جاءنا من السيد محمد البشير النيفر المدرس بجامع الزيتونة في (تونس) ما يأتي: بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة العلامة الحكيم السيد محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار الزاهر، أقامنا الله وإياه على الطريقة المثلى. إنا نقرأ في فاتحة كل مجلد من مناركم وخاتمته الدعوة إلى انتقاد ما يهم انتقاده من مسائل الدين أو السياسة وذلك - والحمد لله - من أمتن البينات على طهارة نيتكم، وكنا نود لو يرزقنا الله سعة في الوقت حتى نكتب إليكم في شأن ما أشكل علينا من مسائل قليلة جاءت في التفسير وغيره إحياء لشعيرة من شعائر الدين أماتها الجهل بأصوله، وقد رأينا في باب التفسير من العدد السابع من مجلد هذه السنة (سنة ١٣٢٧) رأيًا في أبوة آدم للبشر لا يرتضيه القرآن فيما نرى فبادرنا إلى الكتابة إليكم في ذلك، ونحن في يقين من نزاهة ضميركم عن التعصب والله الموفق. قلتم: إن للأستاذ الإمام رأيين في تفسير آية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} (النساء: ١) . أحدهما: أن ليس المراد بالنفس الواحدة آدم لا بالنص ولا بالظاهر. ثانيهما: أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع ينطق بأبوة آدم للبشر أجمعين ويظهر لي من جانبكم الرضا عما ذهب إليه - تغمده الله برحمته - ولكن العبد أشكل عليه الرأيان لِمَا سأُبَيِّن. أما الأول: فلأن حمل النفس الواحدة على أصل من أصول العرب لا يرضى به التعبير بالناس، والروايات المستفيضة في مَدَنيَّة السورة تقعد في طريق من يحمل الناس على أهل مكة، فالظاهر الحمل على العموم، وليست الآية الكريمة كآية الأعراف {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: ١٨٩) الآية لوجهين: الأول: أن سورة النساء مدنيّة، وسورة الأعراف مكيّة. ثانيهما: أن في حمل آية الأعراف على العموم مسًّا لمقام النبوة فما أبعد ما بين الآيتين! وأما الثاني: فلأن القرآن الشريف، والسنة السنية ناطقان بأبوة آدم للبشر أجمعين وإخراج ما جاء في ذلك عن ظاهره رعيًا لمذهب دارون يشبه أن يكون من تفسير القرآن بالرأي الذي كان يشنؤه الإمام - رحمه الله - وجريتم حفظكم الله على طريقته في ذلك. نداء القرآن للناس ببني آدم في مقام الوصية بأخذ الحذر من وسوسة إبليس وفتنته ومقام التشريع العام ظاهر في أن المكلفين عن بكرة أبيهم أبناء آدم عليه السلام، وما نقلتموه عن الأستاذ الإمام في تأويل ذلك بعيد كما يتجلى لفضيلتكم بقليل من التدبر وأية نكتة في توجيه الخطاب إلى بني آدم إذا كان التكليف يشملهم وغيرهم. أما السنة السنية فمن أظهر ما ورد في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم من آدم وآدم من تراب) وما جاء في حديث الإسراء من الأسودة عن يمين آدم وشماله، وأنها نسم بنيه أفكانت أرواح غير الآدميين في مقر آخر أم كانت في ذلك المقر ولكن لم يهتم بها آدم - عليه السلام - ولا النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ لم يسأل عنها لأنها ليس لها في الآخرة مقام معلوم، وأصرح من ذلك وهذا حديث الشفاعة (يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس) الحديث، وفي سعة علمكم بالسنة ما يغني العبد عن حشر أكثر من هذا