نبذة من مناظرة خيالية للسيد جمال الدين قال جامع هذه الطائفة من المقالات الجمالية بعد المقالة الثالثة: ثم انتقل (السيد) حفظه الله من لندن بعد نزوله بها بخمسة عشر يومًا إلى باريس عاصمة الفرنسيس , وكان ذلك في شهر يناير سنة ١٨٨٣ عربية فتلقاه أهلها بالقبول والإقبال , ولم يَدَعوه يأخذ راحته حتى التمس أصحاب جرائدها العربية من حضرته أن يطرز جرائدهم بشيء من غرره. وقد وقفنا له على فصل من ذلك في جريدة (أبو نظارة زرقاء) , وكانت تفرغ الجد في قالب الهزل , ولكنها لم تستوعب الفصل لضيق مجالها بل وَعَدَتْ باستيفائه على التدريج في أعدادها التالية , إلا أننا لم نقف لها على غير ذلك العدد لعسر الحصول عليها؛ بسبب منع دخولها في البلاد التي نحن فيها , وعلى ذلك أثرنا عنها الشذرة التي تضمنها ذلك العدد من الفصل المذكور؛ حرصًا منا على التقاط فوائد أستاذنا , قال متعنا الله بطول حياته: فقال صاحب المقالة: إنكم قد ضللتم عن رشدكم، وتُهتم في بيداء غِوايتكم، وما يقوم لكم دليل في تقاعسكم عن الذود عن أوطانكم، ولقد غلب عليكم الجبن، واستولى عليكم الضعف، وأضعف جمانكم الخوف والخشية، ألا ترون أن كل أمر صعب عند الشروع فيه؟ ، أفلا تشعرون أن صعوبة المسالك بمقدار عظم المقاصد؟ وأن الراحة محفوفة بالمشاق، وأن أفضل الأعمال أحمزها [١] أفترضَون بالعبودية للأجانب، والاستكانة للأباعد، وإن موت المرء خير من بقائه في هذه الدنيا مع قلة مدتها وسرعة زوالها، رقًّا لا يملك من الأمر شيئًا. أتظنون أن هذا التعلل يدفع عنكم غضب رب الجنود، لا وحقه إنكم إن لم تدافعوا عن أوطانكم بنفوسكم وأموالكم لا تنالون منزلة لديه، ولا تجدون مخلصًا من سخطه، وتبقون في ذل العبودية ما دامت الأرض باقية (وكل عذاب دونه لحقير) فتشجعوا وثبتوا أقدامكم، وسكنوا روعكم، واعلموا أن الظفر مقرون بالصبر، وأيقنوا أن الراحة والسعادة في أثر المشقة، وأن سنة الله قد جرت من الأزل، أن لا ينال الإنسان مرغوبه إلا بعد التعب، فلا تقدموا هذه الحجج الداحضة، ولا تظهروا الفشل في طلب حقوقكم، ولا تتسربلوا الجبن فإن كل جبان محروم، فاسعوا في اتفاق كلمتكم، واجعلوا صدوركم مِجنًّا لسهام أعدائكم، مجدين في خلاص بلادكم، واعلموا أن الأمم الغابرة والحاضرة ما نكست رقابها ولا كسرت أطواق العبودية إلا بتحمل المشاقّ والخوض في غمرات الموت اهـ. *** كتاب له في الدفاع عن الدولة العثمانية (٥)
وكتب حفظه الله إلى صاحب جريدة البصير التي تطبع بباريس عاصمة الفرنسيس , وهو يومئذ لم يزل نزيلها , وذلك في فبراير عام ١٨٨٣ غربيًّا وربيع الأول سنة ٣٠٠ هجرية قال جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا: سيدي الخليل بما فُطر عليه من العقل الغريزي الذي دلت عليه عقائل فكاره، وأنبأت دقائق أفكاره عن فسيح مجاله وسعة مضماره، كان الواجب عليه قبل الخوض في أحوال الشرق والسلوك في بيداء سياسته، وهتك الستر عن قبائح رعاته وشنائع ساسته، أن ينظر ببصيرته