تمهيد للمنار تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي أفندي زيدان صاحب الهلال مشهور، وقد سبق لنا تقريظه في المنار ونقد بعض مباحثه، وذكرنا أننا كنا نود لو نجد سعة من الوقت لمطالعته كله ونقده نقدًا تفصيليًّا. ولما عرضه مؤلفه على نظارة المعارف المصرية وطلب منها أن تقرره للتدريس في مدارسها عهدت النظارة إلى بعض أساتذتها بمطالعته وإبداء رأيهم فيه، فلما طالعوه بينوا للنظارة أن فيه غلطًا كثيرًا وأنه غير جدير بأن يعتمد عليه في التدريس ولا المطالعة، فلأجل هذا لم تقرره النظارة. وكنت انتقدت الأساتذة الذين طالعوا الكتاب وانتقدوه أنهم لما يكتبوا ما رأوه فيه من الغلط وبينوه للناس وللمصنف أيضًا لعله يرجع إلى الصواب إذا ظهر له، فإنه يدعو الكتاب دائمًا على نقد كتبه. نعم إن بعض من قرأه قد انتقده بمقالات نشرت في جريدة المؤيد وأجاب المصنف عن بعض ما انتقد عليه واعترف ببعض، وقد ذكرت هذا في المنار. ويرى بعض الناقدين لهذا التاريخ قولاً وكتابة أن مؤلفه يتعمد التحامل على العرب وعلى الإسلام نفسه، وكنت إذا سمعت ذلك منهم أعارضهم وأرجح أنه غير متعمد، وأن السبب في أكثر ما أخطأ به هو عدم فهم بعض المسائل كتفسيره لمسألة القول بخلق ألفاظ القرآن بأن القرآن غير منزل من عند الله وكخطئه فيما ذكره عن ثروة المسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وذلك مما انتقدناه عليه في المنار، وإما جعل بعض الوقائع الجزئية قواعد كلية عامة، وهذا معهود في جميع مؤلفاته، ولكن ظهر لنا مما كتبه بعد ذلك ومن بعض حديثه معنا ومع غيرنا من أصحابه أنه يكاد يكون من الشعوبية الذين يتحاملون على العرب ويفضلون العجم عليهم وكان هذا سبب ترجمة هذا الكتاب بالتركية. وقد انبرى في هذه الأيام الشيخ شبلي النعماني العلامة المصلح الشهير مؤسس جمعية ندوة العلماء في الهند ومحرر مجلتها إلى الرد على هذا التاريخ، وكتب إلينا أنه يريد أن يرسل إلينا ما يكتبه ويطبعه من هذا الرد بالتدريج لننشره في المنار، كلما طبع منه شيئًا في (لكنؤ) أرسله إلى أن يتم، ولما كان الانتقاد من مثل هذا العالم المؤرخ هو ضالتنا وضالة صديقنا وصديقه المؤلف، بادرنا إلى نشره معتذرين عما في أوله من شدة الحكم، وودنا لو لم يصرح به وإن أثبته، ولولا أنه طبعه لحذفناه منه. قال: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وآله وصحبه أجمعين إن الدهر دار العجائب. ومن إحدى عجائبه أن رجلاً من رجال العصر [١] يؤلف في تاريخ تمدن الإسلام كتابًا يرتكب فيه تحريف الكلم وتمويه الباطل، وقلب الحكاية، والخيانة في النقل، وتعمد الكذب ما يفوق الحد، ويتجاوز النهاية، وينشر هذا الكتاب في مصر وهي غرة البلاد، وقبة الإسلام، ومغرس العلوم، ثم يزداد انتشارًا في العرب والعجم، ومع هذا كله لا يتفطن أحد لدسائسه [٢] {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (ص: ٥) . لم يكن المرء ليجترئ على مثل هذه الفظيعة في مبتدأ الأمر ولكن تدرج إلى ذلك شيئًا فشيئًا، فإنه أصدر الجزء الثاني من الكتاب وذكر فيه مثالب العرب دسيسة يتطلع بها على إحساس الأمة وعواطفها، ولما لم يتنبه لذلك أحد، ولم ينبض لأحد عرق، ووجد الجو صافيًا، أرخى العنان، وتمادى في الغي، وأسرف في النكاية، في العرب عمومًا