إن لم تكن الآيات والأحاديث نصوصًا قاطعة في الموضوع، فهي ظاهرة فيه، (والظواهر إذا اجتمعت أفادت القطع) - كما يقول الأصوليون - ولو ذهب ذاهب إلى أنها لا تفيد أكثر من الظن كان القائل بأبوة آدم للناس أجمعين أن يسأله عن الوجه في إيثار ذلك الظني على هذا الظني، فإن كان الوجه عنده درء ما عساه أن يرد على القرآن من شبهات العلماء القائلين بذلك فالذين لا يؤمنون بالغيب أكثر من أولئك عددًا وأقوى شبهًا فهل نُؤِّول الآيات الواردة في عالم الغيب بما لا يكدر مشربهم وينقض مذهبهم؟ أما قولكم حفظكم الله تعالى: (إن المسألة علمية لا دينية وقولكم إن المتبادر من النفس بقطع النظر عن الروايات والتقاليد المُسلَّمات هي تلك الحقيقة الجامعة التي يُعبَّر عنها بالإنسانية أو قريب من هذه العبارات) فللعبد فيهما نظر. أما الأول فلأن ما بين دفتي المصحف دين لا شيء منه بجائز مخالفته وهل يأذن الدين لأحد أن يذهب إلى ما لا يصادق عليه القرآن في تكون الجنين باسم علمية هذا البحث، أم هل يأذن لأحد أن يقول بما ينقضه القرآن في تأريخ فرعون باسم أن المسألة تاريخية؟ وأما الثاني فلأن تلك الحقيقة الجامعة التي يعبر عنها بالإنسانية أو البشرية أمر اعتباري لا يصح أن يكون منشأ الخلق والإيجاد هذا ما يتسع له الوقت من البحث وفيما آتى الله فضيلتكم من البسطة في العلم والاستقامة في الرأي ما يغني عن التذكير بأقل من هذا والسلام عليكم أولاً وآخرًا. ... ... ... ... ... ... كُتِبَ في ٢٧ رمضان عام ١٣٢٧ هـ (المنار) نشكر لأخينا في الله انتقاده وتذكيره وغَيْرَته على الدين والعلم ونجلي ما أَلَمَّ به من المسائل بما يأتي: (١) إن الأستاذ الإمام لم ينف كون آدم أبا البشر كلهم ولا قال: إن القرآن ينبغى أن يؤول ليوافق دارون أو غيره ولا قال إنه قد ثبت رأي الذين ينفون كون آدم أبًا لجميع البشر ثبوتًا قطعيًا، حتى نؤول لأجله كما صرحنا بذلك في تفسير الآية ولم يتكلم أيضًا في تحقيق المسألة في نفسها (مسألة أبوة آدم) وإنما قصارى رأيه أنه إذا ثبت ما يقولون لم يكن ذلك مخالفًا للقرآن فيكون شبهة على الإسلام، ونحتاج إلى التأويل، فعلى هذا يكن فهمه -رحمه الله - للآية ليس من تفسير القرآن بالرأي سواء كان فهمه صوابًا أم خطأً، لأنه لم يحاول أن يرجع القرآن إلى رأي رآه أو وافق عليه غيره وإنما فهم الآية وأمثالها فهمًا لا يرد عليه اعتراض ولا مجال معه للطعن في القرآن في هذه المسألة. (٢) قلتم إنه ظهر لكم أنني راضٍ عما ذهب إليه قلتم هذا بعد نقل المسألتين فعلم منه أنكم فهمتم أنني راضٍ عنهما كلتيهما، وقد رأيتم في كلامي الجواب عما استدل به من تنكير ما بثه في النفس الواحدة من رجال ونساء وتفسير النفس الواحدة بغير ما فسرها به رحمه الله تعالى وغير ذلك، وفيه الوعد بتحقيق مسألة ما يفيده مجموع آيات القرآن المنزلة في خلق الإنسان عند تفسيرما ورد من ذلك في سورة الحجر أو سورة (المؤمنين) ، فعلم من هذا الوعد أننا لما نبين رأيًا فيما يدل عليه مجموع القرآن في خلق الإنسان وإنما كلامنا محصور في تفسير تلك الآية بحسب ما فهمه الأستاذ الإمام وفهمه هذا العاجز من تلاميذه المستقلين الذي لا يقلدونه تقليدًا في شيء ما وما كان يرضى أن يقلده أحد في شيء، وإنما