للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الكاتب: محمد رشيد رضا


احتفال الأرمن بذكرى شهداء الحرية العثمانيين

في اليوم الثالث من هذا الشهر احتفلت طائفة الأرمن في كنيستها بالقاهرة
بإحياء ذكرى شهداء الحرية من جميع العثمانيين. فحضر الاحتفال خلق كثير من
العثمانيين المقيمين بمصر، ومن المصريين، حتى اكتظت بهم الكنيسة على سعتها،
وبقي جمهور عظيم في رحبتها. وقد أقيم أمام محراب الكنيسة (المذبح) دكة
كبيرة على جانبيها رايتان سوداوان، بينهما راية بيضاء كتب عليها (إكرام شهداء
الحرية العثمانيين) ، ووضع عليها مقاعد للقسيسين والخطباء، ووقف من دونها
جوقة من بنات المدرسة الأرمنية , كن يلقين بين كل خطبة وأخرى نشيدًا مؤثرًا
وضع لهذا الغرض.
افتتح الحفلة عظيم القوم وأسقفهم، وتلته فتاة أرمنية بخطبة أحسنت إلقاءها،
فحسن وقعها، وخطب بعض فضلاء الأرمن بالأرمنية، وبعضهم بالتركية،
فأحسنوا وأجادوا وصفق لهم القوم تصفيقًا. وخطب الدكتور شرف الدين بك، أحد
مسلمي الترك الأحرار، وهو من أفضل من عرفنا أخلاقًا وآدابًا، فذكر ما كان بين
المسلمين والأرمن من المودة، قبل حوادث الأرمن المشئومة المعروفة، حتى كان
مما قاله، أن المسلم كان يدعى إلى الخدمة العسكرية، فيذهب إليها تاركًا امرأته
وأولاده وأملاكه إلى جاره الأرمني، يتعهدها في غيبته بما يجب، كما كان الأرمني
يفعل مثل ذلك إذا احتاج إلى مغادرة مكانه لأمر ما. ثم ألم بذكر ما جرَّ إليه الاستبداد
من تلك الحوادث المشئومة واستطرد منها إلى ذكر الإصلاح الذي نشده الأحرار
فأصابوه، وقال: إن المسلمين من الترك وسائر العثمانيين ليسوا متعصبين كما
يصورهم بعض الناس، فإن أول حركة أتوا بها بعد أن نالوا الحرية في عاصمتهم،
هي زيارتهم لأضرحة الذين قضوا ضحية للظالمين.
وبعد أن أتم خطابه التفت إلى أسقف الأرمن ومَنْ بجانبه من القسيسين فعانقهم
واحدًا بعد واحد، فصفقت الجماهير لهذا المنظر أضعاف تصفيقهم الكثير للخطيب.
ثم خطب الدكتور برتوكاليس بك الرومي العثماني باللغة الفرنسية، فالدكتور
فارس أفندي نمر بالعربية، فأحسنا وأجادا، وكان كل أولئك الخطباء قد عهد إليهم
بالخطابة، وكتبت أسماؤهم في البرنامج المطبوع في بيان ترتيب الاحتفال.
كادوا يختمون الاحتفال بعد خطاب فارس أفندي نمر، لولا أن اقترح بعض
المصريين الحاضرين على صاحب هذه المجلة الصعود إلى الدكة وإلقاء شيء مما
يفتح عليه به. وقد تمنعت معتذرًا بأن الاحتفالات المنتظمة التي يعين فيها عدد
الخطباء وموعد الإلقاء لا يحسن أن يُتطفل عليها، ففطن لذلك بعض العثمانيين من
الأرمن وغيرهم، فاختطفوني من مجلسي وأصعدوني إلى دكة الخطابة، فتلقاني
الأسقف والقُسوس بالحفاوة، وبعد العناق الْتَفَتُّ إلى الجمهور إجابة لما اقترحه
المقترحون , وقلت والتصفيق والهتاف يكاد يبلغ عنان السماء ما خلاصته:
قد رأيتم أيها السادة أنني اختُطِفْتُ من مكاني إلى هذا الموقف الذي أثر في
وجداني تأثيرًا لم يدع لتصور الكلام وتدبيره مجالاً، فمهما سمعتم مني فأنا معذور
بالتقصير فيه.
قد رأيتم أنني عانقت هؤلاء الأحبار والقِسّيسين، وأنا رجل من رجال الدين
الإسلامي، ولا بدع في ذلك، فإن شيخنا الأكبر شيخ الإسلام قد سبقني إلى ذلك،
فعانق البطرك في دار السلطنة، وإن القانون الأساسي الذي نلنا به هذه المساواة التي
نحتفل بها لم ننله إلا بمساعدة شيخ الإسلام الحال، فقد روي لنا أن السلطان كان
يريد قمع الحركة العسكرية الطالبة للدستور بالقوة، فاستفتى شيخ الإسلام في ذلك،
فلم يفته، بل قال: إن قتالهم غير جائر شرعًا؛ لأنهم يطلبون طلبًا شرعيًّا. وقد
كان أحد مشايخ الإسلام من واضعي هذا القانون مع مدحت باشا وإخوانه، فهذا
القانون قد وضع بفتوى من أحد شيوخ الإسلام، وأعيد الآن بمساعدة شيخ الإسلام،
فهو موافق للإسلام.
لا أقول هذا تقليدًا للشيخين، فإنني أقول ما أقول في الإسلام عن علم وبصيرة،
ويعلم كثير من الأرمن الحاضرين أنني من مؤسسي إحدى جمعيات الأحرار التي
سبقت غيرها إلى التأليف بين جميع العثمانيين بالفعل، قبل أن تفكر في ذلك
جمعياتنا في أوروبا، بل إن هذا الفقير هو رئيس اللجنة المؤسسة لهذه الجمعية التي
من بعض أعضاء إدارتها أحد خطباء الأرمن النجباء في هذا الاحتفال.
