع هذه البلاد، فإقامة العدل الذي هو الشرط الأول للعمران متعذر من حكام لا يعرفون لغة الذين يحكمون بينهم، وكذلك سائر المصالح؛ لأنها تتوقف على فهم كل فريق من الآخر، ودع عصبية الأجناس التي أثارها الاتحاديون فيهم. (٣) أن أهل هذه المملكة مختلفون في الأديان والمذاهب والعادات والأخلاق اختلافًا كبيرًا بحيث إن أكثر مسلمي العرب كأهل الحجاز واليمن ونجد لا يقبلون أن يُحكم بينهم بالقوانين التي يرضى بها مسلمو الترك، بل يعدون الحكم بها كفرًا يجب قتال الحكومة التي تقرره عند القدرة على ذلك، فإذًا لا يستقيم الأمر بجعل الإدارة والقضاء والتعليم في كل بلاد موافقًا لحالها، وهذا هو أساس اللامركزية. (٤) أن المتخرجين في مدارس عاصمة دولتنا الرسمية الذين هم أصحاب التقدم في وظائفها الشرعية والإدارية والقضائية العدلية - لا يكاد يوجد فيهم أحد يعرف تاريخ جميع شعوب الدولة وأحوالهم الروحية والاجتماعية، فتوسيد الأمر إليهم مدعاة الخلل في الإدارة والظلم في القضاء، زد على هذا أن أكثرهم لا يعرف من لغات هذه الشعوب إلا لغة شعب واحد وهي التركية كما قلنا في بيان السبب الثاني. (٥) أن أكثر المتخرجين في هذه المدارس الرسمية متفرنجون، حتى إنه يقل فيمن ينتسبون إلى الإسلام منهم من يؤدي الفرائض ويجتنب كبائر المعاصي، وأمثال هؤلاء لا يصلحون لتولي الأحكام بين من يمقتون التفرنج والفسق، وإن كان من المعاصي الشخصية كشرب الخمر، فكيف إذا اقترن - كما هو الغالب بالمعاصي التي يتعدى ضررها كالرشوة. (٦) أن مركز دولتنا شر من مركز كل حكومة مركزية في الدنيا، فإن رجالها لا همَّ لهم إلا جباية المال بالحق وبالباطل والتمتع به وعدم وضعه في مواضعه؛ فأموال الأوقاف والطرق ومخصصات المعارف للولايات لا تصرف في مصارفها، بل يجرف أكثرها إلى المركز العام (الآستانة) وهناك يذوب ويضمحل، والبلاد كلها خراب حتى الآستانة، فلو كانت المركزية تصلح لهذه المملكة لكان ما علمنا من حال القائمين بها كافيًا وحده لتركها وجعل اللامركزية بدلها. وإنني أعلم علم اليقين أن الناس ما صبروا على أمثال هؤلاء الحكام في مثل بلادنا إلا كارهين مكرهين، وها نحن أولاء نرى أهل بلادنا السورية وهم أحسن البلاد العثمانية عمرانًا بنشاطهم قد يئسوا، فهم يهاجرون منها أفواجًا، فإذا استمرت هذه الهجرة بضع سنين تصبح البلاد خرابًا يبابًا، وأنت تعلم أن البلاد التي يهاجرون إليها ليست أشد قابلية للعمران من بلادهم، ولكن العمران محال في ظل حكومة مركزية بينها وبين أهل البلاد من الفروق ما أشرنا إليه. فهذه أهم الأسباب التي تعرف بها أن هذه المملكة لا يصلح أمرها إلا باللامركزية الإدارية الواسعة أو الاستقلال الإداري التام، وإلا فهي سائرة إلى الخراب وصائرة إلى الزوال، أعني استيلاء الأجانب عليها بالفتح السلمي أو الحربي. التاجر: يا لله العجب! إنني سمعت بعض المعترضين على طلاب اللامركزية، يقولون: إن حسنها من جهة العمران لا ينكر إلا أنها تكون وسيلة إلى استيلاء الأجانب على كل ولاية تدار باللامركزية؛ لأنها تنفصل من مركز السلطنة فتكون ضعيفة لا تقدر على حفظ نفسها كما وقع في تونس ومصر. الأستاذ: يمكنني أن أكتفي من معارضة هذا القول بالسؤال عن ولاية طرابلس الغرب وولايات الدولة الأوربية التي انقدَّتْ منها أولا فتألفت منها عدة ممالك، والولايات التي انفصلت منها في هذا العام أو هذه الأيام بقوة تلك الولايات التي صارت ممالك قوية بعد استقلالها، هل كانت هذه الولايات الزائلة وأمثالها مما أخذته روسية والنمسة تدار على قطب اللامركزية، أم كانت - ما عدا طرابلس - أشد الولايات اتصالاً بالمركز ومعهدًا ومقرًّا لكل ما فيه من القوة؟ فإذا كانت الحكومة المركزية الشديدة لم تمنع أقرب الولايات إلى المركز العام وأشدها اتصالاً به من استيلاء أضعف الأجانب عليها، فكيف تقدر أن تمنع الولايات البعيدة عن المركز كالعراق وسورية أن تستولي عليها الدول الكبرى كإنكلترة وفرنسة؟ . كان يمكنني أن أكتفي بهذا، ولكنني أفرض أن الدولة - أعزها الله وأصلحها - يمكنها أن تحمي سورية من فرنسة والعراق من إنكلترة بأساطيلها وجيوشها البرية التي تتدفق من المركز العام في طرف المملكة الأقصى، أفرض هذا فأقول: ما الذي يمنعها من هذه الحماية إذا كانت إدارة البلاد بأيدي أهلها وهم عثمانيون تابعون لها على كل حال؟ ، وما يطلبونه من اللامركزية الإدارية لا يخرج قوة البلاد العسكرية من سلطة المركز العام، ولا يبيح للولايات أن تعقد مع الأجانب معاهدات سياسية، ولا أن تعطيهم شيئًا من الامتيازات التي تنافي مصلحة المركز السياسية أو الحربية. كما كانت عليه تونس ومصر بالفعل قبل حماية فرنسة للأولى واحتلال إنكلترة للثانية، على أن حكومة الآستانة المركزية لو كانت ذات قوة حربية وسياسية لما حل بهذين القطرين ما حل بهما، فهذه إنكلترة لم تحتل مصر إلا بعد أن طالبت حكومة الباب العالي بإرسال جيش عثماني لقمع الثورة العرابية فلم تفعل بل أذنت لها بأن ترسل الجيش الإنكليزي للقيام بذلك وأصدرت إرادة سلطانية بناء على طلب إنكلترة بعصيان عرابي ومن معه للخليفة أو لدولة الخلافة بقيامهم على الخديو وقتالهم لإنكلترة. فلو أن طلاب اللامركزية طلبوا الاستقلال الإداري والسياسي والعسكري لكان اعتراض أولئك المعترضين موضع النظر والبحث، ولكنهم لم يطلبوا ذلك كله، وإنما طلبوا القسم الإداري منه المتعلق بالمصالح الداخلية المحضة كالإدارة والقضاء والتعليم والزراعة والصناعة، ولا يقصد من هذا إلا عمران الولايات وترقي أهلها بحيث تكون كل ولاية عضوًا قويًّا في بنية الدولة. التاجر: إن للمعترضين اعتراضًا أقوى من الاعتراض الأول، وهو أن أهل الولايات يغلب عليهم الجهل وفساد الأخلاق والعجز عن القيام بأعمال الحكومة؛ لأنهم لم يتمرنوا عليها، وإنما المتمرن على ذلك والمستعد له هم إخواننا الترك. وقد سمعت قولك في ضعف الترك وجهلهم، فما قولك في غيرهم من العثمانيين ونسبتهم إليهم؟ الأستاذ: إنني لا أجهل ما عليه أهل بلادنا العربية من الجهل وضعف الأخلاق ولا أنكر ذلك، وأنا أعلمه وأعلم أن سببه الأكبر ما كان من سوء إدارة حكومتهم المركزية واستبداد رجالها وظلمهم، ولكنني أقول: إن إخوانهم الترك ليسوا خيرًا منهم في شيء قط، لأنهم ليسوا أزكى فطرة ولا أذكى قريحة ولا أفضل وراثة لسلف صالح، ولا كان الاستبداد الذي يفسد البشر أخف وطأة عليهم، بل ربما كان أشد؛ لأن نفوذ الحكومة الاستبدادية كان عامًّا فيهم شاملاً لهم، ولم يعم البلاد العربية كلها، فلا يزال فيها ملايين عجز الظلم عن التسلق إليهم، وتضاءل الاستبداد أن ينال منهم، ومن دونهم ملايين آخرون (أهل اليمن) وقفوا في وجوه جيشه وقفة القرن للقرن، وكانت الحرب بينهما سجالاً مدة أربعة قرون. ثم إن للتاريخ سريانه