كان يحث على الاستقلال، وبعد هذا كله أقول: إن ما استظهرتموه صحيح في الجملة وتسرون وجهه فيما يلي هذا من الوجوه والمسائل. (٣) ذكرتم أن للأشكال عندكم مثارين: فأما المثار الأول وهو كون السورة مدنية لا يجوز أن يراد بالناس فيها أن يراد بالناس فيها أهل مكة فالخطب فيه سهل فإنكم قد رأيتم أننا اعتمدنا كون السورة مدنية وكون الخطاب فيها ليس لأهل مكة خاصة ولكن هذا لا يقضي كون القول بهذا شاذًا فإنه معزو إلى إمام المفسرين ومعولهم وهو ابن عباس - رضي الله عنه - وعبر الرازي عن مقابله بالأصح ومقابل الأصح هو الصحيح، فإن لم يكن الخطاب لأهل مكة جاز أن يكون للعرب عامة ولا يقعد في طريق هذا كون السورة مدنية، ولا كون الإسلام دينًا عامًا كما أنه لا يقعد في طريق غيره من الخطاب الذي وجه إلى العرب أو إلى بعض الأقوام أو الأشخاص، فإن عموم الأحكام الشرعية معتبر فيما كان مورده خاصًا ولو شخصيًا مالم يقم دليل على الخصوصية، مثال ذلك في العرب قوله تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} (التوبة: ١٢٨) فإن تفسير أنفسكم بالعرب لا ينفي كون الرسالة عامة لجميع البشر، ومثاله في الأمور الشخصية ما ورد في الإفتاء عقب استفتاء بعض المؤمنين وأسئلتهم المعبر عنها بمثل يسألونك ويستفتونك كما هو مكرر في سورة البقرة وسورة النساء، وكأن يكون المخاطب بالجواب هو السائل والحكم عام بالإجماع، على أننا لم نجعل كون الخطاب لأهل مكة هو العمدة في الاستدلال على ما فسرنا به النفس الواحدة ولا كونه للعرب وسيأتي مزيد بيان لهذه المسألة: (٤) وأما المثار الثاني للأشكال وهو ما ورد من الكتاب والسنة في أبوة آدم لجميع البشر فهو على تقدير تسليمه فيهما معًا لا يقتضي كون النفس الواحدة في الآية الأولى من سورة النساء هي آدم، إذ يجوز أن يثبت ذلك في آيات غيرها وأحاديث ولا يكون هو المراد منها، ولم يقل الأستاذ الإمام - ولا قلنا- إن هذا الآية تنفي كونه أبا البشر، ولكم أن تحتجوا بذلك على قوله رحمه الله: إنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع على أبوة آدم لجميع البشر وستعلمون ما فيه. (٥) أنكم قد ذكرتم أن حمل آية الأعراف على العموم لا يصح لأنه يمس مقام النبوة، فإذا امتنع هناك أن يكون المراد بالنفس الواحدة آدم فلم لا يجوز أن يمتنع هنا وهو ليس متبادرًا من اللفظ العربي بحد ذاته، حتى نقول: إننا أَوَّلْنا آية الأعراف لتطابق القول بعصمة الأنبياء ولا حاجة إلى تأويل آية النساء، فالصواب أنَّ عدم حمل النفس الواحدة على آدم في الآيتين ليس تأويلاً لهما؛ لأن لفظ النفس ليس مرادفًا لكلمة آدم؛ يوضح ذلك الوجه الآتي: (٦) إن ما يراد في تفسير مبهمات القرآن لا يجعل اللفظ المبهم نصًّا ولا ظاهرًا في المعنى الذي فسر به في الحديث ولا في القرآن نفسه إنْ وُجِدَ، ولكننا نقبل ذلك التفسير إذا صح عندنا، مثال ذلك أن يصح في حديث أن المراد بقوله تعالى {وَجَاءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَا المَدِينَةِ يَسْعَى} (القصص: ٢٠) هو فلان بن فلان، فإننا نقبل هذا التفسير على الرأس والعين ولكننا لا نقول: إن لفظ رجل في الآية هو نص أو ظاهر في ذلك الرجل المعين؛ لأن العربي الذي لا علم له بذلك الحديث لا يفهم هذا المعنى من اللفظ، ولم يَرِدْ في الكتاب ولا في الحديث تفسير للنفس في آية النساء بآدم ألبتة، فكيف نقول: إن ما ورد في ذلك يجعلها نصًّا أو ظاهرًا، وهو لم يرد تفسير لها؟ وهذا هو مرادنا مما قلناه في (ص٤٨٦م١٢) إن الذين فسروا النفس الواحدة بآدم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها، بل من المسألة المسلمة عندهم، وهي أن آدم أبو البشر. (٧) استدل صديقنا المنتقد على كون جميع الناس من بني آدم بنداء الله تعالى في القرآن لبني آدم في مقام الوصية بالحذر من فتنة الشيطان ووجه الاستدلال عنده أنه إذا لم يكن المراد ببني آدم جميع المكلفين لا يكون في توجيه الخطاب إليهم نكتة. ويمكن أن يجاب بأن نكتة ذلك في الآية التي أشار إليها هي إقامة الحجة عليهم بما كان من عاقبة وسوسته لأبيهم والعبرة في ذلك لسائر المكلفين الذين لا يعتقدون أنهم من ذرية آدم كأهل الصين؛ هي أن الشيطان يردي من أطاعه فيجب أن يجتنبوا طاعته كما يجب أن يجتنبها أبناء آدم، ونظير ذلك اعتبار المسلم بمثل قوله تعالى {يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} (المائدة: ٦٨) فيعلم أنه لا يكون على شيء يعتد به من الإسلام حتى يقيم القرآن، وقد أشارت عائشة إلى هذا المعنى في حديث لعن أهل الكتاب الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فقالت (يحذر ما صنعوا) وقد بينا آنفًا أن توجيه الخطاب في القرآن إلى قوم أو أناس معينين لا ينافي عموم التكليف فإذا فرضنا أن بني آدم هم العرب ومن كان يساكنهم من أهل الكتاب وأن الخطاب في مثل تلك الآية خاص بهم لوجود النبي بينهم فلا يمنع ذلك أن يَعْتَبِرَ بالموعظة التي في الخطاب مَنْ يدخل في الإسلام من غيرهم ومن ذلك خطاب الأنصار بقوله تعالى {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} (آل عمران: ١٠٣) وهي هداية لجميع المسلمين أيضا كما قبلها وبعدها. (٨) بعد هذا يمكن أن يقال إذا كان في البشر ألوف الألوف لا يعتقدون أنهم أبناء آدم، ولم يسمعوا باسم آدم فما هي نكتة خطابهم ودعوتهم إلى الإسلام بنسبتهم إلى آدم والمأثور المعقول أن يخاطب الناس بما يعرفون وأن يحمل حديث العاقل للقوم على ما يعهدون في مثل النداء فإن أراد إعلامهم بشيء مخالف لما يعتقدون جاء به بصيغة الخبر المؤكد كما هي سنة القرآن المطابقة لقوانين البلاغة العليا ويشيرون إلى هذا في أول كتب المعاني وفي صحيح البخاري من حديث علي موقوفًا (حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟) وفي مقدمة صحيح مسلم عن ابن مسعود (ما أنت محدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) . وورد في الضعاف المتعددة الطرق عن ابن عباس مرفوعًا (أُمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم) ، وهذا الوجه أي كون كثير من البشر لا يعرفون آدم ولا يعتقدون أبوته لهم هو العمدة في جزم الأستاذ الإمام بعدم حمل آية أول النساء على هذه المسألة المشهورة عند العبرانيين والعرب مع كون لفظها ليس نصًا ولا ظاهرًا فيها من حيث لفظها، وقد أجاز أن يطبق كل قوم اعتقادهم عليها. (٩) إن ما أوردتموه من الأحاديث ليس نصًا أُوصوليًا في المسألة فإن المخاطبين بقوله صلى الله