وخلفاء بني أمية خصوصًا. وكان يمنعني عن النهوض إلى كشف دسائسه اشتغالي بأمر ندوة العلماء , ولكن لما عم البلاء، واتسع الخرق، وتفاقم الشر، لم أطق الصبر، فاختلست من أوقاتي أيامًا وتصديت للكشف عن عوار هذا التأليف والإبانة عما فيه من أنواع الإفك والزور وأصناف التحريف والتدليس. معذرة إلى المؤلف إني أيها الفاضل المؤلف غير جاحد لمننك فإنك قد نوهت باسمي في تأليفك هذا وجعلتني موضع الثقة منك، واستشهدت بأقوالي ونصوصي، ووصفتني بكوني من أشهر علماء الهند، مع أنى أقلهم بضاعة، وأقصرهم باعًا، وأخملهم ذكرًا، ولكن مع كل ذلك هل كنت أرضى أن تمدحني وتهجو العرب غرضًا لسهامك ودريّة لرمحك، ترميهم بكل معيبة وشين، وتعزو إليهم كل دنية وشر، حتى تقطعهم إربًا إربًا، وتمزقهم كل ممزق، وهل كنت أرضى بأن تجعل بني أمية لكونهم عربًا بحتًا من أشر خلق الله وأسوئهم، يفتكون بالناس، ويسومونهم سوء العذاب، ويهلكون الحرث والنسل، ويقتلون الذرية وينهبون الأموال، وينتهكون الحرمات، ويهدمون الكعبة ويستخفون بالقرآن. وهل كنت أرضى بأن تنسب حريق خزانة الإسكندرية إلى عمر بن الخطاب، الذي قامت [١] بعدله الأرض والسماء، وهل كنت أرضى بأن تمدح بني العباس فتعد من مفاخرهم أنهم نزلوا العرب منزلة الكلب، حتى ضرب بذلك المثل، وأن المنصور بنى القبة الخضراء إرغامًا للكعبة، وقطع الميرة عن الحرمين استهانة بهما، وأن المأمون كان ينكر نزول القرآن، وأن المعتصم بالله أنشأ كعبة في (سامرَّا) وجعل حولها مطافًا واتخذ منى وعرفات. وهب أني عدمت الغيرة على الملة والدين، وافتخرت كصنيع بعض الأجانب بأني فلسفي بحت عادم لكل عاطفة ووجدان، فلا أرضى ولا أغضب ولا أسر ولا أغاظ ولا أفرح ولا أتألم، وهب أني حملت نفسي على احتمال الضيم، وقبول المكروه، والصم عن البذاء، ومجازاة السيئة بالحسنة، ومكافأة الخبيث بالطيب، فهل كنت أرضى بأن تشوه وجه التاريخ، وتدمغ الحق، وتروج الكذب، وتفسد الرواية، وتقلب الحقيقة، وتنفق التهم، وتعود الناس بالخرافة، بئس ما زعمت أيها الفاضل، فإن في الناس بقايا وإن الحق لا يعدم أنصارًا. إن الغاية التي توخاها المؤلف ليس إلا تحقير الأمة العربية وإبداء مساويها ولكن لما كان يخاف ثورة الفتنة غير مجرى القول، ولبس الباطل بالحق. بيان ذلك أنه جعل لعصر الإسلام ثلاثة أدوار: دور الخلفاء الراشدين، ودور بني أمية، ودور بني العباس، فمدح الدور الأول وكذلك الثالث (ظاهرًا لا باطنًا كما سيجيء) ولما غر الناس بمدحه الخلفاء الراشدين، وهم سادتنا وقدوتنا في الدين، وبمدحه لبني العباس وهم أبناء عم النبي صلى الله عليه وسلم، وبهم فخارنا في بث التمدن وأبهة الملك، ورأى أن بني أمية ليست لهم وجهة دينية فلا ناصر لهم، ولا مدافع عنهم، تفرغ لهم، وحمل عليهم حملة شنعاء، فما ترك سيئة إلا وعزاها إليهم، وما خلى حسنة إلا وابتزها منهم، ثم لو كان هذا لأجل أنهم من آل مروان أو لكونهم من سلالة أمية لكنا في غنى عن الذب عنهم، والحماية لهم، ولكن كل ذنبهم أنهم العرب على صرافتهم ما شابتهم العجمة مطلقًا كما قال: (وتمتاز- أي دولة بني أمية - عن الدولة العباسية بأنها عربية بحتة) - الجزء الثاني من تمدن الإسلام - (وجملة القول أن الدولة الأموية دولة عربية أساسها طلب السلطة والتغلب) - الجزء الرابع صفحة ١٠٣ -.