وإنما احتججت بشيخ الإسلام السابق، وشيخ الإسلام الحال، تنويهًا بفضلهما،
وإقامة للحجة على من يزعمون أن المسلمين متعصبون أو أن دينهم ينافي الحرية
والمساواة - وعلى بعض الجاهلين من المسلمين الذين يظنون أنهم بالتعصب الذميم
يخدمون الدين، وإنما هم يَجْنُون عليه بذلك.
ثم انتقلت إلى الكلام عن المساواة التي ابتهج بها العثمانيون كافّة، وبينت أنها
مما جاء به الإسلام، ثم قلت:
يقولون: إن فرنسا هي أم الحرية والمساواة. نعم، ولا ينكر فضل فرنسا أحد،
ولكن العثمانيين أجدر من الفرنسيين بالفخر بالمساواة. إن فرنسا أمة واحدة،
جنسها واحد، دينها واحد، مذهبها واحد، لغتها واحدة، تربيتها واحدة، فأي غرابة
في طلب عقلائها وفضلائها المساواة بين أفرادها بعد أن عرفوا ما لهم على حكومتهم
وما عليهم لها، بل ما ينبغي أن تكون عليه، وهم متفقون في هذه الوحدات كلها؟ لا
غرابة ولا عجب.
أما نحن العثمانيين، فإننا قد جمعنا من أشتات الأجناس المتفرقين في كل شيء
ما لم يجتمع في مملكة أخرى. نحن متفرقون في الأجناس والأنساب، متفرقون في
اللغات، متفرقون في الدين، متفرقون في المذاهب، متفرقون في طرق التربية
والتعليم - أو نقول في الجملة: إننا متفرقون في كل شيء يتفرق فيه الناس، فإن
كنا على هذا كله نطلب المساواة ونحتفل بنيلها في المعاهد العامة والمعابد الدينية،
فلا شك أن في هذا مجالاً للفخر وموضعًا للعجب.
وقد يتساءل عن سبب ذلك , ويظن أنه مخالف لقوانين الاجتماع الإنساني،
لا سِيَّمَا بعد أن برَّح الاستبداد بنا تبريحًا زاد في مسافات الخلف بين الطوائف
والملل اتساعًا، وملأ القلوب إحنة وبغضاء.
ولكن المتأمل في ذلك يرى له سببًا طبيعيًا ظاهرًا، وهو ذلك الاستبداد الذي
زاد في التفريق والتمزيق، ذلك الاستبداد نفسه هو الذي مزقنا أولاً , ثم جمعنا ثانيًا.
كيف كان هذا؟ إنما كان بالمساواة في الظلم، وتعميم الاستبداد، فلولا أن
الاستبداد كان عامًّا، واقعًا على جميع العثمانيين بالمساواة في الجملة، لما كان
الاندفاع إلى طلب المساواة بالدستور عامًّا.
كان ظلم الاستبداد واقعًا على رأس المسلم والنصراني وغيرهما، كان عامًّا
شاملاً، للتركي والعربي، والأرمني والكردي، والألباني والرومي، فهذه المساواة
هي التي جمعت كلمة الأحرار العقلاء من جميع هذه الطوائف على تمني المساواة
في العدل الذي قرره الدستور، وهو الذي نهض بهمة العاملين من هؤلاء الأحرار
إلى طلب ذلك بكل وسيلة ممكنة، وهو الذي هز أريحية جميع العثمانيين للاحتفال
بالدستور بعد الظفر به، بسعي جمعياتهم وقوة ضباطهم وجيشهم - فإذا كانت
المساواة في الشر قد أدّت إلى هذا الخير، فما أعظم فائدة المساواة، وما أعَمَّ بركتَها؛
فحيا الله المساواة.
فنحن العثمانيين جديرون بالفخر بالدستور إذ غلبنا الأهواء والموانع الناشئة
من اختلافنا حتى نلناه، جديرون بالاتفاق على الاحتفال به وإقامة الأعياد العامة له،
جديرون بالمحافظة عليه، جديرون بالتنويه بالأحرار الذين نجحوا في نيله،
وبالدعاء والذكر الحسن لمن مات منهم شهيدًا في سبيله.
ثم اعتذرت عن الإطالة بذهاب الوقت المعين، وبما ألم بالحاضرين من الجوع
والسآمة , وقد كان لكلام هذا العاجز من حسن الوقع والتأثير فوق ما يستحقه؛ دل
على ذلك ما ظهر على وجوه الحاضرين، ولما كان من شدة التصفيق وتكرره، ثم
التهاني التي سمعتها في الكنيسة وبعد الخروج منها، في ذلك اليوم وبعده بأيام،
وكان أكثر المهنئين تلطفًا في التهنئة وإطراءً في الثناء، أولئك الخطباء البلغاء الذين
سبقوني بخطبهم المفيدة، كالدكاترة شرف الدين بك، وبرتوكاليس بك، وفارس
أفندي نمر، حتى قال هذا الأخير: إن تأثير هذه الوقفة أعظم من تأثير المنار في
عشر سنين، أي فيما يتعلق بمشرب المنار في التساهل والدعوة إلى الوفاق والوداد
بين المسلمين وغيرهم. وممن كرر لنا التهنئة بذلك الدكتور نجم الدين بك عارف،
من فضلاء الترك المقيمين بمصر، والعارفين بالعربية، وجمهور أحرار الأرمن؛
بل كان ابتهاج هؤلاء عامًّا، فنسأل الله تعالى أن يديم علينا معشر العثمانيين نعمة
الوفاق والتوفيق لحفظ الدستور والاستفادة التامة منه.