عليه وآله وسلم (كلكم من آدم) لم يكن فيهم أحد من الصينيين ولا من هنود أميركا ولا من (أهل ملقا) ولكن الحديث يكون هداية لهؤلاء بعد دخولهم في الإسلام على الطريقة التي أشرنا إليها في بعض المسائل السابقة، وكذلك حديث الأسودة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم عن يمين آدم وشماله لا تدل على كونه أبا لجميع البشر، ولا يعارض هذا كونه صلى الله عليه وسلم لم يذكر أنه رأى هنالك أو في مكان آخر نَسَم قوم آخرين من البشر كما أن ذكره لبعض الأنبياء في ذلك الحديث لا يمنع أن يكون هنالك أو في مكان آخر أنبياء آخرون فالحديث لم يرد في بيان مقر جميع أرواح البشر والأنبياء، ولا دليل فيه على كون ما رآه يكون دائمًا حيث رأى، فقد ورد في مقر الأرواح أحاديث أخرى والظاهر أن ما رآه صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الليلة قد مثل له حيث رآه لأجل أن يراه والله أعلم حيث يكون في سائر الأوقات، وقد مُثِّلَتْ له صلى الله عليه وسلم الجنة في عرض الحائط وهي هي التي عرضها كعرض السماء والأرض، وكذلك يقال في حديث الشفاعة، فإنَّ تَحدُّثَ ولد آدم بالذهاب إليه هو كتحدث اتباع كل نبي ذكر في الحديث بالذهاب إليه، ولا ينافي ذلك أن يكون في البشر أقوام آخرون لا يتحدثون بالذهاب إلى أحد أو يتحدثون بالذهاب إلى أنبيائهم لرجائهم فيهم {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} (فاطر: ٢٤) . (١٠) إذا فرضنا أن هذه الأحاديث تدل وحدها أو مع غيرها على كون آدم عليه السلام أبًا لجميع من وجد في الأرض من البشر بالنص أو بالظاهر فلا يقتضي أن يكون ذلك تفيسر للقرآن إذا لم يكن لفظه نصًا ولا ظاهرًا في ذلك، والأستاذ الإمام لم يتعرض لما ورد من الأحاديث في المسألة وإنما اكتفى ببيان كون ما يعتقده كثير من البشر في أصلهم ومنشئهم لا حجة فيه على القرآن إن صح ولا وجه لأن يكون حائلاً دون إيمانهم به ولم يتعرض لمثل هذا في الأحاديث. (١١) نحن نعتقد أن أسلوب القرآن في الإجمال والإبهام والإطلاق والعموم هو من أقوى وجوه الإعجاز فيه وأسباب تعاليه عن تطرق الريب إليه وتحويم الشبهات حوله، وليس هذا الأسلوب بالصناعة التي يقدر عليها البشر فإننا نرى أعلم العلماء منهم في علم أو فن يؤلف فيه كتابًا فلا يمر عليه إلا زمن قليل حتى يظهر له ولغيره الاختلاف والخطأ فيه وقد مر ثلاثة عشرة قرنًا ونيف ولم يظهر في هذا القرآن الذي جاء به النبي الأمي الناشئ في الأميين خطأ ولا اختلاف {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} (النساء: ٨٢) والأحاديث ليس لها هذه المزية في الإعجاز وكثير منها منقول بالمعنى ومنها ما كان يقوله النبي صلى الله عليه وسلم عن اجتهاد لا عن وحي ولا سيما المتعلق منها بأمور العالم دون أمور الدين، أفيصعب على بعض المسلمين إظهار هذه المزية لكتاب الله في بعض المسائل على غير الوجه المشهور عندهم وإن لم ينقض ذلك المشهور في نفسه، وكان ينبغي للمنتقد أن يذكر ما عنده من الجواب لمن يوقنون بأن البشر من عدة أصول كما تمنينا في (ص ٤٨٨م١٢) . (١٢) يقول المنتقد: إن شبهات الذين لا يؤمنون بالغيب على الآيات الواردة في عالم الغيب أقوى من شبهات الذين ينكرون كون آدم أبًا لجميع البشر