للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


تأريخ التجنيد العثماني [*]
كان قانون أخذ العسكر موضوع جلسة يوم السبت في مجلس الأمة كما يراه
المطالع في باب هذه المذاكرات من هذا العدد، وقد صدَّره قومسيون العسكرية في
المجلس بمقدمة تأريخية باحثة عن طرق التجنيد في الدولة منذ تأسست إلى يومنا
هذا فأحببنا اقتطاف المهم منها لمحبي التأريخ:
(إذا استثنينا الرومان فقلَّ أن نصادف في تأريخ عسكرية الأمم إشارة لوجود
أجناد دائمية منتظمة، وفي القرون الوسطى كان هذا الامتياز للعثمانيين وبعد قرن
من ذلك أسس شارل السابع ملك فرنسا أجنادًا دائمية.
كانت أجناد العثمانية إلى سنة ٧٣٠هـ، مؤلفة من المتطوعين وعبارة
عن جيش مؤقت يقبل فيه كل راغب من الشبان، لم يكن لباس الجند واحد بل
كان يلبس كل واحد ما يشتهي ويحمل السلاح الذى يريد، وكان الفرسان أسمى مقامًا
من الرجّالة، والأسلحة يومئذ عبارة عن الحسام والسنان والترس والقوس، وكان
هذا الجيش المتطوع يدعى (آقينجي) (معناه السيل الجارف) ويوجد غير هذا
الجيش جند يدعون العساكر الخاصة يقيمون دائمًا في قاعدة الحكومة.
فلما اتسعت الفتوحات لم يبق من الممكن الاكتفاء بذلك الجيش القليل
الصعب جمعه وترتيبه ومست الحاجة إلى إيجاد صنوف الرجالة ففي عهد السلطان
أورخان ائتمر أخوه الوزير الأعظم علاء الدين باشا وخليل باشا الجاندارلي ورتبا
خطة لإيجاد عسكر دائمي فوضعوا أساس الجند المسمى (يكيجرية) (معناه العسكر
الجديد وقد عربها العرب بكلمة إنكشارية) وأوجبوا أن يكون الزي العسكري مطردًا
ولموا في هذا الجيش من أولاد النصارى الذين أدخلوهم في طاعتهم.
قد نشأ بين الإنكشارية هؤلاء كثير من القواد البرية والبحرية الذين لا يبلى
ذكرهم ولم يكن في ذلك العهد جيش يضارعه عند أمة من الأمم.
وكان كبيرهم الأعظم يلقب آغا وهو في مقام ناظر الحربية، ومن عاداتهم
تقديس القدور التي يطبخ بها وهي تعطى لهم من قبل السلطان ويجتمعون حولها.
وكان من يبرز على أقرانه في الحرب والطعان من الرجالة والفرسان يكافأ
على ذلك متى بلغ الأربعين أو الخامسة والأربعين من العمر فيعطى من البلاد
المفتوحة خراج مقاطعة مثل لواء أو قضاء أو خراج قرية واحدة فقط، فما كان من
الإقطاع تبلغ وارداته من ٣٠٠٠ إلى ٢٠٠٠٠ أقجة يسمى تيمارا، وما كانت وارداته
من ٢٠٠٠٠ إلى ١٠٠٠٠٠ أقجة يسمى زعامة فكل ذي تيمار عليه أن ينفق عن
حساب كل ٣٠٠٠ أقجة على فارس قادر تام اللأمة، فإذا وقعت حرب كان هؤلاء
مع رجالهم المكلفين بنفقاتهم حاضرين مع الملك، ويسمى هؤلاء بالفرسان ذوي
الأطيان (الأراضي) وقد بلغ عددهم في عهد السلطان سليمان القانوني مائة وخمسين
ألفًا وفي عهد محمد الرابع بلغ عددهم مائة وتسعة وسبعين ألفًا ومائتين.
أما عدد العساكر في تلك الأمصار فكان هكذا: القبوقولي ٧٤١٤٨ والفرسان
أولو الأطيان مع فرسان الألايات الممتازة ١٧٤١٩٢ والعساكر البحرية ٥٥٧٢
المجموع ٢٦٣٩١٢ وأما القول بأن القانوني دخل بلاد المجر بثلاث مائة ألف مقاتل
معهم ٣٠٠ مدفع فهو من روايات المؤرخين الأجانب.
فى بدء أحداث الإنكشارية كان الواحد منهم يعطى في اليوم أقجة واحدة
والأقجة سكة عثمانية فضية وزن ثلث درهم فضة من عيار التسعين ثم تنزل
عيارها فاقتضى ذلك أن يزاد لهم إلى ثلاث أقجايات وفي أواخر القرن العاشر زيد
لهم إلى خمس وفي القرن الحادي عشر زيد لهم سبع ثم زيد لهم في أواخر أمرهم إلى
سبع وعشرين أقجة، في اليوم ولم يكن من مساواة في العطاء بل كان بعضهم يأخذ
أكثر من بعض، أما آغاهم فكان يأخذ خمس مائة أقجة في اليوم.