عصبية العرب على العجم أطال المؤلف وأطنب في إثبات هذه الدعوى فذكر طرفًا منه في الجزء الثاني مدسوسًا - انظر صفحة ١٨ - ثم جعل له عنوانًا خاصًا في الجزء الرابع (٥٨) وهذه نصوصه: فإن العرب كانوا يعاملونهم معاملة العبيد، وإذا صلوا خلفهم في المسجد حسبوا ذلك تواضعًا لله. وكانوا يحرمون الموالي من الكنى ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب ولا يمشون في الصف معهم. وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة حمار أو كلب أو مولى. فكان العربي يعد نفسه سيدًا على غير العربي ويرى أنه خلق للسيادة وذاك للخدمة. فتوهم العرب في أنفسهم الفضل على سائر الأمم حتى في أبدانهم وأمزجتهم فكانوا يعتقدون أنه لا تحمل في سن الستين إلا قرشية، وأن الفالج لا يصيب أبدانهم. ومنعوا غير العرب من المناصب الدينية المهمة كالقضاء فقالوا لا يصلح للقضاء إلا عربي وحرموا منصب الخلافة على ابن الأمة ولو كان أبوه قرشيًّا. ولا يزوجون الأعجمي عربية ولو كان أميرًا وكانت هي من أحقر القبائل وكان الأمويون في أيام معاوية يعدون الموالي أتباعًا وأرقاء وتكاثروا فأدرك معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب فهمَّ أن يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم. اعلم أن للمؤلف في إنفاق باطله أطوارًا شتى: فمنها تعمُّد الكذب كما سترى، ومنها تعميمه لواقعة جزئية، ومنها الخيانة في النقل وتحريف الكلم عن مواضعه. ومنها الاستشهاد بمصادر غير موثوقة مثل كتب المحاضرات والفكاهات. وهاك أمثلة من كل نوع منها قال: (إذا صلوا خلفهم في المسجد حسبوا ذلك تواضعًا لله وكانوا يحرمون الموالي من الكنى إلخ , وكانوا يقولون لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة إلخ) . غير خافٍ على من له إلمام بتاريخ الفرس والعرب أن الفرس كانت قبل الإسلام تحتقر العرب وتزدريهم ولما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابه إلى كسرى العجم اشمأز وقال عبدي يكتب إليَّ! ! وكتب يزدجرد إلى سعد بن أبي وقاص فاتح القادسية أن العرب مع شرب ألبان الإبل وأكل الضب بلغ بهم الحال إلى أن أفنوا دولة العجم فأفٍّ لك أيها الدهر الدائر , وكانت ملوك الحيرة تحت إمرة ملوك العجم. ثم لما شرف الله العرب بالإسلام انتصفت العرب من العجم واستنكفوا من سيادتهم عليهم، وجاءت الشريعة الإسلامية ماحية لكل فخر ونخوة فقال رسول الله في خطبته الأخيرة في حجة الوداع، أن لا فضل للعربي على العجمي ولا للعجمي على العربي كلكم أبناء آدم) . وحينئذ ارتفع التمايز وتساوى الناس ولكن مع ذلك بقيت في بعض الناس من كلا الطرفين حزازات كامنة في صدورهم كانت سببًا لحدوث حزبين متقابلين يسمى أحدهما الشعوبة وهي التي تحتقر العرب وترميه بكل معيبة حتى إن أبا عبيدة صنف كتبًا عديدة يطعن فيها على أنساب كل قبيلة من قبائل العرب، والثاني المتعصبون للعرب. وقد عقد العلامة ابن عبد ربه في كتابه العِقْد الفريد بابًا في حجج كِلا الطرفين وأقوالهما. ومعظم ما نقله المؤلف في إثبات عصبية العرب هي أقوال ذكرها صاحب العقد في هذا الباب، كما لوَّح به المؤلف في هامش الكتاب. وإذا تصفحت الكتب يظهر لك أن الأقوال التي نسبها إلى العرب عمومًا إنما هي أقوال شرذمة خاصة