فيها قريب، وهو في الولايات التركية أصيل قديم. نعم إن العاصمة البزنطية التي كانت تكتفي في الأجيال الخالية بأن يكون لها في كل قطر رجل أو رجلان لتمثيل قوتها وعظمتها، وجباية المال لها - قد وسعت نفوذها في عهد السلطان عبد المجيد بعض التوسع ولم تستطع أن تبث رجالها في كل مدينة من مدن البلاد إلا في عهد نيرونها عبد الحميد خان، الذي يلعنه أهلها وغيرهم بكل شفة ولسان، فإذا كان عبد الحميد ورجاله وخلفهم الاتحاديون، وهم شر منهم، هم الذين يفضلهم الجاهلون والمنافقون على سائر أهل المملكة من جميع الشعوب بدعوى أنهم تمرنوا على الإدارة والأحكام، فحسبنا في الرد عليهم أن السماء والأرض قد استغاثتا من ظلمهم وسوء إدارتها، وحسبك من الشواهد العيانية ما جرَّته إدارتهم وسياستهم على المملكة من إضاعة ثلثها الإفريقي وثلثها الأوربي، وبعض الثلث الثالث الآسيوي، وجعل الباقي على خطر، وإنه لم يوجد أحد منهم له في المملكة أثر من آثار العمران، إلا أن يكون مدحت باشا على ضعف فيه، فإننا لا ننسى له مثل تأسيس شعبة المعارف في سورية وخط الترام بين طرابلس ومينائها، وأمثال ذلك من الأعمال الصغيرة فيها نفسها، التي نستكبرها لأنه لم يخرج من الآستانة أحد له عمل عمراني مثلها، فالبزنطيون قوم متمرنون على التخريب كما ثبت بالمشاهدة والتجريب، فهل نجعل هذا دليلاً على استعدادهم للتعمير؟ إذا أردنا أن ننصف التاريخ في وصف الشعوب العثمانية فلا مندوحة لنا عن القول بأن الشعب الأرمني هو الآن أكثرها تعلمًا وتربية مدنية ونشاطًا في الكسب والعمل، ويليه الشعب السوري، وإنما ينقص عنه في نسبة التعليم والتفرق، فإن تساهلنا وتنازلنا قلنا: (كلنا في الهوى سوى) فلماذا تُجعل الأحكام والمصالح كلها في أيدي البزنطيين دون غيرهم؟ فإن فرضنا أنهم يمتازون بشيء من قشور العلوم والفنون الأوربية التي تقرأ في مدارسهم، فأي حاجة لنا بهذه القشور في بلادنا التي لا تعرف لغتهم لتستفيد شيئًا منها، إن كانت محتاجة إليها، على أن كثيرًا من أبنائنا المتعلمين في تلك العاصمة والمتعلمين في بلادهم وفي مصر وأوربة هم خير منهم، فنستغني بهم عنهم. إننا قد جربنا حكمهم وعرفنا ثمرته، فلنجرب استعدادنا أيضًا عسى أن تكون غيرة أهل كل قطر على بلادهم أشد من غيرة البيزنطيين على ما كان من سلب أموالهم، فتقع المباراة في وسائل العمران بين الشعوب العثمانية كلها، ويعتمد كل منهم على ما آتاه الله من المواهب فتعمر البلاد ويكون بعضها لبعض عونًا وظهيرًا. التاجر: أليس طلب العرب للإدارة اللامركزية مشعرًا بكراهة إخوانهم الترك ومشاقتهم؟ الأستاذ: إن الأعمال العامة من سياسية وإدارية تبنى على المصلحة لا على عاطفة الحب أو عاطفة البغض، وإن ما جرى عليه حكم عاصمة هذه الدولة باسم الحاكمية التركية كان وما زال ضارًّا بالترك والعرب وسائر الشعوب التي تغلبت عليها تلك العاصمة الظالمة، وإنما يتلذذ الجاهلون من إخواننا الترك بنسبة الدولة إليهم وتكلُّم رجال الحكومة البيزنطية بلغتهم، بلغة تسمى التركية، وإن كان حظها من التركية الأصلية لا يزيد على حظها من غيرها كثيرًا. ولا شك أن نسبة هؤلاء البزنطيين إلى الترك أضعف من نسبة لغتهم إلى التركية، فإنهم أوشاب من شعوب شتى أكثرهم من الروم الذين انتموا إلى الإسلام. وكيفما كانوا وكانت أنسابهم فإنهم قد أضاعوا ثلثي ملك بني عثمان وخربوا