كان هذا الجيش أسمى جيش في الدنيا ولم يكن يؤب من فتح إلا إلى فتح آخر
حتى رفع مركز السلطنة العثمانية إلى الذروة العليا التي امتازت بها بين الدول
ولكن أمر الزمان عجيب فإن هذا الجيش الذي كان سبب هذه النعم العظيمة ما لبث
أن طغى واستكبر، واستولى عليه الغرور والأشر، فدخل عليه الفساد من كل باب
وتوصل إليه المكروه بجملة أسباب، فعاد شؤمًا على الدولة بعد أن كان يمنًا ,
وبؤسًا بعد أن كان نعمى، حتى بلغ بعد القرن الثاني عشر مبلغًا من تفكك الروابط
وشيوع الفوضى وقلة الطاعة وكثرة عدم المبالاة ليس ورائه مبلغ فأصبح بعد تلك
البسالة العظيمة التي امتاز بها يكثر فيه الفارون من مواطن الزحف حتى من أمام
الجيوش التي هي أقل منه عددًا.
وكانت العسكرية في أوربا قد بدأت تخطو خطوات واسعة في درجات الكمال
فيومئذ صرفت وجوه الآمال عن مغالبة الخصوم بالهجوم والفتوح وبقيت الأفكار
مشغولة بأمر الدفاع عما في اليد؛ لأن القوة العسكرية أصبحت على وشك الاضمحلال
ألبتة.
جال هذا الأمر في فكر سليم الثالث ونظر إلى عاقبة أمر الدولة إذا ظل زمام
المدافعة بيد هؤلاء الإنكشارية الذين كثر فيهم الفشل واستولى عليهم الخطل فتبدى له
رأي ونهض له بقوة: ذلك أنه أحدث عسكرًا على قواعد تناسب الزمان والمكان
وجعل له عنوان (نظام جديد) وجمع من هذا النظام الجديد ثلاثين ألفًا وعزم على
إلغاء الإنكشارية، ولكن هذا النظام الجديد لم يستطع الوقوف أمام بأس الإنكشارية
إلا نحو ست سنين ولم يتمكن سليم الثالث من تلك الأمنية العظيمة التي كان يتقاضى
الظفر بها بقاء الدولة.
لكن الذي لم يتيسر لسليم الثالث تيسر لمحمود الثاني الذي رأى أن إلغاء هذه
العساكر العظيمة بإصدار الأوامر ليس من الممكن، وأن هذا الأمر لا يتم إلا
بالتنكيل والتشريد بهم فاستفتى في قتلهم على إثر تمرد وبغي وطغيان فأفتي فيه
وتوسل إلى اجتثاث هذه الشجرة من أصلها بما هدته إليه الفطنة المتوقدة وكان ذلك
في يوم السبت في ١١ ذي القعدة من عام ١٢٤١ هـ - ١٧ حزيران ١٨٢٦م.
أما آغا الإنكشارية حسين آغا فإنه كان مقتنعًا بفوائد النظام الجديد فأعطي
لقب باشا ونصب سر عسكرًا ولقبت العساكر الجديدة بالعساكر المحمدية المنصورة
هكذا وضع أساس النظام الجديد لعسكريتنا وعلى هذا يكون عمر جيشنا الجديد سبعًا
وثمانين سنة.
ينقسم تأريخ الجيش الجديد إلى ثلاثة أدوار: الأول دور اللّم، والثاني دور
القرعة، والثالث دور التكليف العسكري، فالدور الأول من ١٢٤١ إلى ١٢٦٠؛
أي: عبارة عن تسع عشرة سنة كانوا يلمون العسكر ممن صادفوه من الشبان
الأقوياء لم يستأنس الناس في بدء الأمر بهذه الطريقة؛ لأنهم كانوا قد تعودوا رؤية
هيبة الإنكشارية وأنكروا من هذه الطريقة أنها من سنن الإفرنج.
ولم تكن مدة التجنيد معينة أيضًا وفي ١٢٤٤- ١٢٤٥وقعت الحرب بين
الدولة والروس (التي انتهت بمعاهدة أدرنه) فكان من البديهي أن لا تظهر الثمرات
المنتظرة من النظام الجديد لقصر المدة وفي تلك الأثناء أخذ بخدمة الدولة المارشال
مولتكه الذي ظفر في محاربة ثلاث دول في بحر ست سنين واطلع من إمارة
بروسيا الصغيرة إمبراطورية ألمانيا العظيمة ولكن حالت الحوائل دون الاستفادة
من خدمة هذا الرجل العظيم، فإن الدولة في تلك السنين كانت قد شغلتها حوادث
وحروب المورة والبوسنة والهرسك والتيه دلنلي ومحمد علي وكان عدد الجيش
الجديد هكذا: العساكر المنتظمة ٨٠٠٠٠ والرديف ١٣٠٠٠٠ والعساكر البحرية
٥٠٠٠ الجميع ٢١٥٠٠٠ وكان سوى هؤلاء نحو من عشرة آلاف من الخيالة
المنتظمة ونحو أربعة ألايات من الخيالة العتق.