موسومة بأصحاب العصبية، وصاحب العقد حيثما ذكر هذه الأقوال صدرها بقوله (قال أصحاب العصبية من العرب) وأنت تعلم أن هذه العصبة ليست كافة العرب ولا أكثرها، بل ولا عشر معشارها، فإنك سترى أن هؤلاء أناس شرذمة مغمورون في الناس. ثم إن المؤلف ما اقتنع بذلك بل ربما نسب قول رجل معين معلوم الاسم إلى العرب عامة. فقال ناقلاً عن كتاب العقد: (وكانوا يكرهون أن يصلُّوا خلف الموالي وإذا صلوا خلفهم قالوا: إنا نفعل ذلك تواضعًا لله) قال صاحب العقد: نسب هذا القول إلى نافع بن جبير فأخذه المؤلف وجعله قولاً عامًّا للعرب، وهذه الصنيعة أعني تعميم الواقعة الجزئية هي أكبر الحيل التي يرتكبها المؤلف لترويج باطله بل هي قطب رحى تأليفه. قال المؤلف: (فأدرك معاوية الخطر من تكاثرهم على دولة العرب فهمَّ أن يأمر بقتلهم كلهم أو بعضهم) - الجزء الرابع صفحة ٥٩ - إن نص معاوية الذي نقله المؤلف بعد هذه العبارة هو هذا (كأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان فرأيت أن أقتل شطرًا وأدع شطرًا) فأنت ترى أن الرواية على تقدير صحتها ليس فيها إلا أن معاوية رأى أن يقتل شطرًا منهم. ولكن المؤلف زاد على العبارة وقال: إن معاوية همَّ أن يأمر بقتلهم كلهم. قال المؤلف: فكانوا يعتقدون أن الفالج لا يصيب أبدانهم، - الجزء الرابع صفحة ٦ - استشهد في هذه الدعوى بطبقات الأطباء كما لوح في هامش الكتاب. وايم الله لو كنت تقف على عبارة الطبقات لوقعت في أشد حيرة من اجتراء المؤلف على قلب الحكاية، وتغيير الرواية، ذكر صاحب الطبقات تحت ترجمة عيسى الطبيب (الراجح أنه نصراني) أن المهدي ضربه فالج فحضر المتطببون ومنهم عيسى صاحب الترجمة فقال (المهدي بن المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس يضربه فالج، لا والله لا يضرب أحدًا من هؤلاء ولا نسلهم فالج أبدًا إلا أن يبذروا بذورهم في الروميات والصقلبيات وما أشبههن) . قد نقل صاحب الطبقات بعد الحكاية المذكورة عن يوسف الطبيب أن إبراهيم بن المهدي لما اعتل بعلة شبيهة بالفالج دعا يوسف وقال له: ما العلة عندك في عروض هذه العلة لي؟ (قال يوسف) : فعلمت أنه كان حفظ عن أمه قول عيسى أبي قريش في المهدي وولده أنه لا يعرض لعقبه الفالج إلا أن يبذروا بذورهم في الروميات وأنه قد أمل أن يكون الذي به فالجًا لا عارض الموت. فقلت: لا أعرف لإنكارك هذه العلة معنى إذ كانت أمك التي قامت عنك دنباوندية و (دنباوند) أشد بردًا من كل أرض الروم، فكأنه تفرج إلى قولي وصدقني وأظهر السرور. فأنت ترى أن الظن ببراءتهم من الفالج إنما كان مبناه حَرّ أرض العرب وليس له أدنى مساس بشرف النسل. ولو كان كما يتبادر إلى الذهن من عد أسماء آباء المهدي فهو يختص بعائلة النبي عليه السلام لا يفهم منه العموم مطلقًا، ولذلك لما ذكر لإبراهيم (وهو ابن الخليفة المهدي) أن أمه من (دنباوند) وهو أشد بردًا من كل أرض الروم، ذهب عنه استغرابه عروض الفالج له. فانظر كيف كان مجرى الحكاية فغيرها المؤلف وارتكب لذلك خيانات تترى، ثم إن هذا قول عيسى الطبيب ولا يدرى أنه عربي أم لا وغالب الظن أنه نصراني وهب أنه عربي فهو رجل من حاشية الدولة يريد التزلف إلى الخليفة والتملق له فهل يكون قوله قول العرب كافة؟ . قال المؤلف: ومنعوا غير العرب من المناصب الدينية المهمة كالقضاء فقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربي - الجزء الرابع صفحة ٦٠ - وأسند هذه الرواية إلى ابن خلكان. حقيقة هذا القول أن الحجاج لما أسر سعيد بن جبير التابعي المشهور وكان من الموالي قال له ممتنًّا عليه: أما جعلتك إمامًا للصلاة في الكوفة ولم يكن في الكوفة إلا العرب، قال ابن جبير: نعم، ثم قال له الحجاج: أليس أني لما أردت أن أوليك قضاء الكوفة ضجَّ العرب وقالوا: لا يصلح للقضاء إلا عربي؟ وقد ذكر الرواية ابن خلكان بطولها ولا يخفى عليك أن كوفة لم يكن إذ ذاك فيها إلا العرب وظاهر أن القضاء لا يصلح له إلا من كان عارفًا بعوائد الأمة مطلعًا على خصائصهم وكيفية تعاملهم فيما بينهم، وسعيد بن جبير لم يكن من العرب، ولو كان استنكاف أهل كوفة من قضائه لأجل كونه من الموالي لاستنكفوا من إمامته للصلاة فإن الإمامة أعظم شرفًا وأرفع محلاً من القضاء. وهذا أبو حنيفة كان من الموالي وأرادوا أن يولوه القضاء في عصر بني أمية فامتنع ولم يرض بذلك وقد ذكر الواقعة ابن خِلِّكان مفصلاً. قال المؤلف (وحرموا منصب الخلافة على ابن الأَمَة ولو كان قرشيًّا) نعم ولكن لم يكن هذا للاستهانة به. قال الأصمعي: كانت بنو أمية لا تبايع لبني أمهات الأولاد فكان الناس يرون أن ذلك للاستهانة بهم ولم يكن لذلك ولكن لما كانوا يرون أن زوال ملكهم على يد أم ولد [١] . أما ما استدل به المؤلف من قول هشام بن عبد الملك لزيد بن علي: إنك ابن أمة ولذلك لا تصلح للخلافة، فقد رده عليه زيد وقال: إن إسماعيل كان ولد الجارية وكان سيد البشر محمد من سلالته , ومن المعلوم أن زيدًا وهو ابن الإمام زين العابدين أرفع شأنًا وأعظم محلاًّ وأطيب أرومة وأصدق قولاً من هشام. ثم لو كان هذا الأمر حقًّا ما كانوا يولُّون الخلافة يزيد بن الوليد الأموي ومروان الحمار وهما ابنا أمة. ولما فرغنا من إبداء شطر من خيانات المؤلف ليكون كالعنوان على دأبه في تأليفاته حان لنا أن نحقق أصل المسألة أي أن العجم والموالي هل كانوا أذلاء ساقطين مرذولين يعاملون معاملة العبيد في عصر بني أمية كما يدعيه المؤلف أو كانوا بمحل من الشرف والعزة يعترف لهم العرب بالفضل والسؤدد، ويوفَّى لهم أوفى قسط وأكمل حق. اعلم أن البلاد التي كانت عواصم الأقاليم وقواعدها في عصر بني أمية هي مكة والمدينة والبصرة والكوفة واليمن ومصر والشام والجزيرة وخراسان وكان لكل هذا الأصقاع إمام يقودهم ويسود عليهم وهذه أسماؤهم. مكة المشرفة عطاء بن أبي رباح هو أستاذ الإمام أبي حنيفة اليمن ... ... طاوس الشام ... ... مكحول مصر ... ... يزيد بن أبي حبيب الجزيرة ... ميمون بن مهران خراسان ... ضحاك بن مزاحم البصرة ... الإمام الحسن البصري الكوفة ... إبراهيم النخعي وكل هؤلاء غير إبراهيم النخعي كانوا من الموالي وبعضهم أبناء الإماء ومع كونهم أعجامًا وكونهم أولاد الإماء كانوا سادة الناس وقادتهم تذعن لهم العرب وتحترمهم خلفاء بني أمية وولاة الأمر. فأما (عطاء بن أبي رباح) فمع كونه ابن سندية كان شيخ الحرم وإليه المرجع في الفتوى وعليه المعول في المسائل، قال ابن خلكان في ترجمته: قال إبراهيم بن عمرو: ابن كيسان أذكرهم في زمان بني أمية يأمرون في الحج صائحًا يصيح (لا يفتي الناس إلا عطاء بن أبي رباح) وهل يمكن أن ينادى بمثل ذلك من غير رضى الخلفاء [١] . وأما (طاوس) فلما قضى نحبه بمكة ازدحم الناس في جنازته حتى تعذرت الصلاة عليه وكان إبراهيم بن هشام إذ ذاك واليًا على مكة فاستعان بالشُّرَطة ومشى في جنازته عبد الله ابن الإمام حسن عليه السلام واضعًا نعشه على عاتقه وصلى عليه الخليفة هشام بن عبد الملك الأموي، ذكر كل هذا العلامة ابن خلكان في ترجمة طاوس فهل يكون منزلة أعظم من ذلك؟ وأما (مكحول الشامي) فأحد الأئمة المتبوعين وقال الزهري: العلماء أربعة فلان وفلان ومكحول. وأما (يزيد بن أبي حبيب) فهو الذي أرسله عمر بن عبد العزيز ليفقه الناس في مصر ويفتيهم في المسائل وهو المعلم الأول لهم كما صرح بذلك السيوطي في حسن المحاضرة. وأما (ميمون بن مهران) فمع فضيلته وسيادته كان أميرًا على الخراج في الجزيرة كما صرح به ابن قتيبة في المعارف. أما (حسن البصري) فحدث عن البحر ولا حرج، يذعن له الملوك والسادة والقواد وعليه المعول وإليه المنتهى [١] . ذكر السخاوي في شرح ألفية الحديث للعراقي (طبع لكهنو صفحة ٤٩٨ و٤٩٩ أن هشامًا قال للزهري: من يسود أهل مكة؟ . قال: عطاء، قال: بم سادهم؟ قال: بالديانة والرواية، قال هشام: نعم من كان ذا ديانة حقت الرياسة له ثم سأل عن يمن قال طاؤس، وكذلك سأل عن مصر والجزيرة وخراسان والبصرة والكوفة فأخذ الزهري يعد أسماء سادات هذه البلاد وكلما سمى رجلاً كان هشام يسأل هل هو عربي أم مولى؟ وكان يقول الزهري: مولى، إلى أن أتى على النخعي وقال: إنه عربي. فقال هشام (الآن فرَّجت عني والله ليسودن الموالي العرب ويخطب لهم على المنابر والعرب تحتهم) . إن التابعين لهم أعلى محل في تاريخ الإسلام - ورأسهم سعيد بن جبير وهو أسود وقد ولاه حجاج بن يوسف إمامة الصلاة في الكوفة كما ذكره ابن خلكان في ترجمته والكوفة إذ ذاك جمجمة العرب وقبة الإسلام، وهل يصح بعد ذلك دعوى المؤلف أن العرب كانت تستنكف من الصلاة خلف الموالي. وهذا سليمان الأعمش أستاذ الثوري كان عبدًا عجميًّا وكان بمنزلة من العز والشرف أنه لما كتب إليه الخليفة هشام بن عبد الملك أن يكتب له مناقب عثمان ومساوئ علي أخذ كتاب هشام وألقمه عنزًا كان عنده وقال للرسول قل لهشام هذا جواب كتابك. ... ... ... ... ... ... ... (ابن خلكان ترجمة الأعمش)
وهذا حماد الراوية الذي دوَّن المعلقات وله المكانة الكبرى في الأدب والشعر كان عبدًا أسود وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره كما ذكره ابن خلكان. وهذا سالم بن عبد الله بن عمر كان ابن أمة ولما دخل الخليفة هشام بن عبد الملك المدينة أرسل إليه يدعوه فاعتذر فدخل عليه هشام ووصله بعشرة آلاف ثم لما حج ورجع كان سالم إذ ذاك مريضًا فذهب لعيادته ولما توفي صلى عليه وقال: لا أدري بأي الأمرين أنا أسر: بحجتي أم بصلاتي على سالم؟ ولو أخذنا في تعداد أمثال هذه الوقائع لطال الكلام ومل الناظرون. ويظهر مما مر عليه أن الموالي كانوا في أيام بني أمية بأعلى محل من الشرف والمكانة وكانت العرب تذعن لهم وتقدمهم وتقتدي بهم وترفع شأنهم، فهل يصح قول المؤلف بعد ذلك: إن الموالي وأبناء الإماء كانوا في عصر بني أمية مرذولين ساقطين يزدرى بهم ولا يقام لهم وزن وكان العرب وبنو أمية يعاملونهم معاملة العبيد؟ (لها بقية) ((يتبع بمقال تالٍ))