أو يعتقدون أن لهم عدة آباء فهل تؤول آيات عالم الغيب ما لا يكدر مشربهم ولا ينقض مذهبهم، ونقول إن هذه الدعوى ممنوعة فالذين لا يؤمنون بالغيب لا يوردون شبهات على عالم الغيب وإنما هم قوم تابعون لحسهم يقولون إننا لا نؤمن إلا بما نراه أو نحس به وهو يعلمون أن عدم الإحساس بالشيء أو عدم العلم به لا يقتضي عدمه في نفسه ومن تقوم عنده الحجة منهم على الوحي والنبوة لا يرى أخبار عالم الغيب مانعة من إيمانه وما كنت أظن أن هذا يخفى على المنتقد الفاضل ولعله سرى إليه من بعض المارقين الذين كفروا بالله ورسله تقليدًا لبعض الإفرنج إذ يسمعهم أو يسمع عنهم إنكار الملائكة والجن، فليسألهم عن دليل هذا الإنكار هل يجد عندهم دليلاً أو شبه؛ لالا! وإنما يقولون إنه لم يثبت عندنا بالحس ولا بالدليل العلمي، ونحن المؤمنين نقول مثل ذلك ونزيد أنه ثبت عندنا بخبر الصادق الذي هو أصدق ممن تثقون بخبرهم إذا قالوا لكم إن في الكون كذا كذا من الغرائب الطبيعية. (١٣) أُذَكِّر المُنْتقد بمسألة لا ينبغي أن ينساها المستقل في العلم الذي يعنيه أن يفهم القرآن فهمًا صحيحًا وقد صرحنا بها في المنار من قبل، وهي أن الاصطلاحات الشرعية والفنية الحادثة بعد نزول القرآن والروايات والتقاليد المشهورة في تفسيره هذان الأمران هما اللذان يحولان كثيرًا دون فهم القرآن بما تعطيه عبارته الفصحى ويتبادر من أسلوبه الأعلى، فيجب أن يكون القرآن فوق الاصطلاحات والمسلمات كلها، وأن يستعان على فهمه بالروايات الصحيحة التي لا تخل بما يتبادر من عبارته وأسلوبه البليغ وحكمة كونه هداية لجميع البشر في كل زمان ومكان، وإننا نرى كثيرًا من المفسرين يخطئون عند غفلتهم عن هذه القاعدة ويخالفون الروايات المأثورة عن السلف عند تنبههم لها إذا رأوا الرواية مخالفة لمنا يقتضيه الأسلوب العربي بحسب فهمهم، ومن ذلك ما سنراه في تفسير الجزء الثاني عن ابن جرير شيخ المفسرين الأولين. (١٤) أما انتقاده - نفعنا الله بغيرته على العلم والدين - قولنا إن المسألة علمية لا دينية فإنني أجيب عنه بالإيجاز وإن لم أتذكر أنني قلت هذا في تفسير الآية ولا أجد وقتًا للمراجعة، فأقول: إن ما يذكر في القرآن من أمور الخلق وعجائبه وأسراره لا يراد به شرح أحوال المخلوقات، وبيان ما هي عليه في الواقع تفصيلاً لأن هذا ليس من مقاصد الدين وإنما يذكر على أنه من الآيات على قدرة الله وعلمه وحكمته في خلقه ورحمته بعباده، ومن المنبهات للانتفاع بما في هذه المخلوقات والشكر عليها، ولذلك يستعمل فيها المجاز والظواهر المتعارفة بين الناس وتحديد المسائل العلمية لا يكون بمثل هذا كقوله تعالى {وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} (الكهف: ٨٦) فلا يراد به أن ذا القرنين وجد الشمس تنزل من السماء فتغرب في عين حمئة من عيون الأرض، ومع هذا كله لا يكون خبر القرآن إلا صادقًا، ولكننا لا نعرف أن أحدًا من علماء المسلمين عنى كعنايتنا وعناية شيخنا الأستاذ الإمام بالدعوة إلى الاهتداء بالقرآن كله وصرف معظم عنايتهم إلى ما كثر الإرشاد إليه في آياته كالبحث في خلق السماوات والأرض وما فيهما من البحار والأنهار والجبال والنبات والدواب وغير ذلك، وكالسير في الأرض والاعتبار بسنن الله