وأتوا بعد ذلك بمعلمين من ألمانيا فحصل إصلاح في ترتيب الجيش ولكن
طريقة اللّم كانت لا تزال على حالها فلذلك لم تصل الإصلاحات إلى الدرجة
المطلوبة ودام الأمر على هذا المنوال إلى ١٢٦٠ ففي هذه السنة وضع أساس جديد
للدولة بمعرفة رشيد باشا الكبير وقرئ خط كلخانة الذي يتضمن هذا الأساس
فدخلت عسكريتنا الجديدة في دورها الثاني.
من هذا التأريخ ألغيت طريقة اللّم، ووضعت طريقة القرعة، وحددت مدة
العسكرية، ووضع قانون لأخذ العسكر على هذه الطريقة من قبل ضباط
بروسيانيين جعلت بموجبه خدمة العسكر الموظف خمس سنين والرديف سبعًا ومن
دخل في أسنان العسكرية تسحب قرعته فإن أصابته القرعة تلك السنة يؤخذ وإن لم
تصبه يترك إلى السنة التي بعدها، فإن لم تصبه مدة السنين الخمس يعفى من
الخدمة، وقد قسمت البلاد العثمانية إلى دوائر رديفية فأصبح للعسكرية نظام حقًّا،
وفي حرب القريم ظهرت ثمرات عظيمة من هذا النظام، وقسمت الأجناد كلها إلى
ستة كان كل جند (أردو) فيه حين السلم ستة ألايات رجالة وأربعة ألايات خيالة
وألاي واحد مدفعي سيار فكان عدد الأجناد حين السلم هكذا: النظامية ١٥٠٠٠٠
ونحو من ذلك عدد الرديف بحيث يتكون من النظامية والرديف وقت الحرب
٣٠٠٠٠٠.
وفي خط كلخانة يوجد نص على أنه يؤخذ للعسكر من غير المسلمين ولكن
اقتضاءات الزمان منعت من ذلك.
وفي عام ١٢٨٦ حدث تحوير في ترتيب العسكرية فجعلت مدة الخدمة ثلاثًا
للعسكر الموظف، وسنتين للخدمة الاحتياطية، وستًّا للخدمة الرديفية، وثمانيًا
للمستحفظية وكان عدد الأجناد في ذلك العهد هكذا: النظامية والاحتياطية
٢٣٧٠٠٠ والرديف ٣٥٠٠٠٠ أو يزيد على هذا المقدار، وكان عدد أجناد الدولة
كلها في زمن محاربة روسية ٧٥٩٠٠٠ ولكن لاستمرار الحرب ثلاث سنين
وضياع كثير من الأرواح تضعضع هذا الجيش ومست الحاجة بعد ذلك لتحويرات
فيه ففي عام أربع وتسعين حول اسم السرعسكرية إلى نظارة الحربية وقسمت
اللوازم والاستعدادات العسكرية إلى شعب ودوائر وأخذت الأجناد شكلاً آخر جديدًا
وفي عام ثمان وتسعين أتي بجماعة من ضباط الألمان من صنوف مختلفة في الجيش
الألماني وأخذت آراؤهم في الإصلاح العسكري وكان يرأسهم كيلر باشا، وبعد سنة
جيء بالبكباشي فوندرغولج باشا فأرشد هذا إلى طرق كثيرة للإصلاح العسكري
بالرغم عما كان يحول بينه وبين الإصلاح من الموانع التي هي معهودة ومعروفة في
ذلك العهد.
إلى هذا الرجل يُعزى النظر في ترتيب الدروس أحسن ترتيب في المدرسة
الحربية، وإليه يعزى السبب في تغيير طريقة القرعة ووضع قانون أخذ العسكر
المعمول به إلى عهدنا هذا.
أما حرمان أبناء وطننا غير المسلمين من خدمة العسكرية مع أن لهم حقًّا
بالشرف الذي يحصل من خدمة الأوطان فكان خطأً من حكومتنا لا يعفى عنه،
وكان من دواعي انكسار خاطر هؤلاء الشركاء في الوطن، والأغرب من ذلك حرمان
أهل هذه العاصمة من هذا الشرف أيضًا.
فمن موجبات الشكر أن أول شيء تفكرت فيه حكومتنا بعد التغير الجديد السعيد
في الوطن هو الإسراع لدفع هذا الخطأ المنافي للقانون الأساسي.
هذا هو تأريخنا العسكري ومنذ الآن سينال أبناء وطننا من غير المسلمين
نصيبهم من شرف الدفاع عن حياض الوطن، ويقفون مع زملائهم المسلمين صفًّا
واحدًا أمام كل عدو معرّضين حياتهم للمقاومة في سبيل مقصد واحد هو إعلاء شأن
الرابطة الوحيد التي تضم قلوب جميع العثمانيين حول وطنهم العزيز.