الثلث الآخر، ولم يبق في الإمكان أن يطول حكم هذه العاصمة المركزي؛ ولا سيما بأمثال هؤلاء الرجال، فطلبُ تغييره يُعد خدمة لإخواننا الترك قبل غيرهم من الشعوب العثمانية، وإلا صار الجميع أكلة للأجانب، ولا يعده كراهة للترك إلا من يود أن تبقى هذه المملكة عرضة للاستبداد والنهب، والحق أن اللامركزية هي التي تشد أواخي إخاء العرب والترك، وعدمها هو الذي يخشى أن يؤدي في أقرب وقت إلى شقاق عظيم وفتن خطرة، وأي عاقل يقول: إن تمييز أحد الأخوين على الآخر وجعله سيدًا له وحاكمًا قاهرًا فوقه، هو الذي تقوم به حقوق الأخوة وتحفظ به رابطتها؟ لأجل هذا نرى العقلاء المخلصين من الترك موافقين لأمثالهم من العرب على اللامركزية ومنهم صادق بك رئيس الائتلافيين وموجد الدستور وأركان حزبه. التاجر: هذا هو الحق المعقول وإن كان بعض وجهاء بلادنا الذين مردوا على النفاق وبعض طلاب المال والجاه من فضلات الاتحاديين، يسفهون أنفسهم ويحقرون شعبهم بتفضيل أولئك المخربين عليهم، ثم إنهم يقولون: إن كل ما يطلب من الإصلاح باسم اللامركزية يمكن أن يحصل بطريقة أخرى يسمونها توسيع المأذونية فما رأي الأستاذ في ذلك؟ الأستاذ: إن ما يسمونه توسيع المأذونية ليس إلا توسيعًا لنطاق الاستبداد، فهو شر من عدمه؛ لأنه عبارة عن إذن المركز العام للولاة وغيرهم من الحكام الإداريين بأن يتصرفوا في بعض الأمور بدون إذن من نظارة الداخلية، فهو يستلزم قلة المسئولية والتجرئة على الاستبداد، ونحن في طور يجب أن تكون المسئولية فيه شديدة على الحكام؛ لأنهم تربوا على الاستبداد والكبر الذي هو غمط الحق واحتقار الناس؛ وذلك منافٍ لروح الحكومة التي هي شكل حكومتنا الرسمي الآن، وعشاق الاستبداد يزهقون هذه الروح بمثل توسيع المأذونية؛ لأنه توسيع للسلطة الشخصية، وكيف يتفق توسيع سلطة الولاة والمتصرفين فمن دونهم في حكومة ضيق قانونها الأساسي سلطة السلطان الذي أثبت له منصب الخلافة والقيادة العامة؟ وسترى ما يترتب على ذلك من الفساد. التاجر: بقي عندي سؤال واحد وهو أنني سمعت بعض الناس يقول: إن اللامركزية ضرورية لا بد منها، ولكن هذا الوقت ليس وقتًا لطلبها لاشتغال الدولة بالحرب، فما رأيك في ذلك؟ الأستاذ: سمعت مثل هذا الكلام ورأيت أن بعضهم يقوله تزلفًا للحكومة الاتحادية ونفاقًا؛ لأنه لا يجد كلامًا يشنع به على طلاب اللامركزية أو الإصلاح على قاعدتها غيره، إما مطلقًا وإما كلامًا مرجو القبول عند العقلاء، ومنهم من يقوله لاشتباه الأمر عليه وميله إلى قبول كل رأي أو قول في تخطئة من يشغل الدولة عن الحرب، وشبهة جميع من يقولون هذا القول هي أن الدولة مشغولة بالحرب وهي أهم الأمور فلا يجوز أن تشغل بغيرها، والواجب أن يؤجل هذا الطلب إلى أن يجتمع مجلس الأمة. وجواب هذه الشبهة سهل جدًّا نذكره مختصرا لبيان جهلهم وإن كانت الشبهة زالت بانقضاء الحرب، وهو من وجوه: (١) أنه لا يقول عاقل: إن الحكومات والدول لا تشتغل في أثناء الحرب إلا بها وبشئونها فتعطل لأجلها سائر مصالحها الإدارية والسياسية والعلمية والعمرانية، بل يجب أن تشتغل كل نظارة منها بعملها الخاص وتدع أمور الحرب لنظارة الحربية، وما يتعلق منها بالسياسة لمجلس الوكلاء، ونحن نرى الحرب لم تمنع نظارة الداخلية من الاشتغال بقانون الولايات ومحاولة تنفيذه قبل جمع مجلس الأمة وتصديقه عليه، فكان يمكنها أيضًا أن تضع قانونًا للإدارة اللامركزية، وإن لم تنفذه موقتًا كقانون الولايات. (٢) أن طلاب اللامركزية الذين جعلوا لجنتهم العليا بمصر قد ألَّفوا لها حزبًا سياسيًّا طلب من حكومة الآستانة التصديق عليه، وغرضه السعي إلى انتخاب أعضاء مجلس الأمة المبعوثين من الموافقين لرأيه ليقرروه في المجلس، فأي شاغل للدولة في هذا عن الحرب؟ وأي مانع فيها يمنع نظارة الحربية من القيام بما يجب عليها في قتال أعدائها؟ وهل كان تقصيرها فيما يجب عليها ناشئًا عن اشتغالها بهذا الحزب؟ لا لا وأما طلاب الإصلاح في بيروت والشام والبصرة فقد طلبوا من الحكومة ما رأوه مرجوًّا لبلادهم ولم يهددوها بثورة ولا عصيان ولا امتنناع عما أوجبته عليهم من الضرائب والعشور، بل لم يجتمعوا أولاً لطلب الإصلاح إلا بإذن الحكومة، فهل يقول عاقل: إن هذا يشغل الدولة عن الحرب أو يمنعها من الاستعداد لها؟ (٣) لو أن اللامركزيين وطلاب الإصلاح ألَّفوا جمعية سياسية فدائية كجمعية الاتحاد والترقي، وحاولوا أن يتوسلوا إلى نيل مقصدهم الجليل بكل ما تبيح التوسل به جمعية الاتحاد والترقي الثورية إلى مقاصدها، لما كان لهذه الجمعية وأنصارها والمنافقين لها أن يكونوا هم الذين يدَّعون الحق في لومهم، فإذا كانت الجمعية استباحت لنفسها أن تهجم بزعنفة من الأشقياء والجهلة الأغبياء على الباب العالي وتسقط حكومة الدولة العليا بقوة السيف والنار وتستحل قتل ناظر الحربية وقائد الجيش العام، واستحلاله كفر بالإجماع، ولم تكن الحرب مانعة لها من هذه الجريمة التي لها أكبر تعلق بالحرب - فلماذا تزعم أن مثل ذلك بل ما هو دون ذلك وأبعد منه عن الشغب وعن مخالفة الشرع والقانون جريمة لا تغفر؟ من أمعن النظر ومحَّص الحقيقة ظهر له أن طلاب الإصلاح قصروا؛ لأنهم لم يغتنموا فرصة اشتداد الحرب لإلزام الدولة بما يطلبون بعد تجربتهم لها في السنين الطوال وإيقانهم بأنها لم تفعل باختيارها إلا الاستبداد وتخريب البلاد. ولو فعلوا لنفعوها؛ وكانت كمن يقاد إلى الجنة بالسلاسل (كما ورد) ولسلِمت مما يُنتظر من سيطرة الأجانب، ولم يكن لعملهم أدنى تأثير ضار لها في الحرب، ولكنهم بالغوا في الهدوء والسكينة، وهم ينتظرون ما يدعي المعترضون أنه صواب، وسترى أن الصلح يتم قبل أن يعملوا عملاً ما، ويخشى أن يبادر الاتحاديون المتفرنجون في أثناء الصلح وعقبه إلى بيع مرافق البلاد العربية وغيرها للدول الكبرى الطامعة فيها بإعطائهم الحقوق والامتيازات وتوسيع دائرة نفوذهم، بل وبوضع إدارتها تحت مراقبتهم، وهو ما تطلبه الدول وتسميه الفتح السلمي، وعلى هذا الوجه باع حقي باشا طرابلس الغرب لإيطالية فاستخفها الغرور قبل التنفيذ وبعد مقدماته بإخلاء البلاد من العسكر والسلاح إلى محاولة أخذها بالفتح الحربي، وهذا السمسار يطوف العواصم الآن لأجل البيع، ولو نجح طلاب اللامركزية لامتنع عليه هذا البيع؛ لأن برنامجهم لا يجيز إعطاء امتياز فيها ولا بيع شيء منها ولا إنشاء الأعمال العمرانية إلا بقرار مجالس الولايات العمومية، فالآن يسهل على مندوب من جمعية الاتحاد أن يسمسر ويقرر بيع البلاد، فأي الأمرين يخشى أن تضيع به المملكة ويأخذها الأجانب؟ أليست هي المركزية التي نحن فيها؟ بلى، فهل ترى بعد هذا البيان أن طلاب اللامركزية ملومون، وأن المعترضين عليهم مصيبون؟ التاجر: لا لا، وإنني أشكر لكم أيها الأستاذ بيانكم، والسلام عليكم.