الوقادة إلى ما أَلَمَّ بالشرقيين من البلايا، وما أحاط بهم من الرزايا، فإنهم لتفريطهم في إصلاح شؤونهم من قبل قد أشرفوا على الهلاك، وصاروا بعجزهم عن صيانة حقوقهم غرضًا لكل نابل، وطُعمة لكل آكل، تستملك الأباعد بلادهم، وتستعبد رجالهم، وتستلب أموالهم، ولا ريب أن الأمة الخاضعة للأجانب لا يمكنها العروج إلى مدارج الكمال , التي لا تُنال إلا بهمة عالية تأبى العبودية، ولا نجاة لهم من هذه المصيبة التي تقهر النفوس، وتوجب الذل والخمول، إلا بالتفافهم تحت راية واحدة على الذود عن حقوقهم، من دون ملاحظة الاختلاف في الجنسية؛ لأنهم بتقارب أخلاقهم، وتلاؤم عاداتهم، وتوافق أفكارهم، صاروا كأنهم جنس واحد، وإن اختلفت لغاتهم فخضوع بعضهم لبعض مع تناسب طبائعهم لا يبعث على الذل والاستكانة، ولا يزيل النخوة التي هي الداعية إلى كل فضيلة وكمال، وإذا تفرقت كلمتهم، وتشتَّتت قوتهم، لا يمكنهم الخلاص من مخالب الذين ينتهزون الفرصة لاسترقاقهم، فيجب على كل شرقي دفعًا لهذه النازلة، وصيانة لأمته من ذل العبودية، أن يسعى جمعًا للكلمة في تشييد مباني الحكومات الباقية في الشرق، فإن الأجانب ما وضعوا أيديهم على بلد إلا عاملوا أهله معاملة الآلة، ولهذا يمكنني أن أقول: إن سيدي الخليل في مقالاته التي حررها إنهاضًا لهمم الأمة العربية , وإن كان ما أراد منها الأخير أبناء جنسه، قد حاد عن صراط السياسية القويمة بتعرضه للدولة العثمانية، وكان عليه أن يفقه أن هذه الدولة في هذه الأيام، بمنزلة نظام لأجناس مختلفة من الشرقيين يحفظها عن التفرق والضياع، ويمكِّن كل جنس منها أن يسعى رويدًا رويدًا في إصلاح شؤونه، ويرتقي إلى مدارج عزه، على حسب كده وجده , وإذا انقطع هذا النظام وتفرقت الكلمة، وتشتت الجمع، واستقلت كل طائفة بأمرها فإنها لا تستطيع وقتئذ صون نفسها عن تطاول الأجانب، ولا تطيق مقاومة الأباعد الذين لا يريدون إلا استعبادهم، فيصبح كل هذه الأجناس عبيدًا أذلاء لا يملكون من أمر أنفسهم شيئًا، فلا يُنتظر لهم إذًا كمال، ولا يرجى لهم فلاح أبدًا، وربما اضمحلت جنسيتهم التي نيطت ببقاء لغتهم، وهذا الموت الذي لا بعث بعده ما دامت الأرض دائرة , ولا أشك أن سيدي الخليل لو لمح ببصره لرآني محقًّا في مقالتي هذه، ورجائي منه بعد الإغماض عما جرى به قلمي أن يتخذ لكبح شِرَّة الأجانب اتفاق كلمة العثمانيين مسلكًا لجريدته الغراء , ويبني خدمته لعموم الشرق على أساس سياسته،لا زال هاديًا للعباد إلى سبيل الرشاد اهـ. قال جامع المقالات: وقد كانت هذه الرسالة سببًا في عدول تلك الجريدة عن مشربها الأول , إذ كانت شديدة الانحراف على الدولة العثمانية كما هو مذهب كثيرين من بعض الطوائف المستظلين بظلها لا زال وارفًا, ثم استقامت واعتدلت بعد أن التمست لنفسها العذر عما كان من رأيها فيما أجابت به أستاذنا، ثبتها الله على صراطها الأخير وألحق أمثالها بها، وأكثر في المسلمين من مثل سيدنا وأستاذنا وأطال بقاءه للدين والدنيا.