طواف الإفاضة: بعد ذلك ركبت دابتي وقصدت مكة المكرمة فطفت طواف الإفاضة وهو طواف الركن الذي لا يتم الحج بدونه، وفي أثناء طوافنا شرع أهل مكة في صلاة العيد ورأيت الأمير يصلي معهم مأمومًا. وكان الرجال يصلون في الجهة الغربية من الكعبة المعظمة والنساء في الجهة الجنوبية وهن كثيرات جدًّا، ثم سعينا بين الصفا والمروة وهو من أركان الحج وقد سعيت في هذه المرة ماشيًا. وقد اختلفت الروايات: هل طاف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الصفا والمروة في حجة الوداع مرة أو مرتين؟ ففي حديث جابر عند مسلم أنهم طافوا بينهما مرة واحدة قبل عرفة، وفي حديث عائشة أنهم طافوا مرتين أي عند القدوم وبعد طواف الإفاضة، ورجح المحققون من علماء الحديث رواية جابر، وقالوا: إن ما ذكر في حديث عائشة مُدْرَج من كلام الزهري لا من كلامها، فمذهب المحدثين أن السعي لا يتكرر، ويقول كثير من الفقهاء: إن لكل نسك سعيًا لا يُسقطه السعي بعد طواف القدوم، وإن السعي للعمرة لا يغني عن السعي بعد طواف الإفاضة للحج، ولم يصلِّ النبي صلى الله عليه وسلم العيد يوم النحر بمكة ولا بمنى، كما أنه لم يصلِّ الجمعة بعرفة؛ لأنه مسافر، ولم يكن يصليهما في السفر، وقال بعض العلماء: إن رمي جمرة العقبة للحاج كصلاة العيد لغيره فصلاة العيد لا تُطلب منه، وإن كان مكيًّا. ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لإقامة السنة على الوجه الأكمل في حجة أخرى أو حجات كثيرة. هذا، وإنني بعد الطواف والسعي جئت منزلنا بمكة واستحضرت حلاقًا فأخذ شعر رأسي كله بالآلة المعروفة بالمكنة أخذًا أقرب إلى الحلق منه إلى التقصير ثم عدت إلى منى وقد تحللت من الحج تحللاً كاملاً، ولله الحمد أولاً وآخرًا، وإياه نسأل أن يجعله حجًّا مقبولاً وسعيًا مشكورًا. وقد بقي من أعمال الحج التي لا يُشترط فيها الإحرام. رمي بقية الجمار وذبائح النسك: الجمار بالكسر والجمرات بالتحريك: جمع جمرة وهي في أصل اللغة: واحدة الجمر من النار، والحصاة، والقبيلة التي تصبر لقراع القبائل، وكل قوم يصبرون لقتال مَن قاتلهم لا يحالفون أحدًا، ولا ينضمون إلى أحد. قيل سميت جمرات المناسك بمنى بهذا الاسم؛ لأنها تُرمَى بالجمار أي الحصى، وقيل لأنها مجمع الحصى التي ترمى شبهت باجتماع القبيلة على مَن ناوأها. وقال أبو العباس: أصلها من جمرته ودهرته إذا نحيته، والتجمير: رمي الجمار، والمجمر (كالمعظم) : موضع رمي الجمار. فأما جمرة العقبة فهي في عقبة منى التي ينحدر منها السائر إلى مكة على جانب الطريق، وأما الجمرة الوسطى والصغرى فهما في وسط الطريق الذي يشق منى نصفين، وتعرف مواقعهما من صورة منى (خريطتها) وفي موضع كل من الوسطى والصغرى بناء يقرب من شكل المنارة أو المسلة، قليل الارتفاع، حوله حظيرة مستديرة، وكانت دارنا عند الجمرة الوسطى من جهة الشمال، وهي أفسح دار هنالك. وقد بينا كيفية رمي الجمار وحكمته في مناسك الحج، كما بينا حكمة ذبائح النسك. وكنا نذبح كل يوم من أيام منى فنأخذ حاجتنا ليومنا، ونتصدق بالباقي، وقد كانت الذبائح في السنين الخالية تزيد على حاجة أهل البلاد ومَن حولهم من الأعراب لكثرتها، وأما في هذا العام فهي لا تكاد تكفي فقراء الحرم. ((يتبع بمقال تالٍ))