في أحوال الأمم بعد معرفة تأريخها، فإننا نرى علماء المذاهب الدينية فينا قد أهملوا أكثر ما أرشد إليه القرآن، وجعلوا الدين كله أو جله محصورًا في الأحكام العملية التي لم يعن القرآن بها وهي أقل ما ورد فيه ولا سيما الأحكام الدنيوية كالبيوع والشركات والمخاصمات فلا يقال لمثلنا: إن كل ما في القرآن دين، وإن الدين لا يأذن لأحد أن يقول قولا لا يصادق عليه القرآن فنحن الذين ندعو دائمًا إلى جعل حكم القرآن فوق كل حكم وهديه فوق كل هدي وخبره فوق كل خبر، وإنما يقال ذلك لغيرنا من علماء المسلمين الذين قالوا حتى في الأحكام التي هي عندهم جل الدين ما لم يصادق عليه القرآن كقولهم إن مدة الحمل تكون في الواقع المعتبر شرعًا أكثر مما حدده القرآن من مدة الحمل والفصال جميعًا وقد رأى صديقنا المنتقِد ما كتبناه في ذاك بالجزء الأخير من المجلد الماضي، فإذا جاز أن يعتمد أئمة الفقه منا على قول بعض النساء اللواتي هن مظنة الخطأ والكذب فيما لا يصادق عليه القرآن وقد نطق بغيره بناء على أن ما نطق به يحمل على الغالب المعروف عند جمهور الناس فلم لا يجوز عند أتباعهم أن يعتمد على قول جمهور العلماء الباحثين المدققين في مسألة علمية لم يرد في القرآن نص فيها وإنما ذكرت مبهمة في سياق مقصد من مقاصده كحث الناس على أن يتقوا الله في ذوي أرحامهم والضعفاء منهم لأنهم من أصل واحد أو جنس واحد وعبر عن ذلك بالنفس الواحدة، ولكنه لم يبين حقيقة تلك النفس على أننا لم نحمل الآية ولا غيرها من الآيات على ما قاله أولئك العلماء الباحثون في أصول البشر وخلقهم، ولكننا اخترنا أن ندع ما أبهمه القرآن على إبهامه (ص٤٨٦م١٢) وهو تنكير تلك النفس وعدم تعيينها أو فهمها مما يتبادر من اللفظ العربي بصرف النظر عما وراءه من الروايات والتقاليد المسلمات التي ليست بنص عن المعصوم في تفسيرها (ص٤٨٨م ١٢) . (١٥) وأما انتقاده الأخير على قولنا في تفسير النفس المتبادر من اللفظ فقد بناه على ذكر لفظ الإنسانية في عرض كلامنا وتفسيره إياه بالمعنى المشهور بين العامة ناسيًا ما فسَّرْناه به وما عبَّرْنا به في أول العبارة عنه من قولنا هو الماهية أو الحقيقة التي بها كان إنسانًا، ونعني بذلك الروح الإنسانية التي اتحدت بالجسد فصار مجموعهما حيوانًا ناطقًا لولاها لم تكن هذه المواد الترابية التي تكون منها جسد الإنسان خلقًا آخر حيًّا ناميًا متحركًا، فهل يقول: إن هذه الحقيقة الإنسانية أمر اعتباري؟ كلا إنها خلق وجودي مستقل. (١٦) بعد أن طبع تفسير تلك الآية في المنار نقحناه وزدنا فيه فوائد أثبتناها في نسخة التفسير التي تطبع على حِدِّتِها منها أن لبعض الباحثين من المسلمين العصريين رأيين آخرين في النفس الواحدة، أحدهما أنها الأنثى ولذلك وردت مؤنثة في كل آية وصرح بتذكير زوجها الذي خلق منها في بعض الآيات وثانيهما أنها كانت جامعة لأعضاء الذكورة والأنوثة وذكروا لذلك نظائر أثبتها العلم الحديث , فيراجع هذا في (ص٣٣١ ج٤) من التفسير وسيصدر بعد زمن قليل. هذا ما سمح لنا به الوقت من إيضاح المسائل المتعلقة بهذا الانتقاد. وصفوة القول: إن ما أوردناه في التفسير لا ينفي القول بأبوة آدم لجميع البشر وقد وعدنا هنالك بتحرير هذه المسألة في موضع آخر من التفسير.